أزمات وإبداعات بنكهة الحصار
أزمات وإبداعات بنكهة الحصار..
أقلام من غزة وأحبار من الأنفاق
الزنط: "هناك أزمة تحيط بالكتاب الثقافي في العالم العربي كله لا في قطاع غزة وحده"
أبو عمرة: "الحصار منعنا من صيانة الماكينات ورداءة حبر الأنفاق أثر على جودة الطباعة"
جمعة: "حل مشاكل الطباعة وأزمة دور النشر ليست مسئولية الكاتب"
زقوت: " المشكلة ليست مرتبطة بالكاتب والكتاب، وإنما بالواقع الذي نعانيه "
أميمه العبادلة
كأي عاشق يصف لك محبوبه بإحساس لا يضاهى.. فيولد بداخلك ثورة عارمة.. ستجد عشاق الكتب يصفون الكتاب بحميمية بالغة.. وستتوه معهم بين رزمة صفحات لها ملمس خاص.. وعبق مميز.. وصوت لا يشبهه صوت جراء تقليب الورق.. ونكهة مغرية برفقة هذا الجليس الصادق الذي لا يمل منه.. وكأنهم بذلك يصفون روح خيالية أسطورية.. لتفيق سريعا من غمرة الشعور ولتدرك بأن الأمر عند الكثير لا يتجاوز مبالغة لفظية لشيء ليس بالكثير.. فجيل الثورة الرقمية اللامحدودة السرعة يختلفون كليا مع شعار "الكتاب خير جليس" ليستبدلوه عمليا بـ "اللابتوب خير جليس".. وليت الأمر يقف هنا فلكان الأمر أسهل فهو لن يحتاج سوى لجهد نقاش وجدل ليقنع كل طرف منهما الآخر.. إلا أن الأزمة أكبر من ذلك فتعدته لتتمثل في عدم اهتمام بالكتاب كطباعة ونشر وتسويق.. فما الأمر ومن المسئول..؟!
معاناة عامة
توجهنا للكاتب إبراهيم الزنط ( غريب عسقلاني ) بمجموعة تساؤلات تعتمل في عقولنا وتحيرنا حول تردي الحال في قطاع غزة وعدم الاهتمام بالنشر رغم وجود الكثير من المواهب التي تكشف بعضها ومازال بعضها الآخر حبيس إحباط تسلل إليهم ممن سبقهم ليوضح لنا بدوره أن المعاناة التي نظنها، يعاني منها الكتاب الثقافي في العالم العربي كله لا في قطاع غزة وحده.. والمعاناة هنا تكمن في إنتاجه ليصل لأكبر قاعدة من القراء.. حيث يقول:" السبب عادة في قلة إقبال الناشرين على طباعة الكتب يكون لعدم توفر الإمكانات المادية.. ولو تمكن الكاتب من الطباعة على نفقته الخاصة فإنه لن يستطيع توزيع الكتاب وبيعه لأن الإقبال محدود على مراكز بيع الكتب".. مستطردا:" بالنسبة لقطاع غزة لا شك بأن الوضع السياسي قد ألقى بظلاله على الحال الثقافي وانعكس هذا جليا فعدم توفر دور نشر ومشاكل الطباعة والحصار الخانق ضيق مساحة سوق الكتاب.. وارتفاع الأسعار في كل شيء جعل منه سلعة خاسرة دون أرباح"..
ويرى الزنط بأن وجود دور النشر ودعم الكتاب هو من ضمن المسئوليات الرسمية للحكومات التي يجب عليها أن تولي عناية أكبر لدعم المكتبات العامة، وتنمية المراكز الثقافية، وتوفير قاعات لعروض المسرح والسينما وإيجاد خطط وبرامج تنموية ثقافية مدروسة وتطبيقها من أجل بناء شخصية الفرد الثقافية وتنميتها..
بديل مؤقت
من جهة أخرى يؤكد الزنط على بطلان القول بأن الإنترنت والكتب الالكترونية بدائل للكتب الورقية : "الانترنت يسهل الانتشار ويسمح ويمنح الكاتب مجالا كي يصل بفكره لأكبر مساحة من القراء في العالم لكنه لا يمثل بأي حال من الأحوال بديلا عن الكتاب الورقي".. والسبب من وجهة نظره أن النشر الالكتروني بلا ضوابط تحكمه.. مضيفا:" لعل الإنترنت في قطاع غزة يحل أزمة القراءة في ظل الحصار الذي قلل من فرص جلب الكتب من الخارج أو إقامة المعارض لكنه لن يلغي أزمة الكتاب الورقي.. والدليل على ذلك أننا سنجد من يبحث على الإنترنت عن كتاب ثقافي من 400 صفحة على سبيل المثال ولكنه سيسارع لطباعته على الطابعة المنزلية ليستطيع قراءته على الورق حيث أن المكوث أمام شاشة الكمبيوتر لساعات مجهد ومرهق ومؤذ للنظر.. وبالتالي نستنتج أن الانترنت ما هو إلا بديل مؤقت للكاتب الورقي الذي لم ولن يموت"..
