الملك وطائر النار
عاش قديما ملك عظيم في مملكة نائية كثيرا عن بلادنا ، وكان في بلاطه رامي سهام قوي مقدام له جواد شديد عداء . وفي يوم ركب الرامي جواده وقصد به الغابة للصيد حيث سار إليها في طريق لاحب ، وبغتة لمح ريشة طائر نار ملقاة في الطريق تتوهج توهج النار . هنالك قال الجواد للرامي : دع الريشة في مكانها وإلا دهتك داهية جلى !
فتوقف الرامي وتفكر ، لكنه أحس غواية ضارية لالتقاط الريشة ؛ إذ إن الملك سيثيبه إن أهداها إليه ، ومن لا يرغب في ثواب ملك ؟!
وكان أن التقطها ، وقدمها إلى الملك ، فقال له : شكرا جزيلا أيها الرامي ، لكنك كنت تستطيع أن تحضر إلى طائر النار نفسه ما دمت قدرت على إحضار ريشته . لئن لم تحضره لأحسمن الأمر بحد صارمي وأقطعن رأسك !
فرجع الرامي إلى جواده يبكي بكاء حارقا ، فسأله : ما يبكيك يا سيدي ؟!
فأجابه : أمرني الملك بأن أحضر طائر النار نفسه .
_ قلت لك لا تأخذ الريشة ، على كل حال لا تفزع ، أو تستسلم لليأس ؛ فالخطب الأسوأ آتٍ ! اذهب إلى الملك ، واطلب منه مائة حقيبة قمح لنثرها في ذلك الحقل البعيد !
ونفذ الرامي نصيحة الجواد ، وأمر الملكُ بنثر حقائب القمح المائة ، وركب الرامي جواده صبيحة النهار التالي منتحيا الحقل ، وهناك أرسل عنان جواده ، وخلاه يسرح على هواه ، واستتر هو وراء شجرة . وبغتة اجتاحت الغابة ريح عاصفة فجرت حفيفها، وعلت أمواج البحر صاخبة مزبدة ، وأقبل طائر النار ، ووقع في الحقل ، وأخذ ينقد الحب ، فاندفع الجواد ووطىء أحد جناحيه وغرزه في الأرض ، وانبعث الرامي من وراء الشجرة ، وقيد الطائر بحبل ، وركب جواده ، وأسرع إلى القصر ، وقدمه إلى الملك الذي اغتبط به غبطة عظيمة ، وأثنى على الرامي ، وأعلى منزلته ، وفورا كلفه مهمة جديدة قائلا : استطعت إحضار طائر النار ، وبناء عليه في استطاعتك أن تحضر إلي الغادة التي أصبو للزواج بها لا بغادة عداها . وسأنثر عليك الذهب والفضة إن أحضرتها ، وإلا فسأحسم الأمر بصارمي ، ولئن لم تحضرها لأقطعن به رأسك !
وعاد الرامي إلى جواده يبكي بحرقه ، فسأله : ما يبكيك يا سيدي ؟!
فأجابه : الملك يأمرني بإحضار الأميرة فاسيليسا إليه !
فعزاه : لا تبكِ ولا تحزن ؛ فما خطبك بالعظيم ! ثمة خطب آتٍ أعظم منه .ارجع إلى الملك واسأله خيمة ذهبية القمة ، وطعاما وشرابا تتزودهما في سفرك !
فرجع إليه ، وزوده طعاما وشرابا وخيمة ذهبية ، فركب جواده ومضى في سبيله ، وجاز تسع أرضين لا يدري أطال سفره أم قصر إلا أنه بلغ في النهاية طرف المعمورة حيث تطلع الشمس من البحر الأزرق ، وهناك رأى الأميرة فاسيليسا ذاتها في زورق فضي تدفعه بمجداف ذهبي ، فأرسل عنان جواده في الحقل تاركا له حرية رعي العشب الأخضر الغض ، ونصب الخيمة الذهبية القبة ، ومد المائدة وراح يأكل ويشرب في انتظار مجيء الأميرة . ورأت هي الخيمة الذهبية تلمع في الشمس ، فيممت الشاطىء ، ونزلت ووقفت تتأمل الخيمة مأخوذة اللب ، فقال الرامي : طاب صباحك يا أميرة فاسيليسا ! تفضلي شاركيني مائدتي ، وتذوقي الخمر التي جلبتها من بلاد قاصية !
