هكذا لقي الله عمر
الأديب الكبير
الأستاذ: علي أحمد باكثير(عمر بن عبد العزيز على فراش مرضه و هو يجود بنفسه ، وعنده زوجته فاطمة و أخوها مسلمة بن عبد الملك)
مسلمة: ألا تذكر يا أمير المؤمنين من أسقاك الحساء ذلك اليوم؟
عمر: لا أذكر إلا أني شربته فكأنما أشرب الرصاص الذائب.
فاطمة: لا أحد يسقي أمير المؤمنين غيري و غير غصين خادمه.
عمر: حاشاك يا فاطمة و حاشاه! إنه ليحبني و أحبه.
مسلمة: لعل أحدًا دفعه إلى ذلك يا أمير المؤمنين؟
عمر: لا تقل يا مسلمة ما ليس لك به علم.
مسلمة: لقد رابني وجوم الغلام من يومئذ.
فاطمة: أجل لم يعد غصين كما كان من قبل.
عمر: سبحان الله! إنه ليأسى لمرض مولاه . . بحياتي عليكما لا يرين منكما أنكما تتهمانه.
مسلمة: كلا يا أمير المؤمنين ، ما أريناه شيئًا من ذلك.
عمر: عسى أن يكون قد أحس بما يجول في قلوبكم فركبه من جراء ذلك خوف . . علي به يا فاطمة لعلي أزيل مابقلبه.
((تخرج فاطمة))
عمر: إنه القدر يا مسلمة . . هو الذي أسقاني ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
مسلمة: لولا كراهيتي أن أثقل عليك لجادلتك.
عمر: لا تفعل ، فأبغض شيء إلي الجدال و المراء.
فاطمة: (تعود) هو ذا غصين يا أمير المؤمنين.
عمر: ادخل يا غصين . . . هل لكما أن تتركاني وحدي مع غصين؟
مسلمة: حبًا و كرامة يا أمير المؤمنين.(يخرج و فاطمة)
عمر: لا تخف يا غصين ، هلم ادنو مني. أو لا تسأل عن حالي؟
غصين: (في أسى ظاهر) كيف حالك اليوم يا أمير المؤمنين؟
عمر: الحمد لله . . أجدني اليوم أقرب إلى الآخرة مني إلى الدنيا.
غصين: (يطفر الدمع من عينيه) بأبي أنت و أمي يا أمير المؤمنين.
عمر: ويحك! ماذا يبكيك يا غصين؟
غصين: لوددت لو أن الذي بك كان بي.
عمر: إن لكل منا أجلًا لا يعدوه و إني لقادم على رب كريم ، فجدير بمن يحبني ألا يشفق علي من خير. أولا تحبني يا غصين؟
غصين: بلى والله يا أمير المؤمنين.
عمر: فهل لك أن تحلني من كل إساءة ربما أسأتها إليك دون أن أعلم؟
غصين: (ينشج باكيًا) حنانيك يا أمير المؤمنين. أنا المسيء إليك و إنك المحسن المتفضل. تبًا لي. تبًا لي أبد الدهر.
عمر: مهلًا لا ينبغي أن تدعو على نفسك.
غصين: اقتلني يا أمير المؤمنين. مرهم بقتلي فإني أستحق القتل.
عمر: صه! أخفض صوتك لا يسمعوك.
غصين: لا أبالي يا أمير المؤمنين إذا أنت غفرت لي كبير جرمي.
عمر: أخفض صوتك . . . أخفضه من أجلي.
غصين: (بصوت خافض) اغفر لي يا أمير المؤمنين . . اغفر لي.
عمر: الله وحده ولي المغفرة ، و لكني مسامحك و محلك من حقي إذا أنت صدقتني الحديث.
غصين: إي والله يا أمير المؤمنين لأصدقنك القول و لا أخفي عنك شيئًا.
عمر: أخفض صوتك.
غصين: (يخفض صوته) أنا الشقي الأبعد قد دسست لك السم في الحساء.
