حبة البسلة
عاش في خالي الزمان رجل يسمى حبة البسلة ، يقال إنه صار فجأة خادما لكاهن قريته وموضعا لثقته إلا أنه أخذ يسيء إلى سيده الذي صبر على إساءته عدة سنوات ، ثم قال له في النهاية : يا حبة البسلة ! لم كل أسمالك وانصرف ! ما عدت في حاجة إليك .
فأجابه حبة البسلة : وأنا لا أحب أحسن من الانصراف من عندك . خدمتك بما يكفي .
وهكذا انصرف ، وابتاع بيتا صغيرا قريبا من بيت سيده القديم . وكان حبة البسلة هذا ذكيا داهية ، فابتدع صباح يوم حيلة بأن أخذ قطعتي حديد كبيرتين ووضعهما في النار حتى احمرتا ، ووضع حلته قربه ، وصنع سوطا صغيرا ، وأرسل يستحضر جاره الكاهن . وقبل مجيئه بوقت وجيز أخذ قطعتي الحديد المحمرتين وطرحهما في الحساء الذي في الحلة التي كانت بين ساقيه ، وضربها بسوطه آمرا : اغلِ يا حسائي !
وحين دخل الكاهن ورأى خادمه السابق يضرب حلته فيغلي حساؤها ، سأله : أي سر لديك يا حبة البسلة لتجعل طعامك يسخن بهذه الطريقة ؟!
فأجابه ضاربا الحلة بهدوء والحساء يزداد نضجا : السر في سوطي !
وانسحر الكاهن برؤية غليان الحساء ، وجذبته رغبة شديدة لتعلم سر السوط ، فقال : هذا السوط سيكون نافعا جدا لي أنا الرجل الذي لديه خادمات بليدات ، وأنت يا حبة البسلة رجل وحيد تماما ، ولا تحتاج إليه .
فقال الحبة : الناس دائما تحتاج إلى الأداة النافعة يا سيدي الكاهن إلا أنني مستعد لبيعه إليك رغبة في خدمتك . سوطي يساوي مائة قرش .
فرد الكاهن : ليس غاليا . إليك مائة قرش ، وهات السوط !
فأخذ الحبة المبلغ ، وأعطاه الصوت . ولما انتهى اللقاء رجع الكاهن إلى منزله ، وقال لخادماته : لم أعد في حاجة إلا لخادمة واحدة ، وسأطرد الأخريين .
فبدا على وجوههن الشرود والتفكر ، وقال للتي استبقاها : احضري وعاء الشاي ، وضعي الشاي في الماء البارد !
فسألته طائعة : ماذا يريد الكاهن أن يعمل ؟!
فسألها : وعاء الشاي جاهز ؟
قالت : نعم يا سيدي الكاهن ! كل شيء كامل الجاهزية .
فأحضر السوط ، وأخذ الوعاء ، ووضعه فوق المنضدة ، وراح يضرب به الوعاء قائلا : اغلِ يا وعاء الشاي !
فلم يغلِ ، فضربه ثانية ، ولم يغلِ ، فانتابه الإحباط ، وقال : أسأت إمساكه . كان حب البسلة جالسا والحلة بين ساقيه . سأفعل مثله .
وجلس على الأرض ، ووضع الوعاء بين ساقيه ، وصار السوط في أنسب وضع ، فضرب به الوعاء ضربا هادئا ، ثم سارع يضربه بقوة دون أن تتحسن الحال ، وهنا سألته الخادمة : سيدي الكاهن ! من أين جئت بهذا السوط ؟!
فأجاب : اشتريته من حبة البسلة .
_ هذه لعبة أخرى يسيء بها إليك مثلما كان يفعل هنا .
فهاج غضبا ، وقذف السوط في النار صارخا : لتأتين أنبائي حبة البسلة متى كان الغد !
ولما كان الغد ، استحضر حبة البسلة أمه المسنة ، وطلب منها قضاء النهار في بيته ، وملأ وعاء بالدم ، وعلقه في عنقها ، وأخذ يحوم في بيته متطلعا من هذه النافذة وهذه النافذة ترقبا لقدوم الكاهن الغاضب الوشيك . ولمحه فجأة يقترب من البيت ، فأحدث ضجة عالية بقلب المنضدة والمقاعد وتكسيرها . وعندما دخل الكاهن أمسك بأمه ، ورفع سكينه صائحا : يا عجوز يا فاجرة ! عشت عمرا مديدا ، وحان الآن موتك !
