وليم شكسبير: حياته وأدبه
شاعر ومسرحي إنجليزي . ولد في الثالث والعشرين من أبريل 1564 أو قرب ذلك التاريخ في مدينة ستراتفورد أون أفون . والثابت أنه عُمد فيها في السادس والعشرين من نفس الشهر . كانت ستراتفورد يومئذ مدينة تجارية مزدهرة ، وواحدة من أهم مدن مقاطعة ورويك شاير . وكان جون شكسبير والد الشاعر ذا مكانة ما في مجتمع تلك المدينة ؛ فهو يصنع القفازات ، ويتاجر في المصنوعات الجلدية ، ويملك عددا من البيوت إلى جانب عضويته
في مجلس المدينة . تزوج جون ماري أردن إحدى بانت ألمع أسر ورويك شاير ؛ لذا كان شكسبير ينتمي إلى ما نسميه الآن الطبقة الوسطى . ولنا أن نفترض أنه تلقى تعليما يناسب زمانه ومكانته الاجتماعية مع أنه ترك المدرسة في وقت مبكر . وتدلنا قولة بن جونسون : " إن شكسبير تعلم القليل من اللاتينية والأقل من اليونانية "
على أنه عرف بعض اللاتينية واليونانية خاصة أن هذه القولة جاءت من عالم كلاسيكي ضليع مثل بن جونسون .
رويت أساطير كثيرة عن حياة شكسبير في الحين الممتد من تركه المدرسة حتى ظهوره في لندن ممثلا وكاتبا مسرحيا . ودحضت النظرية التي تقول إنه غادر ستراتفورد مجللا بفضيحة سرقة غزال من حديقة السير توماس
لوسي وذلك حين وضح أن لوسي لم تكن له حديقة غزلان . والمؤكد أن شكسبير تزوج في 1582 وهو في الثامنة عشرة ماري هاثاواي وهي في السادسة والعشرين ، وأنه ولد له منها سوزانا ( 1583 ) والتوءم هامنت
ويوديت ( 1585 ) ؛ لذا من العدل أن نجزم أنه كان في ذلك الحين في ستراتفورد وعلى مقربة منها ، ثم يلف سجل حياته غموض مطبق بعد ذلك الحين وإن كان من المؤكد أنه اكتسب معرفة واسعة من قراءة الكتب وعرف الكثير عن دنيا الناس في تلك السنوات . والحق أن مؤلفاته إنما هي من صنع إنسان علم نفسه بنفسه إلى حد كبير ، إنسان التقط من الحياة ما يعنيه ، وكان ما يعنيه فيها كثيرا . كان روبرت جرين هو الذي كتب أول إشارة إلى شكسبير الممثل والمؤلف المسرحي وهو على فراش الموت سنة 1592 ، قال : " ثمة ديك طالع يزدان بريشنا
، ويحسب أنه قادر كذلك على تنميق الشعر المرسل أفضل منكم جميعا ، ويرى أنه " شيك " المسرح الجديد الوحيد " ، وهذه الفقرة تبين أن شكسبير كان حينئذ قد رسخ قدميه في المسرح ، ولكن ماهو ذلك المسرح ؟ ومن
هم أصحابه ومنافسوه فيه ؟
المسرح الإليزابيثي .