عمر: قد علمت يا غصين يوم أسقيته لي.
غصين: علمت ذلك فلم تكلمني إلا اليوم؟
عمر: وما كنت لأكلمك لولا محبتي لك و إشفاقي عليك من عذاب يوم القيامة.
غصين: وما ينجيني من ذلك يا أمير المؤمنين و قد استوجبته بما فعلت؟
عمر: رجوت يا غصين أن تندم و تستغفره عسى أن يتوب الله عليك.
غصين: و لهذا كلمتني؟
عمر: نعم. خبرني ما حملك على ما فعلت؟
غصين: الطمع يا أمير المؤمنين.
عمر: أعطيت شيئًا على ذلك؟
غصين: نعم. لأخبرنك بالذي أعطاني.
عمر: كلا لا تفعل. و لكن خبرني كم أعطاك؟
غصين: ألف دينار يا أمير المؤمنين.
عمر: قبضتها؟
غصين: لا يا أمير المؤمنين حتى .. حتى ..
عمر: حتى أموت؟
غصين: أجل واشقوتاه!
عمر: ويحك إن مت فلن يعطوها لك ، و عسى أن يقتلوك لكيلا تفشي سرهم. فهل لك يا غصين في خير من ذلك عسى أن تنجو من عذاب الدنيا و سوء عذاب الآخرة؟
غصين: كيف يا أمير المؤمنين؟ أرشدني.
عمر: تمضي الساعة إلى صاحبك فتقبضها منه ثم تعود بها حالًا إلي.
غصين: ما أخاله يرضى يا أمير المؤمنين.
عمر: قل له أنك ستخبرني باسمه إن لم يفعل ، فإنه سيخاف و يعطيك . . انطلق الساعة.
غصين: سمعًا يا أمير المؤمنين ، يا أكرم الناس.(يهم بالخروج)
عمر: رويدك يا غصين ، امسح هذا الدمع من عينيك. و إياك أن تخبر أحدًا فهذا سر بيني و بينك.
غصين: (يمسح الدمع عن عينيه) واشقوتاه.
عمر: إذا سألك أحد فقل إني بعثتك في مهمة. انطلق الآن.
(يخرج غصين)
عمر: (يتمتم) اللهم اغفر لعبدك غصين.
(يدخل مسلمة و فاطمة)
مسلمة: بعثت الغلام في مهمة يا أمير المؤمنين؟
عمر: نعم. ذكرت وديعة عند صاحب لي فبعثته في طلبها منه.
فاطمة: وديعة؟
عمر: هلمي يا فاطمة فقد آن لي أن أفضي إليك بشيء طالما جال في صدري.
مسلمة: (يهم بالخروج) هل لي يا أمير المؤمنين أن أدعك و زوجك؟
عمر: بل تبقى يا أخي ، إنها أختك و من الخير أن تشهد. أصغي إلي يا فاطمة.
فاطمة: نفسي فداؤك يا أمير المؤمنين.
عمر: أتذكرين حليك و جواهرك التي أودعناها في بيت المال؟
فاطمة: قد طابت نفسي عنها يا أمي المؤمنين ، فما بالها؟
عمر: إنها لم تزل بحالها . . وعليها اسمك لم يستهلكها بيت المال بعد ، وإني لأعلم أن الذي يأتي بعدي لن يصرفها في حقها . . فإن تكن نفسك فيها وأنت بها أولى.
مسلمة: أجل هي حقك يا فاطمة و أنت بها أولى.
فاطمة: إذا أذنت يا أمير المؤمنين فإني سآخذها و أتصدق بها على الأيامى و اليتامى.
عمر: أحسنت يا فاطمة. أما والله ليعزيني عن باطل الدنيا إن من أهلي وولدي من أرجو أن يشفع لي يوم القيامة بصلاحه و تقواه.
فاطمة: بل أنت شفيعنا جميعًا يا أبا عبد الملك.