فقال الكاهن يهدئه : ماذا تفعل يا حبة البسلة ؟! ماذا تفعل ؟!
فرد : هذا شأني وحدي ، ولا أريد أن أرى متطفلا فضوليا في بيتي .
وشق بسكينه وعاء الدم المعلق في عنق أمه ، فسال الدم ، وسقطت كالميتة ، فاقشعر بدن الكاهن ، وأخذ يضرب حبة البسلة ويهدده : حان الآن موتك . سأضعك بين يدي العدالة ، وسيسقط رأسك من المقصلة .
فقال حبة البسلة ملتقطا صفارته : أقولها لك ثانية : لا أريد أن أرى متطفلا فضوليا في بيتي . أمي ماتت إلا أنها ستعود إلى الحياة !
وبث صفرة قائلا : تورلو توتو ! ستعودين إلى الحياة ؟!
فبدأت تتحرك ، فأعاد : تورلو توتو : ستعودين إلى الحياة ؟!
وأردف : أقولها للمرة الثالثة ، وضربتي لا تخطىء هدفها أبدا : يا تورلو توتو ! ستعودين إلى الحياة ؟! أم أنك لن تعودي ؟!
وما نطق " تورلوتوتو " حتى وقفت ، فانبهر الكاهن لرؤية الصفارة العجيبة ، واستفهم : من أين جئت يا حبة البسلة بهذه الصفارة ؟!
فأجابه : حبتنيها عجوز ساحرة ، ويمكنني أن أفعل بها كل ما يحلو لي !
_ إنها التي ينبغي أن أحصل عليها لخدمة رعيتي .
_ الأداة الحسنة تنفع كل الناس .
فقال الكاهن : تبيعها لي ؟! ما المبلغ الذي تريده ثمنا لصفارتك يا حبة البسلة ؟!
_ سأبيعكها خدمة لك يا سيدي الكاهن .
_ كم تريد ثمنا لها ؟!
_ أريد مائتي قرش يا سيدي الكاهن .
_ ليس ثمنا غاليا يا حبة البسلة . سآخذها وأبدأ بتجربتها على خادمتي .
_ اعرف كيف تستخدمها يا سيدي الكاهن ! رأيت كيف استخدمتها مع أمي .
_ لا تخف !
وانصرف إلى بيته دون فرح كبير ، وشرع يعد المنضدة والمكتب والوعاء ، فقالت الخادمة : سيدي الكاهن ! لست في مكانك وأنت في حجرة زينتي !
_ ماذا ؟! لست في مكاني ؟! آه ! سأعد لك مكانا فيها !
والتقط سكين الخبز وحز رقبتها ، فماتت ، وبدا عليه الزهو وهو يجرب صفارته لإحيائها ، ففعل ما فعله حبة البسلة ، وصفر قائلا : تورلوتوتو ! ستعودين إلى الحياة ؟!
فلم تتحرك ، فأعاد ثانية : تورلوتوتو ! ستعودين إلى الحياة ؟!
ولم يأته رد ، ففكر : غريبة ! تحركت العجوز عند أول صفرة بثها حبة البسلة ، ونهضت تقريبا عند الصفرة الثانية ، وهذه لا تتحرك حتى مع الصفرة الثانية مع أنني فعلت ما فعله حبة البسلة !
وتابع المحاولة قائلا : تورلو توتو ! ستعودين إلى الحياة ؟! أم لن تعودي ؟!
لكنها كانت ماتت ، وفكر : منذ زمن بعيد وحبة البسلة يسوءني بمكائده . ستكون هذه آخر إساءة ! سأحكم عليه حكم العدالة وأتسبب في موته .
وفعلا حكم عليه بأن يوضع في كيس ويقذف في البحر ، فرضي بالحكم ، وجاءه اثنان من خدم الكاهن ، ووضعاه في كيس وسارا به صوب البحر ، فراح يصيح في الطريق : لا أريد الذهب إليها ! لا أريد الذهاب إليها !
وحين مرا بخان دخلاه لشرب النبيذ ، وتركا الكيس في الخارج عند مدخل الدرج ، وواصل حبة البسلة صياحه المزعج : لا أريد الذهاب إليها ! لا أريد الذهاب إليها !
