لوحات مقدسية
( مسرحية استعراضية )
تأليف : هاشم عبد السلام الكفاوين
القصائد : فريد سرسك – مريم العموري – محمد السرميني – هاشم الكفاوين
الشخوص :
ـ الراوي ـ هرقل ـ جاي ـ الأسقف ـ جيرار
ـ باليان ـ لوكان ـ جودفري ـ البطريق
ـ صلاح الدين ـ الطفل ـ بلال ـ مجاميع
ملاحظة :
الشخوص أعلاه متغيرة إلا من أسمائها ، ولها أكثر من امتداد زمني. وإنما جاء ذلك للتخفيف من عدد الفريق المسرحي ، ولا بأس من ابراز ذلك – عمليا – من خلال العناصر المساعدة كاللباس ، وذلك حسب طبيعة الظرف الزماني للمشهد.
المكان العام :
ساحة محاطة بسورين حجريين من اليمين واليسار ، في كل منهما نافذة وبوابة تفضيان إلى الخارج . وسور ثالث في عمق المسرح فيه بوابتان كبيرتان تفضيان إلى الواجهة الأمامية للمسجد الأقصى ، يتقدمه مستويان من الدرج ..
تدور الأحداث في الساحة مع تغيير الأثاث والمحتويات في كل لوحة تبعا لطبيعة المشهد.
]الافتتاحية : سلام عليك[
( تدخل المجاميع من كل ناحية ، يغنون للقدس في استعراض مهيب )
حنانيك يا قدس يا ثورتي وحبي وروحي وريحانتي
ألحن السواقي سلام عليك يناجي المآقي فتهفو إليك
سلام سلام سلام عليك
حنانيك يا قبلة العاشقيـن وأشواق مكـة في الأولين
أوجد الضلوع سلام عليك وكل الجموع فدا لاحظيك
سلام سلام سلام عليك
لعينيك نشدو ويحلو النشيد بلحن الكفاح وهمس الشهيد
يروي ثـراك سلام عليك فـؤاد هـواك فضم إليك
سلام سلام سلام عليك
]اللوحة الأولى : المولد[
(يدخل الحاجب " باليان" معلنا وصول "هرقل" )
باليان (بصوت عال) : مولاي "هرقل" العظيم .. امبرطور الدولة الرومية ..
(يدخل "هرقل" على أصوات الطبول –مارشات- ومعه القائد الأول "جاي" ، ومن خلفهما بعض أفراد الحاشية، يتوسطهم الأسقف الكبير حاملا البخور. يتحرك الموكب في استعراض داخل المكان وسط انحناءات الموجودين. يأخذ "هرقل" مكانه على عرشه في عمق المسرح .. )
هرقل : "باليان" ..
باليان (وهو ينحني أمام "هرقل" حتى ليكاد رأسه يلامس الأرض) : مولاي …
هرقل : هل من جديد بشأن الرؤيا .. ؟
باليان (بحرج) : الرؤيا ؟! .. آه .. نعم الرؤيا … مولاي الامبرطور .. المنجمون والعرافون والكهنة في دولتكم ، يستأذنونكم في أن تقصوا رؤياكم عليهم ، حتى يقضوا بتأويلها يا مولاي.
هرقل (بغيظ) : قلت لك من قبل .. إنني لن أفعل ذلك ..
باليان : ولكن يا مولاي ..
هرقل (مقاطعا) : قلت إنني لن أفعل ذلك .. إني إن أخبرتهم بها ، لم أطمئن إلى خبرهم عن تأويلها. لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها ..
باليان (بعفوية) : مستحيل .. أعني يا مولاي لو أنك أذنت لنا فأخبرتنا …
هرقل (بغضب) : ويلك .. ألا تفقه ما أقول ؟!
باليان : بلى يا مولاي .. (يقترب من الامبرطور ويهمس له بصوت مسموع) واحد فقط في امبرطوريتكم يا مولاي ، أجزم بأن لديه علما في ذلك ..
هرقل (بانتباه) : من تعني ..؟
باليان (يشير بنظره إلى الأسقف) : الأسقف الحكيم .. عالم زمانه .. كلما أثرت الحديث معه بشأن رؤيا مولاي فزع وتهرب كمن يخفي شيئا ..
هرقل (يوجه حديثه للأسقف) : ماذا تقول أيها الأسقف .. أعني بشأن الرؤيا ؟
الأسقف (يتقدم باتجاه الامبرطور وقد ظهر عليه القلق ) : أدام الرب مولاي الامبرطور وحفظ ملكه وسلطانه .. أما لو أن مولاي أعفاني من ذلك ..
جاي (يتدخل) : أو علم لديك بشأن الرؤيا تخفيه عن مولانا الامبرطور ؟!
الأسقف : (صمت)
هرقل : الحيرة تقتلني أيها الحكيم ، وما من أحد أفزع إليه ..
الأسقف (بعد تردد وقد تقدم من الامبرطور أكثر) : أهو أمر عظيم وحدث جسيم ذاك الذي أفزع مولاي ؟
هرقل : أجل أيها الأسقف ..
الأسقف (بعد لحظات صمت) : هل رأى مولاي تمثالا عظيما ، رفيع القامة مخيفا ؟
هرقل (يقوم عن كرسيه وقد تهلل فرحا) : نعم أيها الأسقف .. !
الأسقف (متابعا) : كان التمثال يقف قبالة مولاي .. ثم إن مولاي رأى حجرا صغيرا ، ينقطع من جبل. ضرب الحجر التمثال العظيم فسحقه غبارا تذروه الرياح .. أما الحجر الصغير ..
هرقل (حاثا إياه على متابعة كلامه) : أما الحجر الصغير …
الأسقف : فصار جبلا عظيما ملأ الأرض بأسرها …
هرقل (بفرح) : أصبت أيها الأسقف الحكيم .. هذه رؤياي كأنك رأيتها. قل أيها الأسقف .. ما عندك في تأويلها ؟
الأسقف (بحزن) : مولاي الامبرطور .. لست أرجو أن أسوءك ، وما بخاطري أن أحزنك .. لعلها أضغاث أحلام يا مولاي و ..
هرقل (مقاطعا) : الأمر خطير إذن ؟ .. قل أيها الأسقف ولا تخف شيئا ..
الأسقف (بتردد واضح) : إن صدق حدسي .. فإن مولاي قد رأى نهاية دولته وانتهاء سلطانه.