عمر: كلا يا فاطمة. لأنت في زهدك فيما تهفو إليه قلوب النساء من الزينة و المتاع أتقى لله مني. و كذلك ابني عبد الملك - يرحمه الله – إذ اتقى الله وهو في ريعان صباه.
مسلمة: والله ما صلح هؤلاء يا أمير المؤمنين بصلاحك.
عمر: (يعرض عن مسلمة إلى فاطمة) ولي حاجة أخرى يا فاطمة.
فاطمة: ما هي يا أمير المؤمنين؟
عمر: إن الخلافة قد شغلتني زمنًا عنك و عن القيام بحقك ، فهل لك أن تجعليني في حل؟
فاطمة: (تبكي) ويحك يا أبا عبد الملك ، أفي هذا تكلمني؟ إني لأرجو بذلك ثواب الله و الدار الآخرة. و لئن شغلت عني بأمر المسلمين لطالما عنيت بي يا عمر في أيامنا الأول!
عمر: أجل وددت لو بقينا يا فاطمة كما كنا و لم يطوقني بالخلافة أخوك سليمان.
مسلمة: يا أمير المؤمنين والله ما أعرف لأخي سليمان من عمل أرجى له عند الله من ذلك. لقد والله أرضيت الله و أرضيت المسلمين عنا ، و بيضت وجوهنا نحن آل مروان.
عمر: ويحك يا مسلمة إنما ذلك يوم القيامة يوم تبيض وجوه و تسود وجوه ، و ما أرى آل مروان إلا ساخطين علي.
مسلمة: لئن ضاقوا ببعض شدتك عليهم ، إنهم بعد ليفخروا بك.
عمر: زهو الجاهلية الجهلاء. ويلهم! أما والله لأكونن حجة عليهم يوم القيامة.
مسلمة: صدقت إن شئت يا أمير المؤمنين اقتصصت لك من غريمك فيهم و لو كان..
عمر: على رسلك يا مسلمة لا تداورني. إنه لا غريم لي فيهم و لا في غيرهم. أم تريد إغضابي؟
مسلمة: معاذ الله يا أمير المؤمنين، ما أبتغي غير رضاك.
فاطمة: سامح أخي يا أمير المؤمنين فإنه ليحبك.
عمر: و إني لأحبه يا فاطمة، و أقدر جهاده في سبيل الله و حسن بلائه.
(يقرع غصين الباب مستأذنًا)
مسلمة: هذا غصين يا أمير المؤمنين.
عمر: ادخل يا غصين.
(يدخل غصين حاملًا صرة كبيرة)
عمر: أتيت بالوديعة يا غصين؟
غصين: نعم يا أمير المؤمنين.
عمر: أشتهي أن أخلو به مرة أخرى، فهل لكما..؟
مسلمة: حبا يا أمير المؤمنين.(يخرج و فاطمة)
عمر: هلم ادن مني و أخفض صوتك. هذه الألف دينار؟
غصين: نعم يا أمير المؤمنين.
عمر: وددت يا غصين لو أدع هذه الدنانير لك لولا خشيتي أن تلتهب عليك نارًا يوم القيامة. فهل لك في خير من ذلك.. أن أعيدها إلى بيت مال المسلمين؟
غصين: افعل ما ترى يا أمير المؤمنين. إني والله ما أريدها و ما في الدنيا أبغض إلى نفسي منها.
عمر: بوركت يا غصين! ما أرى إلا أن الله شاء أن يتوب عليك. امض الآن فأنت حر لوجه الله.
غصين:(يبكي) أوتعتقني يا أمير المؤمنين؟
عمر: نعم.. اذهب حيث شئت، حيث لا يعرفك أحد.
غصين: ألا أبقى يا أمير المؤمنين في جوارك و خدمتك؟
عمر: ويحك يا غصين ما تخدم من رجل محتضر، إن أمسى فلن يصبح، و إن أصبح فلن يمسي.
غصين: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين.