في 1583 كان ثمة الكثير من فرق التمثيل يرعى كل واحدة منها نبيل . وفي تلك السنة تطوعت فرقة " رجال الملكة " لتقديم عروض مسرحية على خشبة المسرح الملكي خاصة في عيد الميلاد ، وفي أحيان أخرى كانت
الفرقة تمثل في الساحات الداخلية في المقاطعات وفي مسارح لندن القليلة التي كانت تبنى عادة على الضفة الشمالية لنهر التايمز تهربا من النظم الصارمة التي يفرضها مجلس المدينة . إن معرفة بناء تلك المسارح المبكرة
مهمة لفهم المسرح الذي كان شكسبير يفكر فيه أثناء كتابته لمسرحياته ؛ فقد بنيت تلك المسارح حول فناء توجد
على ثلاثة من جوانبه عدة صفوف من القاعات . ويختلف تصميم هذا البناء عن تصميم الأوبرا الكلاسيكية وإن
أشبه في كثير من الخصائص أفنية الخانات القديمة ذات القاعات . ويتصل الجانب الرابع من خشبة المسرح
بالفناء . وفي وسع المشاهدين الجلوس على الجوانب الثلاثة لتلك الخشبة . وثمة بابان على كلا جانبي الجدار الخلفي للخشبة : باب للخروج وباب للدخول ، وبين هذين البابين خلوة عليها ستارة للمشاهد الداخلية الحميمة
، وغرف نوم ، وكهوف ، وما سوى ذلك . وفوق هذه الخلوة قاعة صغيرة تمثل الشرفات ، والنوافذ العلوية ،
وجدران المدينة ... إلخ . وكانت هناك مناظر قليلة وأحيانا لم تكن هناك مناظر ؛ لذا كان الأمر يترك للمؤلف المسرحي ل " يرسم " مناظر مسرحيته بعبارات الوصف الواضح . وكان مؤلفو المسرحيات للفرق في ذلك الزمان _ سواء منها الشفوي أم التحريري _ من خريجي الجامعات . ومن أبرزهم جون لايلي وجورج بيل
وتوماس ناش وروبرت جرين . وكان من أهل المعرفة البارزة في الكتابة المسرحية كاتبُ المأساة توماس
كيد مؤلف مسرحية " مأساة أسبانية " ذات الشعبية العريضة ، وكريستوفر مارلو الذي كان لأشعاره ذات
الرنين قوة لم تعرف من قبل . وفي 1593 كان شكسبير يمثل في فرقة " رجال تشامبرلين " حديثة التكوين
، ولعله كان مساهما ماليا فيها . وبقي مع ممثلي الفرقة التي توالى نجاحها في وجه كل المنافسين بما في ذلك
فرق الأولاد الذين شكلوا تهديدا للممثلين المحترفين في نهاية 1590 . وعندما ولي جيمس الأول العرش في
1603 صارت فرقة شكسبير في كنف رعايته وبدلت اسمها إلى " رجال الملك " . إن مهنة المسرح المضنية
في ذلك الزمان جعلت شكسبير حريا بثناء بن جونسون عليه حين نعته بأنه : " أمين وصريح وحر النفس " .
أوائل مسرحياته .
سجل مسرحيات شكسبير الأولى ليس واضحا وإن كان المؤكد أن بعضها كتب في زمن مبكر جدا من حياته ،
وربما كتبت أولى محاولاته في المسرحية التاريخية ( وهي الأجزاء الثلاثة من مسرحية " هنري السادس " )
في الزمن الواقع بين عامي 1590 و1592 مع أن هذه الأجزاء ليست خاضعة لتسلسل تاريخي . وتكشف المسرحية عن تناول شكسبير لمادة صعبة ؛ فسلسلة الحوادث مسرفة الطول والتباين بحيث يصعب انسباكها
في وحدة مسرحية بيد أن شكسبير كان يتمتع في ذلك الحين بحس مسرحي نادر إلى جانب قدرته على تنميق
الشعر المرسل وإن وجدنا أن شعره وحدثه المسرحي كانا ما يزالان فاقدين للحيوية عند موازنتهما بمجهوداته
المتأخرة . وكانت محاولته الثانية في المسرح التاريخي هي مسرحية " ريتشارد الثالث " ( 1592 _ 1593 )
التي دلت على تقدم كبير في سبك الشعر بالحدث المسرحي ، أضف إلى ذلك أن البطل الذي أبدعه في المسرحية
كان شخصيته العظيمة الأولى التي وإن تكن خذولا شريرة فإنها كانت باسلة ووطنية وعبقرية تقريبا . ولعل مسرحية " ملهاة الأخطاء " تعود إلى نفس الموسم المسرحي الذي ظهرت فيه مسرحية " ريتشارد الثالث " ؛ إنها
مسرحية التقمص الشخصي والكيد التي احتذى فيها شكسبير مثال الكاتب المسرحي الروماني بلوتس الذي كان المثال المحتذى في الملهاة الإليزابيثية مثلما كان سينيكا المثال المحتذى لمسرحية المأساة الإليزابيثية . وكانت مسرحية " تيتوس أندرو نيكوس " أول محاولة شكسبيرية لاحتذاء مأساة سينيكا ، ويرد بعضهم تاريخها إلى 1593_ 1594 ، ولعلها كتبت قبل ذلك بخمس سنين في القليل . وإن ما في هذه المسرحية من عنف وبربرية
ووحشية ليفزع ذوق الإنسان المعاصر فزعا شديدا وإن أحبها جمهور المشاهدين في ذلك الزمان . والثابت أن
شكسبير وهبهم قدرا كبيرا من الرعب الذي أحبوه . وثمة ملهاة أخرى تنسب إلى الفترة المبكرة في حياة شكسبير
هي مسرحية " ترويض الشرسة " ( 1593 _ 1594 ) يدين فيها شكسبير مرة أخرى إلى بلوتس ، وهي أقسى
كثيرا من " ملهاة الأخطاء " إلا أن تأثيرها المسرحي كان هينا . وجاءت مسرحية " سيدان من فيرونا " أكثر
رومانتيكية ، واستعمل فيها شكسبير ثانية أسلوبي الاستخفاء والتقمص الشخصي ، وابتدع في شخصيتي
لونس وسبيد مثالين مبكرين لمهرجيه المتميزين بالثرثرة . وربما كانت تلك المسرحيات هي التي بنى عليها
شكسبير منزلته حين بدأ العمل مع فرقة " رجال تشامبرلين " ، وليس بينها واحدة من خيرة أعماله وإن كانت جميعها حسنة الصنعة . ويسترعي الانتباه فيها تنوعُها . لقد تحدى شكسبير بها الكتاب الراسخين ، تحداهم في الشكلين المسرحيين السائدين في ذلك الزمان فماثلهم على الأقل في المستوى . وكان اكتسب في السابق من نماذجه المحتذية بغيره كيفية بناء المسرحية ، وهو وإن ظل تقليديا إلا أنه عالج أساليب التقليد بدهاء وحذق .