فدخلت خيمته ، وأكلا وشربا وابتهجا . شربت كأسا دهاقا غلبتها حمياها حتى أنامتها نوما عميقا ، فاستدعى الرامي جواده ، فأتاه خببا ، فطوى الخيمة ، وحمل الأميرة وركب بها ، وانطلق في سرعة سهم حتى بلغ القصر . ابتهج الملك بهجة طاغية حين رأى الأميرة ، وأثنى على الرامي الذي أحسن خدمته ، وأسنى ( أعلى ) حظوته . ولما أفاقت الأميرة وعرفت أنها بعيدة جدا عن البحر الأزرق بكت منتحبة ، واسود وجهها حزنا وألما ، ورجاها الملك ألا تحزن ، لكن في غير نفع ، ثم تضرع إليها أن تتزوجه ، فقالت : دع من جاء بي إلى قصرك يذهب إلى بلادي في طرف المعمورة ليحضر ثوب زفافي من تحت صخرة وسط البحر ؛ فبدونه لن أتزوجك !
وطلب الملك الرامي ، وقال له : اذهب فورا إلى طرف المعمورة حيث تطلع الشمس ، وستجد وسط البحر صخرة أسفلها ثوب زفاف الأميرة فاسيليسا ، هات الثوب ؛ لأنني أستعجل الزواج بها ، وسأثيبك ثوابا سخيا إن أحضرته ، وإن لم تحضره فسأحسم الأمر بصارمي ، وأقطع رأسك !
فعاد الرامي إلى جواده يبكي بحرقه ، ويحدث نفسه : لا نجاة لي هذه المرة .
سأله الجواد : ما يبكيك يا سيدي ؟!
فأجابه : الملك يأمرني بإحضار ثوب زفاف فاسيليسا من قاع البحر !
فقال : ألم أقل لك لا تأخذ ريشة طائر النار ! لكن لا تفزع ؛ فما خطبك بعظيم ، الخطب الأسوأ آتٍ . اركب لنذهب إلى البحر الأزرق !
وما درى أقصر سفره أم طال ، لكنه بلغ في النهاية طرف المعمورة ، وتوقف لدى شاطىء البحر ، فأقبل عليه سلطعون كبير ما رآه الجواد حتى وطىء ذيله ، فقال السلطعون : لا تقتلني ، وسأفعل ما تحب !
فقال الجواد : في قاع البحر صخرة كبيرة أسفلها ثوب زفاف فاسيليسا ، أحضره لي !
فزأر السلطعون زأرة دوت في أرجاء البحر ، فارتفعت أمواجه ، وأقبلت السلطعونات كبيرة وصغيرة من كل جانب ، وأمرها السلطعون الذي كان أكبرها جميعا بإحضار الثوب ، فغاصت في البحر ، وأحضرته بعد ساعة . وأخذه الرامي إلى الملك إلا أن الأميرة كانت كالعهد بها عنيدة شديدة ، فقالت إنها لن تتزوج الملك إلا إذا جعل الرامي يغمس نفسه في ماء يغلي ! فأمر الملك فورا بملء قدر بالماء وبإحمائه وبغمس الرامي فيه متى حمي . وتم كل شيء سريعا ، وبدأ الماء يغلي ، وتطاير رذاذه حول القدر ، وجيء بالرامي الذي حدث نفسه : ما أشقاني ! ما الذي جعلني آخذ ريشة طائر النار ؟! لم عصيت نصيحة جوادي ؟!
وعند تذكره جواده قال للملك : أيها الملك الهمام ! يا مولاي ! ذن لي بوداع جوادي قبل مماتي !
فقال : اذهب !
فذهب لوداعه ، وحين رآه سحت دموعه غزيرة ، فسأله : ما يبكيك يا سيدي ؟!
فرد : أمرني الملك بالانغماس في الماء الحامي .
فقال : لا تفزع ولا تبكِ ! لن تموت .
وطرح عليه سحرا حتى لا يحرق الماء الحامي جسده ، ففارقه . وأمسكه خدم الملك وقذفوه في القدر ، فغطس غطستين متعاقبتين ، ثم وثب خارج القدر ، ويا للعجب ! بدا رائع الحسن روعة لا يصفها بيان يراع ولا بيان لسان . ولما رأى الملك ما حدث زينت له نفسه الانغماس في القدر ، فقفز فيها ، فأحرقه ماؤها الحميم ، وبعد دفنه اختار الناس الرامي لحكم المملكة ، فتزوج الأميرة ، وعاش الاثنان سعيدين سنين طويلة .
*من القصص الشعبي الروسي .
وسوم: العدد 658