نعم للحياة
اتبعت منذ أن شرعت في استكشاف الأصول التي تكون ذاتي طريقة في النظر إلى الأشياء والعالم إجمالا، قوامها اعتبار ذاتي أعمى : أعمى عن الحقيقة ، وأعمى عن الآخرين ومواقفهم . كانت رسالتي واضحة مع أنها ليست واقعية في ذاتها . والقاعدة التي هيمنت على حياتي هي : " حقق ذاتك ! وبهذا التحقيق تغير إلى الأحسن ! " ، لكن كيف لي بمعرفة جوهر ذاتي ؟! وما معنى " تغيير الذات إلى الأحسن " ؟! كيف لي أن أحسم ما الذي ينفعني وما الذي لا ينفعني أنا وتطوري الذاتي ؟! ما التأثير الذي يمكن ، بل يجب أن يكون لمحيطي على أسلوب كلامي وفعلي ؟! كيف لي أن أغير ذاتي وذوات غيري دون تجريح لهم ودون تقليل من قدرهم ودون كذب عليهم ودون قتل لهم ودون هدم لما بنوا ؟! أثارتني تلك الأسئلة وغيرها ، ودفعتني للبحث عن إجابات شاملة لها . وأجبت فعلا على كثير من تلك الأسئلة التي يعود تاريخ نشوئها إلى الزمن البعيد الذي صرت فيه " ذاتي أنا " إلا أن الأمر بالنسبة لي رغم كل تجربتي ، ورغم مقدار معرفتي ، هو قناعتي بأنني ما زلت بعيدا عن بلوغ غايتي في تحسين ذاتي . ودائما يكون تحليل سؤال : " ما معنى الحياة ؟! " ذا أولوية للبدء في تحسين الذوات . وتوصلت في حياتي إلى قناعة صفوتها أن كل إنسان يسأل السؤال السابق جاهزٌ للسير في طريق شاق يفضي إلى إجابة لهذا السؤال الذي يعد أكثر صلة بوجودنا الإنساني من سواه من الأسئلة . وجواب السؤال في أنفسنا ، في قراراتنا التي نتخذها ، في محيطنا الخاص ، في الأسلوب الذي نعبر به عن ذواتنا . ومنذ ميلادنا نحن مسيرون في طريق يحتم صلتنا بمحيطنا ، لكننا أحيانا نهمل في هذا الاتصال الشخصي الأعلى أهمية ووجوبية من سواه ؛ لأنه اتصال مع ذواتنا . إننا نشبع حاجاتنا ، ونكسب المال ونُرْبيه ، ونتجاوب مع محيطنا لنيل ما نريد ، ولنبني ولنبدع ، والسؤال : من أجل من ومن أجل ماذا نفعل كل ما سبق ؟! بعض الناس سيقول : " من أجل الله " ، وغيرهم سيقولون : " من أجل أقرب الناس إلينا " ، وحقيقة السبب أبسط من ذلك كثيرا : نحن نصنع عوالمنا الذاتية من أجل أنفسنا . إنها العوالم التي نتحرك فيها والتي تسير فيها حياتنا ببطء ، ولكن بثبات . نحن نتقبل هذه الحقيقة ليل نهار واعين لها أو غافلين عنها ، وإذا ما ساء حظنا وسألنا شخص : " من أنتم حقا ؟! " ، فلن نعرف ماذا نقول ، لن نعرف من نحن . لن نعرف مثلا لماذا نضع أنفسنا في أحوال شبه مميتة لمجرد تنمية تلك الأنفس مع أننا لن نعرف أبدا كنه حقيقتنا . نحن نأتي إلى هذه الدنيا ، ونحن أحرار فيها : أحرار من القيود ، وأحرار من كل حكم مسبق علينا ، وأحرار من كل نظام وقانون ، أحرار من كل ما نفرضه على أسلوب حياتنا لنبذل بعد ذلك كثيرا من الجهد للتخلص منه كأنه كان جلدا ثانيا لأجسادنا . وكلما كبرنا عمرا ازداد اعتقادنا بأن آباءنا وأجدادنا كانوا سيتصرفون مثلما تصرفنا لو قدر لهم أن يبلغوا من مستوى المعرفة ما بلغناه . وأخيرا لا يبقى سوى سؤال واحد : " ماذا سنفعل إن لم يبقَ في حياتنا شخص يعلم أكثر مما نعلم ، وإن لم يبق شخص نستشيره أو نتقاعد عنده حين تضربنا حياتنا وتخنقنا وتسحقنا ؟! " ، ومع ذلك توجد إجابات للأسئلة السابقة . وحالما نجد هذه الإجابات سيختفي الخوف ، ولن يكون قيود ولا ألم ، ولا غضب ولا سوء ظن ؛ لأننا في تلك اللحظة نكون تأكدنا من أن المعجزة قائمة في ذواتنا . نحن نعيش في زمن ما عاد فيه معنى لقيم مثل الحب والأمانة والقوة والإخلاص والوحدة . إن تلك القيم الآن تشبه صورا منتزعة من عهد آخر نسيه الناس منذ زمن بعيد إلا أنه موجود في حياتنا ويظهر من حين إلى آخر لتذكيرنا بوجوده ، لكن ما الذي تعنيه تلك المفاهيم حقيقة ؟! وأهم من ذلك : ما الذي تعنيه لنا شخصيا في مسيرة تفتحنا وازدهارنا ؟! الواقع أن كثيرين يطرحون تلك الأسئلة ليل نهار واعين لها أو غافلين عنها ، ومع ذلك نسأل : هل نحن جاهزون أيضا للسير في هذا الطريق الشاق والعمل باجتهاد بحثا عن إجابات لتلك الأسئلة ؟! جوابي : نعم ، نعم للذين لا يكتفي طموحهم بمحض الوصول إلى ذواتهم ، وإنما يتعداه إلى الوصول إلى الآخرين والاتصال بهم . نعم للجاهزين لاتخاذ قرارات للمصلحة العامة ، ولديهم جاهزية أيضا لتحمل تبعات قراراتهم تلك . نعم ل "نحن " ، نعم لطريقتي ، نعم لطريقتك ، نعم للحياة !
*الكاتب الفرنسي بيتر سبيجلباور .
وسوم: العدد 723