جاي (بعد صمت مطبق) : هل جننت ؟ ما الذي تهذي به ؟!
باليان : لعلك أخطأت أيها الأسقف ..
جاي : نعم أخطأ وأساء هذا العجوز.. الهرم ..وتجرأ على أن ..
هرقل (يشير لهم بالسكوت) : إن هذا لغائظ موجع .. ولكن كيف ؟
الأسقف : يا مولاي .. هذا زمان أمة يبعثها الله .. ملكها لا يعطى لأمة أخرى .. ما سواها من الأمم يندثر ويزول ، وهي تثبت إلى يوم القيامة ..
هرقل (كأنه يخاطب نفسه) : أمة يبعثها الله .. تثبت إلى يوم القيامة ؟! .. ومن يكون ملكها ؟
الأسقف : نبي مرسل يأتيه الوحي من السماء .. يملأ الأرض عدلا ونورا مثلما ملئت ظلما وجورا ..
هرقل : ومن أين يخرج هذا النبي ؟
الأسقف : في الكتاب – يا مولاي – إن الرب جاء من سيناء ، وأشرق من سعير ، وتلألأ قادما من فاران ومعه ألوف الأطهار ..
هرقل : فاران ؟!
الأسقف : جبل من جبال مكة ..
جاي : إنها على مسيرة ثلاثة أيام من "أيلة" .. فيها الكعبة .. البيت الذي يقدسه العرب ..
الأسقف : أن مجد الرب يشرق على الأرض من جديد .. اقترب ملكوت السموات ، وأقبل النور الذي يعلن مملكة السلام في الأرض .. وآن للشعوب أن تتوب ..
هرقل : أحقا ما تقول أيها الأسقف ؟ .. أهو صدق وحق ؟!
(في هذه اللحظة تلوح أنوار باهرة في المكان ، تعود فتشتد . ويدخل الراوي في زي راهب وهو يدور في المكان ويردد والصدى يتجاوب معه : )
الراوي : ورب الشفق والغسق .. ورب القمر إذا اتسق .. إنه لصدق وحق .. طلع الليلة نجم أحمد ؛ نبي زكي .. يأتيه الوحي من العلي .. رسول مرسل .. يأتي بالحق والعدل.. تبصروا يا أهل الخير والفضل .. (يكرر) ورب الشفق والغسق .. ورب القمر إذا اتسق .. إنه لصدق وحق .. طلع الليلة نجم أحمد …
(يخرج "هرقل" وحاشيته .. وتدخل المجاميع بشكل استعراضي ، يغنون في استقبال مولد محمد صلى الله عليه وسلم ويرددون : )
الكـون أشرق بالضياء والليـل آذن بالمغيب
والنفس أضرمها الحداء فاليوم قد ولد الحبيب
الكوكب الـدري مـال نحـو الأمين المحتفى
والنجم حين ازدان قال يا مرحبا بالمصطفى
في يوم ميلاد الحبيب
قمر يشـق طريـقه يمشي الهوينا في الدجى
خلوا الطريق أمامـه فـمحمد المخـتار جـا
في يوم ميلاد الحبيب
إيوان كسرى زلزلا وعروش قيصر في أفول
والحق جـاء مهللا في يـوم ميلاد الرسول
في يوم ميلاد الحبيب
]اللوحة الثانية : الإسراء[
(تخرج المجاميع مع ختام الأغنية بشكل استعراضي .الوقت يتحول تدريجيا إلى الليل."هرقل" وبصحبته "جاي" يظهران في مقدمة زاوية المسرح ، حيث المكان مرتفع يشرف على بيت المقدس )
هرقل : ها إني أنظر نحوها ويعتصرني الألم في كل لحظة . أحلم باليوم الذي تعود فيه سالمة فأظللها تحت عباءتي من جديد .. أتساءل إن كان هذا سيتحقق وأنا على قيد الحياة ؟
جاي : ما من شك في هذا يا مولاي .. الفرس الآن على حافة الانهيار .. وانتصاراتنا تتوالى عليهم كالصواعق من كل جانب ..
هرقل : تكاد تمزقني الذكريات .. لا أكاد أتصور كيف نجحوا في هجومهم وتوغلوا في مصر والشام وباقي أجزاء الدولة .. وأسوأ من هذا كله أن يتجرءوا ويحاصروا القسطنطينية ..
جاي : كان هذا منذ سنوات يا مولاي .. أنت الآن ترد لهم الصاع صاعين .. إن هي إلا المعركة الفاصلة وتنجلي الأمور على خير ما تحب يا مولاي ..
هرقل : وإيلياء .. (يخاطبها) متى تعودين يا إيلياء ..؟
باليان (داخلا) : لم يبق الكثير يا مولاي ..
هرقل (بفرح) : باليان .. وأخيرا عدت بعد غياب طويل ..
باليان : وجئت مولاي بما يسره ويسري عنه .. جئتك بخبر الرجل يا مولاي ..
هرقل : هات ما عندك .. كلي آذان صاغية ..
باليان : أمر يدعو للدهشة يا مولاي .. لقد تنبأ بقرب انتصارك على عدوك .. جاء ذلك في كتابه ؛ القرآن (يفتح صحيفة في يده ويقرأ : )
" ألم ، غلبت الروم في أدنى الأرض ، وهم من بعد غلبهم سيغلبون ، في بضع سنين .لله الأمر من قبل ومن بعد ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء ، وهو العزيز الحكيم ".
هرقل (يردد) : في بضع سنين .. في بضع سنين .. هذا فأل حسن وخبر تنشرح له الصدور (يلتفت إلى "باليان") قل لي يا "باليان" .. حدثني .. فكيف وجدته ؟
باليان : في وجهه نور صدق ويقين .. وفي نظراته معنى التواضع والحياء. يحير سامعه بكلماته البسيطة العذبة لكنها قوية ..تجذب العدو قبل الصديق .. لو أنني يا مولاي توسمت النبوة في أحد لما اخترت غيره ..
هرقل : لم تظن ذلك ؟!
باليان : ماذا يقول مولاي في رجل ، عرض عليه المال والشرف والملك – وهي غاية ما نسعى إليه في هذه الحياة – لأجل أن يتخلى عن دعوته فرفض كل ذلك ..؟! أتدري ما كان جوابه يا مولاي .. " إنهم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه " ..
