الشجرة العجيبة
ولجت الغابة وحيدا ، لاغبا ، ساغبا ، مرتاعا من الزوابع الهوج التي كانت تثور في جوها ، فبصُرت بأطرف شجرة بصرت بها في حياتي ، كانت سامقة ، قوية ، مهيبة ، خلوبا ، تهب من يأتيها الوقاية والبهاء وراحة البال ، وفوق تلكم المغريات المبهجات تهبه ثمارا تنتظر قاطفها .
وكنت كلما اقتربت منها زادت قدرتي من خلال أوراقها الخضر الحسان على البصر بمرض في داخلها ، وبعدد من الأغصان اليابسة ، وبأجزاء معراة ، وبفروع صغيرة معوجة ، وبلباب متعفن ، بيد أن ما كنت فيه من قنوط وسوء حال حضني على تجاهل كل ما بصرت به من تلك العيوب ، وجعلني أحب حسنها وثمارها والوقاية التي ستوفرها لي من عناصر الطبيعة الجامحة القاسية ، وألبث مخلوب اللب بصورها الخارجية التي أستطيع البصر بها . وبعد وقت قصير أخذت تبدي شياطين وليجتها ، وتسقط حولها ما لا عد له من أغصانها المتكسرة ، كثير منها دون سابق إنذار ، وبعضها لهبة نسمة ، وبعضها بلا علة بتاتا . وغالبا ما كنت أرى أو أسمع صوت سقوط تلك الأغصان ، ومنها ما كان يضربني مخلفا في جسدي قطوعا وخدوشا متباينة الحجوم . وندر أن يبرأ واحد منها قبل أن يسقط غصن آخر ليحدث قطعا أو خدشا في الموضع الذي ضربني فيه غصن سبقه . وأحيانا كانت الريح تعصف فتسقط من الشجرة أفرعا كاملة إذا أخطأني بعضها أصابني بعضها الآخر محدثا ألما وضررا قاسيين إلا أنني كنت أنهض في كل مرة ، وأنصح نفسي بوجوب أن أكون أكثر حذرا من سقوط مزيد من الأغصان ؛ مستبقيا دائما ولعي بقدر ما بتلك الشجرة الهائلة التي تقي من يلوذ بها من الشرور والأخطار ، ثم أشرع في إزاحة الأنقاض والأشلاء المتساقطة ، وآبى هجر عالمها الذي عرفته معرفة حسنة . وتثمر الشجرة بين حين وآخر عندما تشرق الشمس وتهجع الريح ، وهو ما كان يحدث بعد أن تسقط شركها الجواني المهلك . وبدأت ألحظ قدرتي على الاغتذاء بثمرها حالما تنبذ بعضا من قبحها الجواني . ودفعتني حاجتي العنيفة للاغتذاء إلى أن أرفع الأغصان الهاوية ، وأدفع بها في قلبها لنفض ونزع المزيد من ميت الأفرع وباليها ، ويغلب أن تضربني إذ تهوي أو تجرحني . وبدت لي مبارحتها متناهية السهولة ، وفي الوقت عينه متناهية الصعوبة ؛ إذ إنني بدأت آلف دورة إصابتي التي لا تتوقف ، والدمار والخراب اللذين تعقبهما أوقات قصيرة ، لكنها عجيبة ، من الدفء والفاكهة المتتابعة ، الأمر الذي زاد صعوبة تذكري نوع الحياة خارج عالمها . وبمضي الوقت تأكدت أنني عاجز عن الحياة معها أو بدونها بعد أن امتلأ جسدي بالقطوع والكدمات والخدوش ، وضاعت روحي في بلدان وأماكن أخرى . وذات وقت ارتقيتها بحبل طويل متين ربطته بها وطوقت به عنقي بعد أن فقدت إدراكي السليم لأفعالي ومخاوفي وخياراتي ، ووثبت ، فانقطع الحبل ، وهويت إلى الأرض ذاهلا مقهورا مكسورا تغمرني الجراحات نفسا وجسدا . وفي انطراحي شبه عاجز عن الحركة تأكدت أنني أبعد قليلا عن الموضع الذي تتساقط فيه الأغصان من داخل الشجرة . وزحفت خطوات قليلة ، شاعرا شيئا فشيئا بتأثيرات العالم الخطر للعيش تحتها . وكلما زادت راحتي قل تعرضي للإصابة ، وكلما زادت قوتي زادت قدرتي على النأي عنها . وفي النهاية نلت من القوة ما مكنني من النأي التام ، والوقوف على قدمي ثانية . وثانية صرت قادرا على رؤية جمالها الخارجي ، وفاكهتها المغرية التي تبين بين الحين والحين ، بيد أنني قادر الآن على رؤية مرضها الداخلي بكل وضوح ، وستبرأ جراحي مع الأيام بعد أن تقدمت بطلب للطلاق من زوجتي الشجرة التي تغول من يقربها .
*للكاتب رُب حنا .
وسوم: العدد 687