وكان شعره بلغ منزلة رفيعة من الجودة بز فيها كل الشعراء باستثناء بدائع مارلو . وكذلك عززت منزلته بقصيدتين قصصيتين طويلتين هما " فينوس وأدونيس " ( 1593 ) و " اغتصاب لوكريس " ( 1594 )
وكلتاهما موجهة إلى لورد ساوث هامبتون . كان شكسبير محبا للغة ، وسيدا للشعر الغامض المفعم بالإحساس
صرح صامويل تيلور كوليردج : " من شأن شكسبير أن يكون شاعرا عظيما حتى لو لم يقدر لأي من مسرحياته البقاء " . ومرجع هذه العظمة إلى خصائص شعره وإلى بنية قصائد ذلك الشعر . توفي الشاعر المسرحي مارلو في 1594 ، وفي 1598 كان شكسبير هو الأروع بين الشعراء الإنجليز في نوعي الفن المسرحي أي المأساة
والملهاة . وكانت مسرحية " ضياع جهد الحب " ( 1594 _1595 ) من المسرحيات التي نالت الإطراء في ذلك الزمان ، وبز فيها لايلي خيالا ورشاقة وخفة روح حتى وهو يهزأ بالحذلقة . ومن المآسي التي ألفها مأساة " روميو وجوليت " التي ربما ترجع إلى نفس السنة التي ظهرت فيها مسرحية " ضياع جهد الحب " . و " روميو
وجوليت " قصة حافلة بالعطف ذات نهاية مأساوية أكثر مما هي مأساة في ذاتها وإن لم يكن شكسبير أرق في أي
من مسرحياته الأخرى مما هو في هذه المسرحية التي عاشت مفضلة من كل الناس .وفي السنة التالية توج إنجازه
في ميدان الخيال الخفيف بمسرحية " حلم ليلة صيف " .
المسرحيات التاريخية .
إنه لدليل جلي على عقلية شكسبير المتنوعة الفذة أن يبتدع لعبة الحلم الأخاذة في نفس السنة التي كتب فيها مسرحية " ريتشارد الثاني " إذ تعتبر شخصية ريتشارد أعقد شخصيات شكسبير حتى ذلك الحين فهو حاكم
في شخصية ذلك الملك الضعيف كل قيم " العالم الشامل الكراهية " ، وتنبأ بأن الخراب سيعقب تحطم النظام
والانسجام في المملكة . وفي السنة التالية ، أي 1596 _ 1597 ، ظهرت مسرحية " الملك جون " المغايرة لمسرحياته التاريخية رغم نجاحه في إعطاء تلك المسرحية قدرا عادلا من الوطنية . ولعلها أن تكون صياغة
معادة لمسرحية سابقة أو تسجيلا لا شكل له جسد فيه مصير الشاب آرثر مدار الشفقة إلا أن شخصية ابن الحرام
الكبيرة وهبت العمل بعض القوة . كتبت مسرحية " الملك جون " في نفس زمن كتابة مسرحية " تاجر البندقية "
وهي مسرحية تجمع بين الجهامة والرومانسية ، هي لعبة رشيقة يظلها الخطر ، وتمثل شخصية بورشيا فيها
أولى بطلات شكسبير التامة الخلق والذكية بينما كانت شخصية شايلوك _ رغم أن شكسبير مدين هنا لمارلو _
أكبر من أن تتسع لها هذه المسرحية ؛ فكراهية شايلوك الخابية تجعل المشهد المسرحي تافها نوعا ما . وفي جزئي مسرحية " هنري الرابع " ( 1597 _ 1598 ) هدِف شكسبير إلى بيان عربدة فتوة الأمير هال قبل
أن يصبح هنري الخامس وبطل أجينكورت ، بيد أن الأمير لم يصبح فعلا الشخصية التي كان ينبغي أن يصبحها
؛ ففي أحداث الجزء الأول من المسرحية تطغى عليه شخصية هوتسبر بينما تهيمن شخصية فولستاف على الجزأين ؛ تلك الشخصية التي تعد أكثر شخصيات شكسبير الفكاهية كمالا وشمولية بناء كما تعد ألطفها
وأظرفها وأعمقها ؛ فلم يظهر شكسبير في أي مسرحية وعيا بالأصوات العميقة للفكاهة التي يعرف بها عمالقة