هرقل : وماذا عن أتباعه ؟
باليان : ما ارتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن دخل فيه ، إنهم يزيدون يوما بعد يوم .. وإيمانهم بدعوته يستوطن قلوبهم ثم يمتد تماما مثل أشجار الزيتون ..
جاي (يتدخل) : مهما يكن فلا أظن رجلا بمفرده يتحدى الناس جميعا .. إنه لن يصمد أمام كبرياء العرب وهو يطلب منهم أن ينخلعوا من تراث آبائهم وأجدادهم . يقولون يا مولاي : إن العربي يفضل الموت على أن يتخلى عن تقاليده المتوارثة .. إنهم يعبدون الحجارة لأن آباءهم كانوا يفعلون ذلك ..
هرقل (يخاطب نفسه بصوت مسموع) : من يدري .. والله إن كان ما يقول "باليان" حقا ، فسيملك الرجل موضع قدمي هاتين . آه لو أعلم أني أصل إليه لتجشمت لقاءه .. ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه (يتنهد بحسرة) ماذا عن الروم لو اتبعوه فتدين لهم الدنيا وتسلم لهم آخرتهم ؟! هل يفعلون ذلك … لا .. لن يرضوا أن يسلموا قيادهم لعربي جاء من الصحراء ..
(يدخل الأسقف وقد بدا عليه التعب)
هرقل : لقد تأخرت على غير عادتك أيها الأسقف ..
الأسقف : معذرة يا مولاي .. ولكنني انتظرت حتى نامت عني أعين الفرس المنتشرة في كل مكان ..
هرقل : هل من جديد أيها الأسقف ؟
الأسقف : إنهم يضعفون في كل يوم .. أنباء هزائمهم المتلاحقة تأكل من عزائمهم ..
هرقل : والمدينة المقدسة ؟
الأسقف : ماذا عساي أقول يا مولاي .. الخراب والدمار في كل مكان .. مذ سقطت بأيديهم لم يسلم دير ولا كنيسة من بطشهم ومن معهم من المرتزقة ..
هرقل : مرتزقة .. من تعني ؟!
الأسقف : أولئك الذين أعانوا الظالم على ظلمه .. من أمنهم مولاي وجعلهم في رعيته ، فغدروا ونقضوا ميثاقهم .. من غيرهم يا مولاي عادى رسول المحبة والسلام وتآمر عليه ..؟
هرقل : أتعني أنهم كانوا وراء كل هذا الذي حدث ؟!
الأسقف (يهز رأسه بحزن موافقا) : لما داهمنا الفرس ، أردنا سلامة المدينة ففاوضناهم في ذلك ونجحنا، غير أن أولئك افتعلوا قتالا فيها ليفوتوا علينا الفرصة .. عمت الفوضى ، فضيق الفرس علينا .. ثم استباحوا المدينة ثلاثة أيام يقتلون ويأسرون وينهبون ويحرقون .. حتى إذا أخذ الدم مأخذه .. افتدوا الأسرى ثم .. (يصمت قليلا) ثم أعملوا فيهم السيف وذبحوهم .. سبعون ألفا يا مولاي .. خاض القتلة في دمائهم بلا شفقة ولا رحمة ..
هرقل (بعد لحظات صمت ) : أي شريعة غاب امتلأت بها عقول أولئك ؟! هل كنا سنفعل مثل هذا فيهم لو أن الغلبة كانت لنا عليهم .. ؟ هل نخوض في دمائهم مثلما فعلوا ؟ أم نعفو ونصفح ونسالم ..؟
باليان : التسامح لا يلغي العدالة يا مولاي ..
هرقل : التسامح لا يلغي العدالة ..أي تسامح يلغي كل هذا الذي فعلوه ؟! (بلهجة آمرة) "باليان" ..
باليان : مولاي ..
هرقل : اكتب .. (يتناول "باليان" صحيفة ودواة ويكتب ما يملى عليه) .. هذا ما عاهد "هرقل" نفسه عليه أمام الرب .. لأن أمكنه من يهود ، لينكلن بكل ابن امرأة منهم جزاء بما فعلوا .. وإن إيلياء محرمة عليهم لا يدخلونها .. ولا يقربونها من ثلاثة أميال في كل اتجاه .. عهد لا يتغير ولا يتبدل ما كان فينا عرق ينبض بالحياة ..
(أنوار تضاء وتشع من ناحية عمق المسرح حيث المدينة المقدسة )
هرقل : ما الذي يحدث ؟!
جاي : لا أدري يا مولاي .. إنه أمر غريب حقا .. الأنوار تملأ المدينة المقدسة .. إنها تذكرني بأنوار تلك الليلة .. !
هرقل : النور أشد هذه المرة .. إنه يخرج من قلب المدينة .. من أين يا ترى ؟!
الأسقف (بثقة) : من مكان يقدسه الرب .. من البقعة المقدسة يا مولاي ..
هرقل : ما الذي يحدث أيها الأسقف ؟!
الأسقف : ليلة مباركة .. زائر عظيم عند الرب حل ضيفا على مدينة السلام ..
هرقل : زائر عظيم ؟!
الأسقف : أجل .. زائر مبارك جاء يشرف بنوره بيت المقدس ..
هرقل : تعني أنه … أين يكون الآن ؟
الأسقف : في بيت الرب .. قرب الصخرة يا مولاي .. (يخاطب المدينة) تزيي يا إيلياء المباركة بنور الله .. وهنيئا لك هو ذا السيد الذي عنه تفتشين .. ورسول العهد الذي به ترغبين وتسرين .. ها هو بطلعته البهية يزرع فيك الخير ثم يشق طريقه إلى السماء .. إنها تنتظر قدومه بلهفة وشوق …
(يخرج الجميع مع تعتيم الإضاءة في الساحة .. لتسلط الإضاءة على عمق المسرح حيث تفتح البوابتان للداخل فيظهر المسجد الأقصى يشع نورا بحيث يبدو وكأن النور يتسرب من نوافذه . المجاميع تتوافد وتتشكل في استعراض .. ويؤدي الجميع وصلة الإسراء يرددون : )
أي ذكرى من سناها رقص العرش وتاها
وتغنـى فـي فخار زارني المحبوب طه
ليلة الإسراء والمعراج أكرم بضياها
قد رقى ظهر البراق ماضيا عبر الفضاء
في مدى سبع طباق من سماء لـسماء
ليلة المعراج تيهي في تحد وإبـاء
من حمى البيت الحرام نفحة في القدس كانت
وكـرام الرسل نادت خير مبعوث أتـانـا
ليلة الإسراء والمعراج أكرم بضياها
]اللوحة الثالثة : الجلاء[
(تغلق البوابتان بهدوء وتخرج المجاميع .. يدخل "هرقل" و "جاي" و"جيرار" ، يأخذون أماكنهم في صمت . تسمع أصوات حوافر حصان قادم من بعيد إلى المكان . يتوقف وقع حوافر الحصان ويتردد في المكان صوت الراوي يقول : )
صوت الراوي : بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله ، إلى "هرقل" عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام .. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن لم تفعل فعليك إثم الأريسيين "ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون "
هرقل : ماذا عندك يا "جاي" ؟
جاي : إنهم يتجهون إلى هنا .. كانت بشرى نبيهم أن يفتحوا قصور بصرى والشام وهم يؤمنون بذلك ..
