الابن البار بأمه
عاش في غابر الزمان مزارع فقير مع أمه المسنة المترملة عند جبل ، وكان لهما قطعة أرض صغيرة توفر قوتهما ، واشتهر الاثنان بالتواضع والهدوء والسعادة . وكان يحكم المقاطعة التي يعيشان فيها والٍ مستبد طاغية يرتاع ارتياعا عظيما مثل ارتياع الجبناء _ رغم كونه محاربا _ من كل ما يوحي بضعف الصحة ونقص القوة ، الأمر الذي حضه إلى إصدار بيان قاسٍ لبابه مرسوم صارم لكل أهل المقاطعة بالإعدام الفوري لسائر المسنين . وكان المزارع يحب أمه حبا كبيرا ؛ لذا أفعم مرسوم الموت قلبه أسى وجزعا إلا أن أي شخص ما كان له أن يتردد في إطاعة مرسوم الوالي الصارم الحازم . وهكذا تأهب الشاب بالكثير من تنهدات اليأس العميق لما كان يحسب أرحم طريقة للموت . فحين انتهى عمله غروبا ، أخذ كمية من الأرز غير المقشر الذي كان هو القوت الأساسي للفقراء ، وطبخه ويبسه وربطه في قماشة مربعة علقها في صرة حول عنقه مع قرعة ملأها ماء فراتا باردا ، وحمل أمه المسنة العاجزة فوق ظهره ، ومضى في رحلة الآلام صاعدا الجبل . كان الطريق مديدا ، ضيقا ، مسرفا في تحدره ، تقاطعه بين مسافة وأخرى مجازات كثيرة دمثها الصيادون والحطابون . وضل الاثنان في بعض الطريق ، وتشابهت عليهما المجازات إلا أن المزارع ما بالى ذلك . لم يكن يعنيه في أي مجاز يسيران قدر ما كانت تعنيه نجاة أمه . وهكذا والى مسيره صاعدا كأنه أعمى صوب قمة الجبل العالية العارية الذي يسمى أوباتسوياما أو " جبل نبذ المسنين " . ولم تكن عينا الأم المسنة بالعاجزتين عن الرؤية المناسبة ؛ إذ إنها لاحظت السرعة المتطيشة لابنها في التنقل من مجاز إلى مجاز ، فاعترى القلق والخشية قلبها المحب له . إنه يجهل مجازات الجبل الكثيرة ، وهذا قد يحيل رجعته خطرة . فأخذت تبسط يدها وتقتطع الأماليد الناعمة من الآجام التي يجتازانها ، وشرعت بهدوء تطرح قطفات منها كل جملة خطا حتى تنقط الطريق الضيق وراءهما بالأماليد الصغيرة في مواضع كثيرة منه . وأخيرا اعتليا القمة منهكي الجسد ، محهدي القلب من الصعود الشاق ، فأنزل الشاب حمله إنزالا هينا لينا ، وأخذ يهيء صامتا موضعا لراحة من يحبها بحسبان ذلك آخر واجباته نحوها . ولم أعوادا ساقطة من الصنوبر ، وهيأ وسادة وثيرة رفع أمه حنونا إليها ، ولف سترتها المخططة لفا موثقا حول منكبيها المائلتين ، وودعها وداعا أبديا باكي العين موجع الحشا ، وقبل أن يفارقها وصته وصاتها الأخيرة بصوت مرتجف ، مفعم حبا وإيثارا قائلة : " احذر يا ولدي عمى البصر ! طريق الجبل مشحون بالمخاطر . انتبه ! واسلك الطريق الموجودة به قطفات الأماليد ! ستقودك نحو الطريق المألوف الهابط إلى أسفل الجبل ." ، فالتفت وراءه في ذهول ، وتطلع إلى يدي أمه الذابلتين اللتين خدشهما ووسخهما ما حملها من الحب إلى خدمته ، فانحطم قلبه ، ومال إلى الأرض ، وصاح عالي الصوت : "أماه أيتها المكرمة ! عطفك علي يحطم قلبي . لن أتخلى عنك . سنتبع سويا طريق الأماليد ، وسويا سنموت". وحملها ثانية ، وكم بدا حملها خفيفا هذه المرة ! ونزل بها الطريق مسرعا في الظلال وفي نور البدر نحو الكوخ الصغير في بطن الوادي . وكان تحت الطابق الذي تعيش فيه الدجاج خزانة للطعام مغطاة ومحجوبة عن العيون ، فأخفى فيها أمه ، وزودها بكل ما تحتاجه ، وتابع المراقبة خشية انكشاف مخفاها . وتصرم الوقت ، وبدأ يشعر بالأمان إلا أن الوالي أرسل رسله ثانية حاملين مرسوما لا معقولية فيه ، بل بدت فيه مباهاة بقوته وسلطته حيث طلب من الرعية تزويده حبل رماد ! وارتجفت كل المقاطعة رعبا : لا مناص من تنفيذ المرسوم ، لكن من له في كل شاننج القدرة على صنع حبل رماد ؟ وفي ليلة ، وفي كربه العظيم ، همس الابن لأمه بالنبأ المكرب ، فقالت : رويدك ! دعني أتفكر !
وفي اليوم التالي نصحته بما يجب أن يفعل . قالت : كون حبلا من جديل القش ، ومده فوق صف من الحجارة المنبسطة ، وأحرقه في ليلة ساجية الريح !
فجمع الناس وفعل ما قالت ، ولما خمدت النار بدا فوق الحجارة حبل رماد من جديل القش رائع الصنع ، فانسر الوالي من ذكاء الشاب وفطنته إلا أنه استفهمه عن مصدر حكمته ، فبكى وقال : ويلاه ! ويلاه ! لا مناص من قول الحق .
وروى ما حدث منحنيا انحناء تاما أمام الوالي الذي أصغى إليه ، ثم راح يتأمل ما سمعه ساكنا ، ورفع رأسه ، وقال صارما : شاننج في حاجة إلى ما هو أكثر من القوة . آه ! نسيت الحكمة السيارة التي تقول : " إنما تأتي الحكمة من الرأس الأشيب . " ، ومن فوره أمر بإبطال المرسوم القاسي ، وأضحت تلك العادة الهمجية المقيتة جزءا من الماضي الذي تتلبث فيه الأساطير .
*للكاتب والشاعر الياباني ماتسو باشو .
وسوم: العدد 713