الفكاهة الحقيقيون مثل ما أظهر في شخصية فولستاف . وقد زيد إثراء تلك المسرحيات ب" فكاهيين آخرين مغايرين " على حد وصف الورقة الأولى في المسرحية لفولستاف ورفاقه ، وتلك الشخصيات الثانوية مثل
جستس شالو ودل تيرشيت والآنسة كويكلي . إن الامتداد الطبيعي لهنري الربع هو هنري الخامس الذي عرضت
شخصيته على خشبة المسرح عرضا مناسبا جدا في 1599 دون أن يجاز لفولستاف اختلاس رعد هنري مرة ثانية ، وكانت النتيجة دوي الطبول والخطب الحسان . والواضح أن اهتمام شكسبير الأساسي كان منصبا ذلك
الحين على فن الملهاة ؛ فقبل أفول عام 1600 ألف روائعه الثلاث من الملهاة الرومانتيكية وهي " جعجعة بلا طحن " و " كما تحب " و " الليلة الثانية عشرة " ؛ فهذه المسرحيات الثلاث تمثل كل ضروب الملهاة من حضور البديهة الفائق عند بينيدك وبياتريس إلى بلادة السير أندرو إلى الهزل الماجن عند السير توب بيلتش ومن فكاهة جاك المحزونة إلى دقبري الذي يسيء استعمال الكلمات والذي يمكن أن يوصف بعدل بأنه يشبه نبات القرانيا
(دقبري ) ، وقبل ذلك نجد في تلك المسرحيات الحب الحزين والرشاقة والحنان المرح الذي جعل تلك المسرحيات أكثر من محض تسليات مثيرة . وفي 1599 انتقل " رجال تشامبرلين " إلى مسرح الجلوب الذي
كان شكسبير وجيمس بيربيج وآخرون يساهمون فيه ماليا إذ كان شكسبير في ذلك الحين واسع الثراء ، اشترى
قبل ذلك مبنى " نيو بليس " في ستراتفورد واستثمر في السنوات القلائل التالية مبالغ ضخمة في ميدان العقارات .
وفي نفس العام ( 1599 ) وقع تغير مهم ل " رجال تشامبرلين " ولشكسبير خاصة ؛ فقد انفصل ممثلهم الساخر البارز وليم كيمب عن الفرقة ، وصار شكسبير يكتب مسرحياته وفي ذهنه ممثلون معينون لأداء الأدوار في تلك المسرحيات . وإذا كان كيمب انفصل عن الفرقة فإن بيربيج _ أعظم ممثلي المأساة في ذلك الزمان _ بقي فيها ،
وحتى ذلك الحين كان إنجاز شكسبير مع فرقة " رجال تشامبرلين " لا يكاد يحصى عددا . ولم يجرؤ أي كاتب
على منافسته حتى كتب بن جونسون مسرحية " فكاهة كل إنسان " التي مثل فيها شكسبير عام 1598 ، بيد
أنه كان منح فرقته شخصية فولستاف أعظم شخصية فكاهية في الأدب الإنجليزي كما كان كتب ثلاثا من أشهر
مسرحيات الملهاة في الإنجليزية واستوفى دائرة مسرحياته التاريخية . وتاريخياته ليست محض سجل للأحداث
فهي إلى جانب ذلك تعكس فلسفته السياسية . وهي وإن تباينت مستوى فقد ثبتت اتجاها إذ أدرك شكسبير محاسن
حكم إليزابيث القوي والمستقر ، وكتب مسرحياته محافظا على خط آل تيودور أسلاف إليزابيث . وكان يساوره القلق مثل أكثر الناس في ذلك الزمان مما قد يحدث بعد وفاة إليزابيث وزوال اتجاه آل تيودور ، وبذلك قوى القلق
شعوره الوطني فرأى في تدمير النظام كارثة وطنية ، وشعر بأن السلام صَدَفة هشة سهلة الكسر على يد الرجال
الطامحين . كانت مصادر شكسبير التاريخية مثيرة غاية الإثارة للجدل ، بيد أن الدراما التي أنتجها من تلك المصادر كانت ذات فلسفة واضحة ، كذلك نال ثناء أصدقائه ف 1598 ل " سونيتاته الحلوة المذاق "