هرقل : إذا قاتل القوم عن تصديق فإنهم يقاتلون بقوة ..
جيرار : المدينة المقدسة محصنة .. لن يتمكنوا من اختراق أسوارها ..
جاي : لن تصمد أمام سيف نزل من السماء .. ما قاتل قوما إلا انتصر عليهم ..
جيرار : أراك تؤمن بما يؤمن به المسلمون !
جاي :إنما هي الحقيقة،المعركة مع هؤلاء خاسرة..إننا محصورون،وقلما جاء محصور بخير
هرقل : فماذا ترى يا "جاي" ؟
جاي : نصالحهم يا مولاي .. نعطيهم أرض سورية مقابل السلام ..
جيرار (بغضب) : نحن نكون تحت أيدي العرب ونحن أعظم الناس ملكا وأكثرهم رجالا ؟! كيف نعطيهم أرض سورية وهي أرض سورية الشام ؟!
جاي : إذن فلنعطهم الجزية نكسر بها شوكتهم ونستريح بها من حربهم .
جيرار : ما الذي تهذي به ؟! نعطي العرب المال يأخذونه منا ونحن أكثر الناس عددا وأمنعهم بلدا .. ؟ هذا لا يكون أبدا ..
جاي : ويحك .. لن تغيب الشمس حتى يدخلوا بيت المقدس .. وبطن الأرض عندئذ خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ..
هرقل (يقوم عن كرسيه بعد لحظات صمت) : "جاي" على حق ..
جيرار : ولكن يا مولاي ..
هرقل (مقاطعا) : أرى أن لا تقاتلوا هؤلاء القوم .. صالحوهم .. أعطوهم نصف ما تأخذه الشام وخذوا نصفه . لأن تبقى لنا جبال الروم خير من أن يغلبونا على كل شيء..
جيرار (بحدة) : قاتل أيها الامبرطور .. قاتل يا مولاي ولا تجبن الناس واقض الذي عليك ..
هرقل (بغضب) : ويحك أحمق .. أكلتنا الحرب ولا زلنا نكابر .. ألا ترى أن حصوننا تتهاوى ، يتبع أولها آخرها .. لا تصمد ساعة من زمن أمام كبريائهم .. ما الذي ننتظره ؟ أن يفيض الندم فيغرق بأمواجه كل صلفنا الكاذب ؟ .. إننا لا نقاتل هؤلاء الأعراب .. إننا نقاتل معهم أهل السماء والأرض ..
(تمر لحظات من صمت، ثم ينحني الإثنان له ويخرجان.يبقى وحيدا، تتوزع نظراته في المكان كأنه يودعه ،يحاول الخروج في اللحظة التي يدخل فيها المجاميع يحيطون به ويرددون
وعاد الغريب إلى حيث كـان فليس يحل لـه ذا المكان
وئيد الخطى ألجمته الخطوب وأثقل ذل المليك اللسـان
وإيليـاء تـواقة للـقباب لتـيه الـمآذن فـوق السحاب
تحدث مكة عما احتواهـا وكيف اكتوت بصنوف العذاب
أإيلـياء كفي دموعك هاهـم أتوك سراعا شدادا غضاب
أتـاك رسول رسول الأنـام وألقى على من أناب السلام
دعـاك فما بوركت راحتاك ببيعة مـن حـاز خير مقام
فعد يا هرقل إلى حيث كنت فهذي ديـار عليك حـرام
]اللوحة الرابعة : عمر[
(يخرج "هرقل" على إيقاع خواتيم الأغنية وتخرج المجاميع. لحظات ثم يدخل الأسقف وبيده صليب الصلبوت – صليب ذهبي حجمه كبير – وبصحبته "باليان" )
الأسقف : يحيطون بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم .. ما زالوا صامدين.
باليان : تلمح في أعينهم عزيمة تزيل الجبال .. لا أدري كيف يحتملون شدة البرد وهم لما يعتادوا عليه .. ليحفظك الرب يا إيلياء .. يعتقدون أنها جزء من عقيدتهم .. صنو كعبتهم وقرين مسجد نبيهم ..
الأسقف : بل قل ، هي لهم شقيقة مكة والمدينة ..
باليان : ما قولك يا سيدي .. أتظنه يأتي بنفسه ليتسلم المدينة ؟
الأسقف : لن يتسلم المدينة المقدسة غير الرجل الذي نعرف وصفه وصفته ..
باليان : قد يرفض ولن نأمن حينئذ غدرهم ..
الأسقف (بثقة) : أتباع محمد لا يغدرون ..
(أصوات تكبيرات على نحو تكبيرات العيد تقترب تدريجيا .. يدخل "لوكان" )
لوكان : سيدي الأسقف ..
الأسقف : ها يا "لوكان: .. ما وراءك ؟
لوكان
: خليفتهم قادم يا سيدي ..
الأسقف : أمتأكد أنت ؟
لوكان : إنه يقترب من المدينة ..
الأسقف : ورأيته ؟
لوكان : وسلمت عليه .. رجل صالح يا سيدي ..
الأسقف : صفه لي ..
لوكان : أبيض الوجه تعلوه حمرة .. طويل يا سيدي .. ما رأيت أحدا قط أشبه في وصف الحواريين منه . كان ماشيا وغلامه يركب جملا أحمر.. أكبرناه وسجدنا له كما كنا نفعل لأباطرة الروم .. فنهرنا وكاد يخفقنا بالدرة في يده وهو يقول : لا تسجدوا لبشر واسجدوا لله.