ومر في الأثناء ساذج فضولي وسمعه يصيح : لا أريد الذهاب إليها ! لا أريد الذهاب إليها !
فاقترب من الكيس ولمسه وسأل : من التي ترفض الذهاب إليها ؟!
فأجابه حبة البسلة : يريدون أخذي للنوم مع الأميرة ، لكنهم لن يقنعوني بهذا .
فقال الساذج : تضعني مكانك ؟!
فقبل مسرورا وقال : حل الكيس وخذ مكاني !
وخرج ، ودخل الساذج التعس مكانه . وحالما خرج حضر الخادمان ، وأخذا الكيس ، فجعل الساذج يصيح خلال سيرهما مثل حبة البسلة : لا أريد الذهاب إليها ! لا أريد الذهاب إليها !
فقالا : تريد أو لا تريد ، أنت في الطريق إلى عرض البحر .
وكانا كلما حملا الكيس بعد حطه للاستراحة يعدان : واحد ، اثنان ، ثلاثة .
وأخيرا بلغا البحر وقذفا الكيس فيه . وسألهما الكاهن ثاني يوم : قذفتماه في عرض البحر ؟!
فأجاباه : اطمئن بالا يا سيدنا الكاهن ! كاد لك حبة البسلة بما يكفي من المكائد ، ولن يعود أبدا .
ففكر وهو يتمشى وفق عادته عند المدخل الكبير لدرج بيته : أخيرا سأتحرر تماما من مضايقاته .
وثاني يوم ، بعد ما تناول غداءه ، رأى قطيع حيوانات ذات قرون مقبلا ، وكلما اقترب صار يلاحظ أن الذي يسوقه يشبه حبة البسلة ، فاستدعى أحد خدمه وقال له : أرى قطيعا جميلا من حيوانات ذات قرون ، لكن انظر إلى من يسوقها ! يشبه حبة البسلة !
فرد الخادم : مستحيل ! قذفناه مساء أمس ي البحر .
_ انظر مثلما يجب أيها الخادم ! الراعي يشبه حبة البسلة .
والحقيقة أن حبة البسلة هو الذي كان يسوق القطيع حاملا هراوة ، ويصيح بين وقت وآخر " أورش ! مورش ! " ( كلمتان بلا معنى ، المترجم ) .
ووقف الكاهن على أطراف أصابع قدميه تحسينا لرؤيته ، ثم هتف : حبة البسلة !
وقال حبة البسلة حال مروره ببيت الكاهن : طاب مساؤك سيدي الكاهن ! طاب مساؤك !
فقال الكاهن : كيف تكون أنت يا حبة البسلة لحما وشحما ؟!
_ نعم يا سيدي الكاهن ، إنه أنا لحما وشحما .
_ ومن أين جئت بكل هذه الحيوانات ذات القرون ؟!
_ آه يا سيدي الكاهن ! لا تحدثني في سيرتها ! لو قذفني خادماك عشر أقدام زيادة في البحر لجلبت أجمل حصانين أسودين لم يسبق لأحد في المقاطعة رؤية شبيه لهما ، لكنهما قذفاني بين هذا القطيع من الحيوانات ذات القرون التي جلبتها معي .
فوقع الكاهن في الفخ من جديد ، وصدق حبة البسلة ، وقال : لو ذهبت بنفسي يا حبة البسلة ، هل تعرف المسافة إلى الحصانين معرفة دقيقة ؟!
فأجابه : أتعهد لك يا سيدي الكاهن بألا تخيب ضربتي ! لو عاونني أحد خدمك هذا المساء فسأقذفك بين الحصانين الجميلين .
_ قبلت !
ومضى حبة البسلة بقطيعه إلى مزرعته ، ولما عاد مساء ساعد الكاهن في دخول الكيس ، ومضى به مع الخادم الذي حمله إلى البحر ، وهناك قال : لنقذف السيد الكاهن في عرض البحر !
فلحق بالرجل الساذج التعس في أعماق البحر حيث لبث ، وصار حبة البسلة بعد كل مكائده تاجر ماشية ذا شأن كبير .
*عن موقع " قصص من شتى البلدان " الفرنسي .
وسوم: العدد 697