مع أنها لم تطبع إلا في 1609 وكلها يجب أن تنسب إلى تلك الفترة الوسيطة من حياته . وقد طال جدل الدارسين حول هوية متلقي تلك السونيتات ، وهوية " سيدجي " و " السيد " و " الآنسة " و " السيدة السمراء " ، وتجادلوا
حول مدى علاقة تلك السونيتات بحياة شكسبير الشخصية . وعلى كل حال كانت سلسلة السونيتات إنجازا مهما لشعراء ذلك الزمان فقد كان شكسبير فيها متفرد الأصالة . وفي الحقيقة كان خارجا على التقاليد . والسونيتات
وإن كانت حلوة المذاق فهي أيضا شديدة المتانة وأعقد من منافساتها ودلت تقريبا على عقل ميتافيزيقي .
المآسي العظيمة .
بانفصال كيمب واستقرار الفرقة في مسرح
الجلوب المسقوف قشا ؛ دخل شكسبير مرحلة مآسيه العظيمة بمسرحية " يوليوس قيصر " التي عرضت في 1599 . لم تكن المسرحية خلوا من المفارقة التاريخية ،
وربما كان مفهوم شكسبير التاريخي فيها خاطئا ، لكن هذا الخطأ ندر أن أثر في حقيقة الصورة التي يرسمها
لدولة تجتاز أزمة ، وفي صورة الصراعات التي تتفاقم فيها . وهذا العيب لم ينقص أيضا قوة التعبير الدرامي
في المسرحية ، بل إن النقص الذي أحدثه في شخصية بروتس النبيلة كان أقل من سواه ؛ فقد قدم بروتس فيها
شجاعا مثاليا ، ولكنه إنسان خذول في عالم يتصف بالميكيافيلية . ربما كان ما كتب عن مسرحية "هاملت "
أكثر مما كتب عن أي مؤلَف أدبي آخر بمفرده ما خلا الكتاب المقدس إلا أن ما فيها من تعقيد وشمول لم يستوفِ
بعدُ حقه ، ولم يستنفد نصيبه من الشرح ؛ ففضلا عن رسوخ المسرحية في نهج الانتقام المفضل لدى جمهور العصر الإليزابيثي ؛ فهي تبرز جلية بين كل مسرحيات التراث بما انطوت عليه من صدق مدهش ، وكمال ،
وثراء في شخصية هاملت نفسه . وإن من يرمون إلى شرح هذه الشخصية إنما يضيعون وقتهم في غير طائل ؛
فهي في الحقيقة مفارقة ، والمسرحية في مجملها قائمة على المفارقة . ولأنها أولى مآسي شكسبير الراقية _ إضافة إلى وفرة الشعر فيها _ وصفت بالاضطراب وبأنها إخفاق فني ، ولكنها بما فيها من لطائف واسترسالات
فنية وفكرية ؛ مثلت تعبيرا جليا عن رؤية شكسبير المأساوية القائلة بأن الحياة مفارقة مأساوية . وقد كانت رؤياه
الكوميدية ترى الحياة مفارقة أيضا بنفس القدر ، وتمثل الرؤيتان الاكتمال التام لنفس العقل . بحلول عام 1600
تسنم شكسبير ذروة قوته باعتباره كاتبا لمسرحية المأساة وإن كان مازال مسئولا عن تزويد فرقته بنوعي الفن المسرحي : المأساة والملهاة . وهذا ما يقضي به التقليد المسرحي حتى إن مسرحية " زوجات ويندسور المرحات " التي أخرجها إ . ك . تشامبرز في نفس السنة التي أخرج فيها " هاملت " كتبت تلبية لرغبة الملكة إليزابيث
؛ لأنها رغبت في رؤية فولستاف يقع في الحب . والحقيقة أن فولستاف وصحبه القدامى وثيقي الصلة به يقدمون
كل أنواع الظهور المتجدد في عرض حسب الطلب . ويصعب تبديد الانطباع بأن شكسبير كان مأخوذا إلى أقصى
حد بالمأساة لدرجة أنه كان يتوجب عليه بذل الجهد لإنجاز المسرحيات الكوميدية التي كان يتوجب عليه إنجازها . إن اضطراب الهدف في مسرحية " ترويلس وكريسيدا " التي ربما كتبت في 1601 يصعب علينا وضعها في