الأسقف (يردد) : لا تسجدوا لبشر واسجدوا لله .. إن الرب لن يخلف وعده (يبكي) الدنس ينقيك منه يا إيلياء رجل لا يسجد إلا لله (تتكرر العبارة الأخيرة ولها صدى في المكان)
باليان : لم تبك يا سيدي ..؟! أو ليس هو الرجل الذي نقرأ صفته في الكتاب ؟!
الأسقف : بلى هو والله هو ..إنما أبكي فرحا .. كنت أنتظر اليوم الذي يأتي فيه العدل .. كنت أعلم أن دولة الحق باقية على الدهر .. دولة الظلم ساعة .. ودولة الحق إلى قيام الساعة..
(يخرج الأسقف ويدخل المجاميع .. يغنون لقدوم عمر وفرحة النصر ويرددون : )
يا بيت المقدس قد جئنا ونشيد يكبر في فمنا
وصهيل الخيل له وقع ودم عمري في دمنا
مهر عمـري يـأتينا ويشق غبار مـآسينا
بالعدل وبالحق تهادى يختال بروض أمانينا
للفتح قـوافل زاحـفة تحمل للـدنيا القرآنا
والصوت بلالي عذب يرفع في الكون الأذانا
يا قبلتنا الأولى عدنا عمر الحـادي لمسيرتنا
والهادي أحمد قائدنا وهـدى الإسلام شريعتنا
]اللوحة الخامسة : الدماء[
(مع المقاطع الأخيرة للأغنية يدخل الراوي بصحبة بلال بن رباح والأسقف.وبعد انتهاء الاستعراض يقف الراوي خطيبا قائلا
الراوي : الحمد لله الذي شرفنا بأن فتح علينا بقعة قدسها وبارك حولها ، تصديقا لبشارة نبيه وتكريما لطائفة الحق .. " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لعدوهم قاهرين ، لا يضرهم من جابههم ولا ما أصابهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك. قالوا : يا رسول الله وأين هم ؟ قال : ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".. أيها الناس .. اعلموا أن أمير المؤمنين قد أعطى لأهل إيلياء من الأمان .. أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم .. لا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم .. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ..فأوفوا بعهدكم .. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ..
(يتقدم الراوي من بلال ويخاطبه)
الراوي : قم يا بلا وأذن بالنصر .. أسمع صوتك كل الدنيا .. اشد بألحان الخلود في ساحة مسرى من أحببت .. يهزنا شوق عظيم إلى صوتك الجميل يوم كنت تؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم …
(يأخذ بلال مكانه ويؤذن بصوته الجميل ، ومع انتهاء الأذان يخرج الأسقف وأتباعه ، يدلف المسلمون إلى داخل المسجد الذي يشع النور منه بشدة .. ثم نسمع أصوات قراء يتناوبون بصوت شجي قراءة آيات من أوائل سورة "الإسراء" … وفي الساحة خارج بوابتي المسجد ينتشر الظلام رويدا رويدا .. وبعد لحظات يدخل "جودفري" وأتباعه إلى منطقة الظل في مقدمة المسرح حيث المكان المشرف على المدينة ، بحيث لا نميز وجوههم ، يحملون سيوفهم وحرابهم ,, ويجري بينهم الحوار التالي : )
جودفري : لم أر أعجب من هؤلاء .. كلما ضيقنا عليهم الحصار ، زادوا في همتهم ونشاطهم إنهم ما يفتأون يشددون الحراسة على الأبراج بصورة تدعو للدهشة والإعجاب ..
أحدهم : جنودنا يعانون من العطش الشديد ، منذ أفسدت الينابيع المجاورة ..
ثان : ماذا عن عين سلوان ..؟
الأول : إنها بعيدة ، والطريق إليها محفوفة بالمخاطر .. ألا ترى يا "جودفري" بأن حصارنا هذا لن يأتي بفائدة ؟
جودفري (بحنق واضح) : أحمق .. كل البلاد غدت بأيدينا .. عاجلا أو آجلا ستسقط بيت المقدس كما سقطت انطاكيا واللد والرملة وغيرها .. المهم أن تصل الإمدادات .. لن أجازف بالهجوم قبل أن تصل الإمدادات ..
الثاني : وماذا عن إمداداتهم ؟ أميرهم أرسل إلى مصر يطلب النجدة ..
جودفري : لن يسعفهم أحد .. أشغلتهم خلافاتهم عنا .. منذ عرض الفاطميون الحلف معنا ضد أبناء دينهم من السلاجقة ، أدركت أن هذه الجولة ستكون لصالحنا .. لقد تعلمت من التاريخ شيئا عظيما ؛ ليس من أمر أشد على أبناء هذه الأمة من بأسهم بينهم .. أليس عجيبا أن تفعل فيهم خلافاتهم ما لا يفعله أعداؤهم فيهم في المعارك والحروب ؟!
(يدخل أحد الجنود)
الجندي : سيدي "جودفري" ، نجح الجنويون في احتلال يافا .. والإمدادات والمعدات تصل تباعا ..
جودفري : هذه أخبار سارة .. أظن أن ساعة الصفر قد حانت .. هذا يوم عظيم سيذكره أحفادكم من بعدكم .. أتدرون لماذا ؟ .. أيها السادة ، هذا يوم .. كل ما فيه مباح ..
(يشير "جودفري" بيده فيتسلل المهاجمون زرافات إلى داخل المسجد ، ثم لا نلبث نسمع أصوات صراخ واستغاثات ، ويخفت صوت القاريء حتى يتلاشى .. ثم تتصاعد ألسنة اللهب من داخل المسجد .. ويدخل المجاميع الساحة يغنون بصوت حزين)
إلى أين تمضي أيـا حلم فينا تمـوج اشتياقا وتهـدر حينا
إلى القدس تهفو وتهدي حنينا
تلملم في القيد ذكرى حزينـه وجرحا تلـوى يلف المدينه
إلى أين تمضي بدمع الصغيره إلى أين والعين ترنو كسيره
إلى بيت جد أضاعوا سطوره
حزين يواري الخيام شعـوره وفي القلب نار وآه أسيره
إلى أين تمضي ببحر الدماء يموج يخضب وجه السماء
ويسقي مدائنه في سخاء
فرحن يبحـن بسر اللقـاء لكـل أذان وكـل لـواء
إلام احتمالك يا حلم سهدا يجيش بصدرك قهرا وحقدا
ويحتد جورا فتشتد زندا
لتكبر في الشمس طفلا وعهدا وتعلو بـ "الله أكبر" مجدا
]اللوحة السادسة : صلاح الدين[
(يخرج المجاميع مع التعتيم في نهاية الاستعراض ، ويدخل الملك "جاي" ومعه "جيرار" و"لوكان" يحيط بهم أتباعهم معهم حرابهم وسرعان ما يتوزعون في المكان يراقبون من خلال النوافذ أسوار المدينة ... أصوات طبول الحرب تسمع من بعيد)
جاي (ينظر من النافذة) : تحولوا إلى الجهة الشمالية .. يعرفون أن السور ضعيف من تلك الناحية .. أتساءل إن كان اليأس يعرف طريقا إليهم ..