عمر: انطلق ويلك و لا تقم بين هؤلاء فيقتلوك.(يدخل مسلمة)
مسلمة: معذرة يا أمير المؤمنين. لا ينبغي أن ينجو هذا الغلام من عقوبة ما اجترم.(يأخذ بزند الغلام)
عمر:(غاضبا) ويلك يا ابن عبد الملك، أوقد تسمعت إلى حديثنا؟
مسلمة: لا والذي نفسي بيده يا أمير المؤمنين، و لكن طرق معنا صوتك و صوته.
فاطمة:(تتدخل) أجل يا أمير المؤمنين.. لقد صدق مسلمة.
عمر: فلتكتما إذن ما سمعتما، فإني قد سامحته و عفوت عنه. خل عنه يا مسلمة فقد عتقته لوجه الله.
مسلمة: لا والله يا أمير المؤمنين، لا يكون جزاء العبد الغادر أن يعتق لوجه الله. لا بد من أخذه بجريرته.
عمر:(في لين) ويحك يا مسلمة! إن أخذت الغلام بجريرته ليحقن عليك أن تأخذ الآخرين بجريرتهم. و إذا لتكونن في أهلك فتنة لا يعلم عاقبتها إلا الله.
مسلمة: لا بأس فليكن وقودها من يكون!
عمر:(متوسلا) أنشدك الله يا ابن عمي أن لا تعصي أمري في آخر يوم لي في هذه الحياة الدنيا. كلمي أخاك يا فاطمة.
فاطمة: أطع أمير المؤمنين يا مسلمة فإنه لينظر بنور الله.
مسلمة:(يرسل الغلام من قبضته) لأمير المؤمنين منا ما يحب.
فاطمة: حول وجه عنا يا غصين.. اذهب لا بارك الله فيك.
عمر: بل غفر الله له و بارك فيه. امض يا غصين و استغفر الله لي و لك.
(ينشج غصين هنيهة ثم يخرج)
عمر:(يئن متوجعاً) وا رأساه!(يتهاوى على فراشه مغشيا عليه)
فاطمة: وي! قد غشي عليه يا مسلمة!
مسلمة: تجلدي يا أختاه. إنما هي غشية و يفيق.
عمر:(يفتح عينيه كالمذعور و يهم أن يهب فلا يستطيع) مسلمة! مسلمة!
مسلمة: لبيك يا أمير المؤمنين.
عمر: أين الصرة التي جاء بها غصين؟
مسلمة: هي ذي يا أمير المؤمنين بين يديك.
عمر: إنها ليست لي يا مسلمة، إنها لبيت المال. أوصيك أن تحملها إلى بيت المال.
مسلمة: سأفعل يا أمير المؤمنين.
عمر: جزاك الله عني خيرا يا أبن عمي. و أنت يا فاطمة..
فاطمة:(متجلدة) نعم يا أمير المؤمنين.
عمر: هل لك أن تحليني من كل حق لك علي؟
فاطمة:(تبكي) قد فعلت يا أمير المؤمنين؟
عمر: جزال الله عني خيرا من زوج صالحة! أستودعك الله يا فاطمة.(يشخص ببصره إلى أعلى) اللهم أرضني بقضائك، و بارك لي في قدرك، حتى لا أحب لما أجلت تأخيرا و لا لما أخرت تعجيلا.(يتهلل وجهه بالبشر فجأة) مرحبا.. بكرام طيبين!
فاطمة: بمن يا أمير المؤمنين؟
عمر: بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس و لا جان.
فاطمة: نفسي فداؤك يا عمر!
عمر:(كأنه لم يع شيئا مما حوله) تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين. أشهد أن لا إله إلا الله، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله.(يردد مسلمة و فاطمة الشهادتين في رقة و خشوع)
عمر:(يصحو صحوة) غصين! أين غصيتن؟
مسلمة:(متجلدا) قد مضى لسبيله يا أمير المؤمنين.
عمر:(بصوت ضعيف) الحمد لله.(يتحشرج) اللهم اغفر.. لعبدك.. غصين.. و اغفر.. لعبدك.. عمر.. مع عبدك.. غصين.
((يسلم الروح))
(ستار)