مكانها بين مؤلفات شكسبير ؛ فمع أنها تحوي كل عناصر المأساة إلا أنها تتجافى عنها ؛ لذا نظر إليها باعتبارها
كوميديا رغم أن ما فيها من فكاهة قوية يخلف طعما مرا في الفم . ويصدق هذا وإن بدرجة أقل على مسرحية " العبرة بالخواتيم " ( 1602 _ 1603 ) حيث تشبه فكاهة بارولز فكاهة فولستاف . وفي مسرحية " واحدة بواحدة " (1604 _1605 ) نرى شكسبير يحسر القناع بمعنى ما ؛ فموضوع هذه المسرحية مأساوي أساسا : وهو حتمية المصادمة بين المثالية والبراءة من جانب والسلطة والفساد من جانب آخر . إنها تسلك النهج المبتذل للدوق
المتخفي لتحول الحبكة عند النهاية ، وتلفق نهاية سعيدة ظاهريا للأحداث . وجاءت مسرحية " واحدة بواحدة " مثالا للقوة والجمال رغم التشويه المميت الذي نابها ، ولكن شكسبير عالج موضوعها مرة أخرى في آخر سنة ظهور ونجح ؛ فغالبا ما تمتدح مسرحية " عطيل " على أنها أكمل مآسيه بناء ، وأنها تعبير مكثف نادر الطراز
في مؤلفاته ، وكان صراعها المحوري قويا وبسيطا . إن براءة عطيل النبيلة لتسمع في كل مقطع يلفظه بينما يكشف صوت إياجو الأجش صحارى الارتزاق القاسية في روحه ؛ ف" ضع النقود في كيسك " هي خير فلسفة
في الحياة يمكن أن يتوق إليها . ولأن عطيل ليس غيورا بطبعه فإنه يتحطم على يد إياجو الذي أساء متعمدا استغلال أفضل مناقب عطيل مثل براءته وإخلاصه في هواه . كانت مسرحية " عطيل " تعليقا مرعبا على هذا
العالم الشامل الكره الذي يدوم فيه الخير على حساب كل شيء يملكه الإنسان وعلى حساب الحياة ذاتها . وفي مسرحية " الملك لير " ( 1605_ 1606 ) تبلغ رؤية شكسبير المأساوية ذروتها من حيث التكثيف الشعري .
إنها مسرحية تركز على الجوهريات حتى ليصعب أن تنصفها في التمثيل على خشبة المسرح . لقد كتبت في زمن
بعيد ينكر اللهو العابر في التاريخ أو المجتمع ، وقدمت إنسانا يمثل خطرا على القوى الأساسية . إنه " حيوان عاري الشوكة " ، حقير الأفعال ، جليل المطامح ، سهل الهلاك . إن تلك المسرحية هي أقل مآسي شكسبير العظيمة واقعية ، وكان حتما أن تكون كذلك حتى تحقق غرضها . وتعود مسرحية " ماكبث " إلى نفس زمن مسرحية " الملك لير " . ومسرحية " ماكبث " هي الأكثر إيجازا وإعجازا من بعض الوجوه بين مآسي شكسبير
؛ فلقد انتزع في هذه المسرحية التعاطف لصالح طاغيتين قاتلين ، ولم يذهب فنه بعد ذلك إلى أبعد من هذه المسرحية ، ولم يقم بأي محاولة أخرى في هذا المنحى . وبدلا من ذلك نراه في مسرحية " أنطوني وكليوباتره "
(1606 _ 1607 ) يوفق في محاولة كتابة لون آخر من الأعمال البارعة ؛ فانتقد توسع العالم الروماني والإعدامات التي لم تكن مشكلاتها أقل من مشكلات حكم ذلك العالم . إلى هذه القمة أوصل شكسبير قصته الغرامية وقواها بنوع من الجلال الشامل والتنوع الشفيف والمبالغة العاطفية الشديدة . ولربما كان البناء الدرامي
للمسرحية غاية في اليسر ، ولكنها تمثل إلى جانب مسرحية " الملك لير " أحد إنجازات شكسبير الشعرية الفائقة .
كانت " كوريو لانوس " (1607 _1608) _ وهي آخر مسرحياته الرومانية _ أدنى من سواها في كل شيء .