جيرار : نفخ أوداجنا الغرور فاصطدمت أمانينا بأسوار من حديد .. من كان يظن أن صلاح الدين بجيشه من أخلاط الناس يهزم جند الصليب ، ويجعل من حطين عارا ، بل لعنة تطارد جيلنا إلى أجيالنا القادمة ؛ عار لن تمحى سطوره من ذاكرة التاريخ أبدا ..
جاي (بغضب يتصاعد) : وماذا تراه يقال عني ؟! أني رفعت صليب الصلبوت المقدس وجمعت الناس حوله ؟ .. حشدت الحشود العظيمة وتلقيت الأموال الطائلة لقتال أعدائنا ؟.. اتخذت القرار بالحرب دفاعا عن المدينة المقدسة ؟ هزمني صلاح الدين وأسرني ، ثم أطلق سراحي تسامحا وكرما ؟ … حسنا .. إنني أعترف بكل هذا .. وأعلم أن التاريخ سيذكر ذلك جيدا .. وسيذكر أن "أرناط" كان أحمقا لا يصلح إلا للسلب والنهب ، وأن "ريموند" كان خائنا، وزوجته باعت طبرية .. وسيذكرك أنت يا "جيرار" وكيف سلمت عسقلان بلا ثمن …
جيرار (محاولا الرد) : لم أفعل ذلك إلا بعد أن …
لوكان (مقاطعا) : أيها السادة .. ليس هذا وقت نبش القبور .. ماضينا كله ليس فيه غير الخيبة والندم .. إننا بعد لم نفقه التاريخ جيدا .. معادلاتنا ناقصة أو أننا لا نجيد حلها ..
جيرار : حقيقة مرة .. في كل مرة يفوت الأوان قبل أن ندركها ..
لوكان : علينا أن نفكر جيدا .. ماذا لو أخفق "باليان" في مهمته ؟
جيرار (بعد لحظة صمت) : إننا نطلب المستحيل من صلاح الدين ..
جاي : إننا نريد السلام ..
لوكان : لأننا مجبرون عليه ..
جاي : فليكن ..
جيرار : أتراه ينسى أحقاد مئة عام .. "جودفري" الأحمق نشر الموت في الشوارع .. دخل المدينة وهو يخوض في دمائهم .. قتل ونهب وحرق .. لم يرحم طفلا ولا شيخا .. نحن اليوم سندفع ضريبة ما حدث قبل مئة عام .. هكذا تقول لغة الحرب : العين بالعين والسن بالسن والبادىء أظلم ..
لوكان (بعد صمت) : أنت تقذف الرعب في قلبي ..
(يدخل البطريق وينحني للملك)
البطريق : هل صحيح ما يتحدث الناس به أيها الملك ؟
جاي : ليتحدث الناس كيف يشاؤون ..
البطريق : أحقا تريد تسليم المدينة ؟!
جاي : ليس من خيار أمامنا ..
البطريق : بالأمس انتزعوا منكم صليب الصلبوت المقدس .. واليوم تسلمون لهم المدينة.. إن الرب لن يغفر لكم هذه الخطيئة ..
جاي (بغضب) : كفى .. الرجل لا محالة سيدخل المدينة .. سلما أو حربا سيدخلها .. سبعة عشر عاما وهو ينتظر هذه الفرصة .. من يهزم جيشا فيه الشامي والمصري والعراقي .. حتى الأحباش والصفر جندهم ضدنا ؟؟!
جيرار (مكملا) : إننا بين أن نموت أو أن نسلم له المدينة .. علينا أن نختار الثانية ، هذا إن وافق صلاح الدين أولا ..
(يدخل "باليان" وقد بدا عليه التعب)
باليان : بذلت جهدا في إقناعه .. لكنه وافق أخيرا ..
جاي : حمدا للرب ..
البطريق (وهو يخرج) : كان على زوجتك أن تحتفظ بالتاج لنفسها .. إن الرب لن يغفر لكم هذه الخطيئة ..
جيرار : قد تكون خدعة من صلاح الدين ..
جاي : أنت لا تعرفه جيدا .. (لجنوده) افتحوا أبواب المدينة ..
أحدهم (عند النافذة وبصوت عال) : افتحوا أبواب المدينة ..
آخر (من بعيد) : افتحوا أبواب المدينة ..
( تسمع أصوات قرع الطبول .. مارشات عسكرية)
باليان (وهو ينظر من النافذة) : وأخيرا .. ها هي المدينة تسقط في أيديهم ..
جاي : بل قل .. إنهم يستردون مدينتهم المقدسة ..
لوكان : رجل عظيم هذا الذي وحد كل هذه الألوان من الناس .. بهولاء أحارب الدنيا كلها .. أتساءل ما الذي فيهم وليس عندنا ..!
جاي : وماذا عندنا منهم ؟ .. يحملون العدالة ، ويقاتلون الناس بالحب .. أي مفاتح عظيمة يمتلكون .. بها تفتح لهم القلوب قبل الأبواب ..
(يدخل صلاح الدين يحيط به المجاميع ومعهم الراوي ، يستقبلهم "جاي" وصحبه .. صلاح الدين يسجد شكرا لله .. يقوم "جاي" بتسليم مفتاح المدينة الرمزي لصلاح الدين ويخرج مع حاشيته .يدخل بعض الجند وهم يحملون منبرا جميلا ، يدخلانه إلى عمق المسرح أمام المسجد بعد أن تفتح البوابتان. كل هذا يتم باستعراض غنائي جميل ، فيه الجميع يرددون
يـا قلب بالصبر تجمل لليل ساعـات ويرحل
فكتائب التوحيد جاءت والمنبر الوضـاء أقبل
لليل ساعات ويرحل
جئنا وفي يـدنا شموس يجلى بها الكون العبوس
للنصر في دمنا طقوس والنصر بـالجرح مكلل
لليل ساعات ويرحل
يا قدس يـا وجع المسافر صبرا فقد آب المهاجر
قد أشرقت شمس البشائر والصبر بالنور تكحل
لليل ساعات ويرحل
قولوا لمن نكث اليمينا وشراعه خان السفينا
هذا صلاح عـاد فينا والظلم بـالنور تبدل
لليل ساعات ويرحل
]اللوحة السابعة : الوداع[
(في نهاية الاستعراض يصعد الراوي المنبر ويخطب في الناس)
الراوي : أيها الناس .. لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة . وما نجانا الله إلا لحكمة يريدها .. إنه سبحانه شرفكم بفتح بيت المقدس واسترداده. ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده ، واصطفاه من سكان بلاده .. لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار ، ولا يباريكم في شرفها مبار .. فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم ، واحرسوا هذه النعمة عندكم .. بتقوى الله .. التي من تمسك بها سلم ، ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم ..
" إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ينصركم من دونه ".
(يترك الراوي المنبر ويقترب من صلاح الدين يستوقفه وهو يحاول الخروج .. الناس تغادر المكان وكأن الأمر لا يعنيها)
الراوي : فديتك نفسي يا صلاح الدين .. كم يحدونا شوق نحو رؤاك تزهو بتراتيل النصر.. كم يحدونا شوق نلمح فيه وجهك الوضاء تتلألأ فيه الآيات .. وتؤذن في كل الناس : جاء وعد الله حقا .. جاء نصر الله فتحا.. قلنا: هو ذا وجه الصبح المشرق عادت أنواره الحية تطل من جديد .. قمنا نردد مع ابتسامة الفجر : مرحبا بالأمل الدافيء يغسل آلام الماضي البعيد القريب
صلاح الدين (بحزن) : كان منزلي دائما خيمة تعصف الرياح من خروقها .. غاية ما أريد أن أموت في سبيل الله .. إنها أشرف الميتات .. لكنه قدر الله ..
(يحاول الخروج فيتشبث به الجميع يحاولون منعه)
الراوي : أرجوك يا سيدي لا ترحل .. ستعود للحزن العيون ..
أحدهم : ودعنا بالأمس الفاروق واليوم صلاح يتركنا ؟..
ثان : لا تفعل .. إنهم قادمون .. يحملون الموت والجنون ..
ثالث : لم تترك ثغرا ينفذون منه نحو مكة والمدينة ؟ ..
رابع : رابط هنا .. أنت في البيت المقدس .. أنت في أرض الرباط ..
صلاح الدين (وهو يخرج) : سأعود إن شاء الله ..
الراوي (بحزن شديد ) : غدا ترسو على شطآننا ريح من الغدر .. غدا تحتل دنيانا ليالي الظلم والقهر .. احفري أيتها الدموع المحاجر .. ابلغي أيتها القلوب الحناجر .. داومي يا عين في البكاء ، ولتخشع أيها القلب الحزين .. إنا لله وإنا إليه راجعون ..
(تتشكل المجاميع في استعراض جديد تردد بحزن مودعة صلاح الدين : )
يـا أيها العملاق يـا نبض القـوافل والجنود
العين تلثـم دربـك الماسي يختـرق الحدود
ودعتنا والروح ظمأى غصها الخطب الشديد
أتراك ترجع يا صلاح تفدي الحمى في كل ساح
ودعتنا يا ليـت أنك يا صـلاح لنا تعــود
الشمس يـوم رحيلـه ثكلـى يغالبها الشرود
والبـرد لـف شجونها والآه ديـدنها الوحيد
مذ أغمضوا عينيه أغمض حزنها ألق الوجود
أتـراك تبعث يا صـلاح فينا وقد عـز الرواح
ودعتنـا يا ليـت أنـك يا صـلاح لنـا تعـود
يـا منبـرا لـك يشتكـي ما قد جنى فيه اليهود
مذ أضرموا حقدا وجاسوا في حمى الطهر النضيد
ناحت حمائـم ساحـه شوقـا إلى الأمـل البعيد
أتـراك تتركها صـلاح نهب المواجع والجـراح
ودعتنا يا ليت أنك يا صلاح لنا تعود
]اللوحة الثامنة : غرناطة[
(في نهاية الاستعراض تسلط الإضاءة على الجانب الأيسر للمسرح حيث يتوافد الناس/ المجاميع للجلوس في مقهى شعبي مفتوح .. الحكواتي/الراوي يأخذ مكانه في صدر المجلس وأثناء ذلك نسمع صوت "بلفور"؛ وزير خارجية بريطانيا )
صوت "بلفور" (صوت أجش تصاحبه ضربات على آلة كاتبة قديمة ) : من "بلفور" وزير خارجية بريطانيا إلى اللورد "روتشيلد" .. إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين .. وستبذل جهدها لتحقيق هذه الغاية.