إنها تفتقر للأفق الحقيقي في الإبداع والشعر وإن كان لا أحد ينكر نبل بطلها أو الشفقة التي تحركها مشاهدها الرئيسة . وفي نفس السنة حاول شكسبير أن يقوم في مسرحية " تيمون أثينا " بما قام به قياما رائعا من قبل في
" الملك لير " إلا أن شدة بساطة حبكة تلك المسرحية لم تعطه المجال الكافي لبلوغ ذلك ، فظل تيمون شخصية
ذات بعدين يعوقها النقد الساخر الحافل ببغض الناس ؛ ذلك أن قوة شكسبير في فن المأساة كانت شارفت الاندثار .
آخر مسرحياته .
ومن ثم جرب شيئا جديدا ؛ ففي مسرحية " بيركليز " ( 1608 _ 1609 ) لم يكن أكثرمن متعاون في التأليف
( ذلك أن التعاون بين مؤلفين مسرحيين أو أكثر كان القاعدة أكثر مما هو الاستثناء في تلك الأزمنة ) ، ولكن مهما كان نصيبه في تأليفها فإنها دلت على موضوع مرحلة شكسبير الأخيرة التي يطلق عليها مرحلة الرومانسيات أي
موضوع الشيء الذي نفقده ثم نجده لتبدأ مرحلة جديدة من الأمل مع وجوده ، مرحلة من النمو الخفي للحب والبراءة الجديدين من رماد الشك والغيرة القديمين . وفي تلك الرومانسيات ابتعد المشهد المسرحي عن الواقعية والتاريخ ؛ ففي مسرحية " سيمبلين " ( 1609 _ 1610 ) تلقانا بريطانيا القديمة ، وفي " حكاية الشتاء " (1610 _ 1611 ) نجد صقلية وشاطىء بوهيميا الخيالي ، وفي " العاصفة " ( 1611 _ 1612 ) تلقانا جزيرة
خرافية . كذلك تجرد الحدث في تلك المسرحيات من الواقع . ولو أراد شكسبير في ذلك الزمن أن ينزل شخصية
من على خشبة المسرح لكتب فقط : " من هنا يخرج الأخرق " . وتشوش موضوع " سيمبلين " أحداث كثيرة مع أن قيم الرجاء والبراءة في شخصية إيموجين تنساب صافية خلال المسرحية حتى الاعتراف والمغفرة النهائيين . وتعد مسرحية " حكاية الشتاء " من أوضح مسرحيات شكسبير ، لكنه ليس الوضوح الذي يتحقق
بالتبسيط المسرف . ومرة أخرى في هذه المسرحية يتجسد الرجاء وخير الإنسان في شخصية الفتاة بيريديتا .
وقد قام شكسبير في هذه المسرحية بلعبة مؤثرة على حساب التقاليد المسرحية . وما من شيء أكثر إثارة للألم
في نفس صديقه بن جونسون صاحب العقلية الكلاسيكية من سماعه الفرقة ( التي تمثل الوقت ) تعلن أن ستة عشر
عاما تقضت بين الفصل الثالث والفصل الرابع في المسرحية ، بيد أن شكسبير ألزم نفسه فعليا في مسرحية " العاصفة " بوحدتي الزمان والمكان ؛ فكانت تلك لمسرحية أكثر مسرحياته تركيزا على وجه التقريب ، ونظر إليها عادة بحسبانها وداع شكسبير الأخير للمسرح . وثمة سبب كافٍ لهذه النظرة . وإنه لأمر مثير على كل حال
أن نرى حياته تنتهي بهذه الأغنية للرجاء والصفاء . والثابت أن شكسبير عاد إلى ستراتفورد عام 1610 أو 1611 حيث توفي في الثالث والعشرين من أبريل 1616 إلا أنه لم يقطع علاقته نهائيا بالمسرح عقب عودته
، فشارك جون فليتشر في كتابة مسرحية " هنري الثامن " التي مثلت على مسرح الجلوب في التاسع والعشرين
من يونيو 1613 وهي المناسبة التي احترق فيها ذلك المسرح في حادث عرضي . والمؤكد أنه ساهم في عدة مسرحيات أخرى خاصة مسرحيات " القريبان النبيلان " و " سير توماس مور " و " الملك إدوارد الثالث " .
منزلته .
لا ريب في أن معاصري شكسبير أقروا بأنه أعظمهم رغم التنافس الودي بينه وبين بن جونسون وجون فليتشر
في أخريات سنيه . وشهد بن جونسون بحسن مناقب شكسبير إنسانا وشاعرا فقارنه بإسخيلوس ويوريبيدس وسقراط ، وجاهر بأنه لا مثيل له في مسارح أوروبا . وكان شكسبير محبوبا لدى الملكة إليزابيث وجيمس الأول
وتشارلز الأول مثلما كان محبوبا لدى عِلية وسِفلة مسرح الكيرتين أو مسرح الجلوب ، ولكن لما أعيد فتح المسارح _ عقب القمع على يد المتطهرين في منتصف القرن _ زمن الإعادة سنة 1660 كان الذوق الفرنسي
هو السائد ، ونظر إلى مؤلفات شكسبير ومعاصريه باعتبارها مؤلفات ناقصة التهذيب . لقد اعترف بعبقريته ،
ولكن نظر إلى مؤلفاته بحسبانها معيبة مفتقرة إلى الصقل . ومهما يكن من شيء فقد أنجب ذلك العصر في جون درايدن أعظم نقاد شكسبير الحقيقيين فحكم على شكسبير بأنه كان الإنسان " الذي يملك أضخم وأشمل روح بين كل محدثي الشعراء وربما قداماهم " . وتلك في الحق كانت الخصلة التي فاضت منها سائر مزاياه إلا أن الرأي القائل بنقص تعليم شكسبير وفنه ألح على الأذهان في القرن الثامن عشر حين انحدر فن المأساة إلى محض القدرة
على اتباع قليل من القواعد المبسطة ، وحتى فولتير نفسه اعتبر شكسبير همجيا ، وهو ما رآه ليو تولستوي في ما بعد ، بل نظر إلى مسرحيات شكسبير في القرن الثامن عشر بصفتها مسرحيات مغشوشة ؛ فمسرحية " الملك لير
" مثلا أعيدت كتابتها بخاتمة سعيدة على أن صامويل جونسون وجورج ستيفنس وآخرون بدؤوا تقليدا جديرا بالاحترام في دراسة شكسبير بينما كان ديفيد جاريك مفسرا شامخا لمآسيه . وظن الكتاب الرومانسيون في القرن التالي أنهم أعادوا اكتشاف شكسبير مع أن ما قاموا به ربما لا يعدو اكتشاف ذواتهم فيه . وفي ألمانيا صارت الحرية التي اعتصر فيها شكسبير مواد مسرحياته مقياس الحكم على الشعر الجديد على حين قُيمت في إنجلترا مرة أخرى المزايا العظيمة لأفضل معاصريه : جون ووبستر وفليتشر ومارلو . صاروا ينظرون إلى شكسبير
بأنه ليس فريدا في نوعه وإنما باعتباره أعظم أدباء " جنس عظيم " . وتدلنا كتابات كوليردج ولام وهازليت ودي
كوينسي على مدى العمق الذي أحس به الرومانسيون نحو شكسبيرهم . تحول النقد في آخر القرن التاسع عشر
صوب اهتمام نفسي أعمق بشخصيات شكسبير ، وبذا انفصلت عن سياقها الدرامي لينظر إليها من زاوية كونها نماذج لشخصيات معينة . وقلب القرن العشرون هذه العملية واضعا شكسبير برسوخ في المسرح على أنه يكتب
لنمط معين من المسرح ولممثلين يعرف أصواتهم . وهذه النظرة عززت أكثر مما عتَمت رأينا في فن شكسبير
ونحن نتابعه في حياة يتعرض في كل منعطف فيها إلى مطالب أوليائه وجمهوره وزملائه الممثلين وإدارة المسرح . إن صورته عندنا صورة فنان فائق الذكاء متميز الطبع جرب في البداية كل شيء ولم يخفق في التعلم
من تجاربه ، ثم ، ومنذ أن التحق بفرقة "رجال تشامبرلين " حتى نهاية القرن السادس عشر ؛ دل على الإتقان
الذي حازه في كل جانب من جوانب الملهاة ، وأكمل دورته النبيلة في ميدان الدراما التاريخية فلم يبق عليه إلا غزو المأساة فغزاها في 1599 _ 1608 بالسلسلة التي بدأت ب " يوليوس قيصر " وانتهت ب " أنطوني وكليوباتره ، وأخيرا توج حياته بالرومانسيات التي ربما نقلت لنا أعمق نظراته . لا ريب في أن الصورة التي رسمناها له شديدة النعومة نوعا ، بيد أنها تمكن القارىء من التعرف على شاعر وكاتب مسرحي لا نظير لإنجازه مدى وعمقا وتنوعا في أي لغة أو وطن .
* عن " موسوعة كاكستون الجديدة " البريطانية .
وسوم: 639