(مع خفوت صوت "بلفور" يبدأ الحكواتي/الراوي في سرد حكايته والناس حوله تستمع وتتجاوب من حين لآخر )
الحكواتي : قال الراوي يا سادة يا كرام .. وتحلو القصة بالصلاة على خير الأنام ..اشتد بأهل غرناطة الحصار .. ودك مسامعهم صوت أهل الفرنجة وهم ينادون : الثار الثار .. وبدلا من أن يتحدوا لمجابهة أعدائهم .. ومن جاءوا لاقتلاع شأفة سلطانهم .. دب فيهم الذعر الشديد .. وأصابهم القنوط وأثر فيهم التهديد .. فإذا الذي كان يعيب الضعف على الضعاف .. أمسى اليوم مع الفرنجة يعقد الأحلاف .. والأمة تفقد قوتها حين تصبح مطية الاختلاف.قال الراوي : وكان على رأس المتخاذلين .. زعيم الصاغرين المستسلمين .. والي غرناطة المدعو الصغير .. وشيخ قضاته ، وأبو القاسم الوزير .. الذي أقنع بتسليم المدينة رؤوس العشائر .. وأصحاب الرأي وجموع الأكابر .. فدب فيهم الخور الذي هو أخطر من الحمى .. وأشد من الموت على الأمة .. ولم تفلح الأم عائشة ولا ابن سراج .. في إقناعهم أن السيف هو العلاج .. فإذا الشعب للكارثة صاغر .. والجيش مخذول وخائر .. انصدعت أركان البلاد .. وجبن من فيها من العباد .. ولم يستمعوا لصوت الحق والرشاد .. وهو ينادي : الجهاد الجهاد … وغادر الناس غرناطة الساحرة .. وقصورها الزاهرة .. رؤوسهم خاضعة .. وأبصارهم خاشعة.. ذلت منهم الجباه .. وهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياه . قال الراوي : وهكذا سقطت غرناطة آخر القلاع الأندلسية .. وصارت آثارا في التاريخ منسية .. وأصبح لا يعرف عنها غير الذي حوته كتب الأدباء .. وأصحاب الموشحات من الشعراء .. يرجون بأقلامهم استثارة الهمم .. وإشعال الغيرة وإيقاظ الشمم ..واسمع لمن يتلهى بالطرب الأصيل .. ويغني مع صاحب الصوت الجميل :
جادك الغيث إذا الغيث همى يـا زمان الوصل بالأندلس
لم يكـن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
(يردد الجميع مع المغني الذي يغني موشحة مقدسية )
جادك الوجد أيـا طيفا سلا مهجة هامت ببيت المقدس
ضمها شوق غريم ما قلى لكن البيـن شديـد الغلس
أين من "جيان" أنسـام التـلاق داعبت أشجان خـل وخليل
أين نجوى العيد في ذاك الرواق في اتساق قرطبي مستحيل
أطرقـت غرناط فاعتل البراق يذرف الدمع سخينا وجزيل
يـا فؤادا شد رحلا وطوى لجج البعد تجـاه الصخرة
قد براه الحزن دهرا ولوى نبضه جرح شديـد العنت
روع الوصل قفار ونـوى فاغتدى القلب طريح العلة
أمس غاب النور عن أندلسا وغـدا الآن حبيس الأرق
مشفق محزون يشكـو دنسا أن في محرابـه المحترق
ليس يجلـو قلبـه المبتئسا غير ماء صاغ لون الشفق
]اللوحة التاسعة : الحقد الأسود[
(تعتيم جزئي مع خروج المجاميع . الراوي في مكانه نائم ، يستيقظ من حلم كابوس على أصوات شريرة تردد في إيقاع ثابت يتعالى رويدا رويدا : )
الأصوات : مات محمد .. محمد مات .. مات محمد .. محمد مات ..
الراوي (يجول في المكان هائما) : صور سوداء لا معنى لها .. أضغاث أحلام .. كوابيس عمياء ضلت طريقها في ليل حالك بهيم …يد بيضاء ستمتد وتمزق صفحة هذا الحلم الكابوس
الأصوات : مات محمد .. محمد مات .. مات محمد .. محمد مات ..
الراوي : إنني أسمع وقع ألسنتهم الهمجية .. لا لا .. إنهم قادمون .. يحملون الموت والجنون ..ويل للغرباء ، ماذا يريدون ..؟!
صوت أول : هذا زمان عجلنا الذهبي .. أين أنت يا سامري ؟
الراوي : ويل للغرباء ، ماذا يريدون ..؟!
صوت ثان (بهستيرية) : هنا يقام الهيكل العظيم .. ويعتلي العرش المقدس ملك من نسل داود، يحكم العالم كله ..
الراوي : ويل للغرباء ، ماذا يريدون ..؟!
صوت ثالث : غدا تمتد دولتك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل ..
الراوي : ويل للغرباء ، ماذا يريدون ..؟ .. إنني أسمع وقع ألسنتهم الهمجية ..إنهم قادمون .. حقد أسود قادم .. من يوقف هذا الحقد ؟ من يوقف هذا الحقد الأسود ؟؟
(يخرج الراوي وتدخل مجموعة من الأشباح ، يدلفون إلى الداخل مع صيحات أطفال واستغاثات .. ، وعلى إيقاع الأغنية تدخل المجاميع تردد بحزن
من يوقف حقدا أسود
***
أوقف نبض أذان يسمع
أعدم ذكرى شيخ يركع
قتل الحب وعينا أدمع
بهلاك العالم يتوعد
من من يوقف حقدا أسود
***
أشعل نارا في الأقداس
صدع خرب كل أساس
صادر كل حقوق الناس
دنس كل الأرض وهود
من من يوقف حقدا أسود
***
شيد مقبرة وسجون
سل بوجه الفرح جنون
أطفأ آمالا بعيون
زرع بوجه النخلة غرقد
من من يوقف حقدا أسود
]اللوحة العاشرة : عهد وأمل[
(تخرج المجاميع ويدخل الراوي)
الراوي : أضغاث أحلام .. كوابيس عمياء ضلت طريقها في ليل أسود بهيم .. يد بيضاء ستمتد وتمزق صفحة هذا الحلم الكابوس ..
يا نفحة الإسلام عاد غريبا .. يا وجه العروبة كاد أن ينقرض .. أما آن الأوان ؟ أما جاء النذير ؟ .. هيا لنعلن في روابي القدس توبتنا من الذنب الكبير .. هيا نردد مع أذان الفجر : قد حان المسير .. هيا لنطو صفحة سوداء في فصل أخير ..
(يدخل المجاميع ، يتقدمهم طفل يرتدي عباءة صلاح الدين. الطفل يقسم والناس تردد معه بانتظام – من كلمات ديوان "صدى الصحراء" للشاعر صالح الجيتاوي
الطفل :
عهد علينا أن نبيد الظلم في أوكاره ..
ونحطم الطغيان في أسواره
عهد علينا أن نحرر قدسنا
ونعيد للإسلام دولته وعهد فخاره
وسيطلع الفجر السعيد على مرابعنا الحزينة
ونخلص الثكلى من الآهات والغصص الدفينة
وترى ليالينا الأمان
وتزول أيام الهوان
( تتشكل المجاميع في استعراض شعبي وتعقد حلقة دبكة فرحية يغني فيها الناس للنصر وللوطن )
النهاية – ستار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتبت المسرحية في العام 1987 الميلادي ، وعرضت في أواسط التسعينات في معظم مسارح الأردن.