ويشدد الزنط مرة أخرى على أن نشر المعرفة مسئولية المؤسسة العامة لفائدة الناس.. وأنه ليس مطلوبا من المبدعين التكفل بالنشر بذاتهم واصفا الأمر بـ "مثالية زائدة عن الحد".. ومشيرا إلى أن غزة تحوي من المبدعين من مختلف الأجيال ما يمكنهم من النشر والمنافسة على مستوى العالم.. إلا أن واقعية غريب عسقلاني جعلته يعترف لنا بأن الكتاب مهما كان متطلبا ثقافيا للفرد للرقي بروحه والسمو بعقله إلا أن الحال في غزة لا يستطيع أحد معه التناسي بأن الطعام متطلب أساسي له أولوية اكبر من أي شيء آخر..
الحصار السبب
توجهنا بالسؤال لإدارة مطبعة دار الأرقم الشهيرة في قطاع غزة والمتمثلة في شخص هيثم أبو عمرة الذي برر السبب في ارتفاع أسعار الطباعة عن المعقول.. والتأخر الممل لصدور المطبوعات على الرغم من توفر كثير من الخامات في المرحلة الحالية، قائلا:" نعم لقد عانينا شح كثير من المواد كالورق والحبر والأحماض التي تستخدم في عملية الطباعة بسبب الحصار.. ولقد انفرجت الأزمة جزئيا وظاهريا بإدخال المواد عبر الأنفاق لكن حالنا في قطاع غزة مختلف كليا.. فقلة أو كثرة هذه الخامات لا يعني أبدا رخص أسعارها.. حيث أن التكلفة ليست رخيصة أبدا.. ففترة الحصار الطويلة.. ونوعية الورق السيئة المحملة بالرمال جراء نقلها عبر الأنفاق.. والحوامض التي كنا نستوردها من إسرائيل وألمانيا.. واضطررنا بسبب الحصار لجلبها من مصر عبر الأنفاق من السوق المصري بجودة أقل.. والأحبار الصينية الرديئة المصنعة في مصر كلها أمور تؤثر على جودة الطباعة.. وبالتالي تسببت لنا في سوء الإنتاج"..
وينوه أبو عمرة إلى أن دار الأرقم تمكنت منذ شهرين فقط من صيانة ثلاثة ماكينات مما أدى إلى سرعة وجودة أكبر في عملية الطباعة لتغطية متطلبات المدارس والجامعات والمؤسسات.. حيث أنهم يمثلون الشريحة الكبرى المستفيدة من الطباعة لأغراض علمية ودراسية وإدارية.. مرجعا السبب في عدم الاهتمام بالطباعة والنشر لأغراض الثقافة العامة خارج الإطار الأكاديمي كما هو الحال في كثير من الدول العربية للوضع الاقتصادي السيئ.. وعدم الاستقرار النفسي للفرد.. الذي بات يبحث عن حاجاته الأساسية للبقاء.. والتي لا يشكل الكتاب جزأ منها.. مشيرا إلى أن حاجة الفرد ونهمه للمعرفة والبحث تقلصت في وجود الإنترنت وما يوفره لمستخدميه بسرعة ودون تكلفة..
تجربة شخصية
للشاعر خالد جمعة تجربة مرهقة مع الطباعة كلفته جهدا ووقتا لكنها لم ثنيه عن عزمه في تحقيق مبادئ راسخة يؤمن بها رغم الصعاب.. فكان قد عقد العزم مسبقا على طباعة ديوانه ( هي عادة المدن ) داخل قطاع غزة.. والذي يتناول فيه غزة.. أثناء الحرب وبعدها.. حبه لهذه البقعة وإيمانه بها جعلاه يصر على أن يرفض كل الدعوات المغرية المقدمة من عدة جهات خارجية للتكفل بطباعة ونشر الديوان.. إلا أنه فضل مزيدا من المعاناة.. أظن بأن الشعراء خصوصا يستمتعون بالمعاناة أكثر من غيرهم فهي كنار الجمر التي تخرج من البخور أزكى رائحة.. يخبرنا جمعه: " طبعت ديوان عن غزة أثناء وبعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة وتلقيت عروضا من مصر ولبنان والأردن وحتى الضفة الغربية بأسعار تساوي نصف التكلفة مقارنة بغزة.. لكنني فضلت أن أتمه هنا وكنت قد طلبت مواصفات خاصة وفاخرة للورق والتصميم والتكلفة كاملة على حسابي الشخصي".. ويضيف:" الطباعة في ظروف عادية تحتاج لأسبوعين فقط لا غير بينما بسبب مشاكل انقطاع التيار الكهربائي والحبر والورق تأخر الديوان 45 يوما.. اضطررت خلالها أنا أداوم في المطبعة يوما بيوم لأتابع سير العمل فعلا أحسست بحجم المعاناة التي يعانيها مجال الطباعة في غزة في ظل ظروف الحصار الراهنة.. أستطيع أن أقول أنني تقريبا طبعت الديوان بيدي في المطبعة.. وخرج الديوان إلى النور بعد عناء لاكتشفت بعدها أنه الديوان الوحيد الذي طبع في غزة خلال الثلاثة سنوات الأخيرة"..
ما علاقة التعليم بالثقافة..؟!
وحول مشاكل الطباعة وأزمة الكتب والكتابة في قطاع غزة، وأي عاتق ذاك الذي نلقي عليه اللوم يقول جمعة:" برأيي أن الكاتب دوره الأساسي منوط بالكتابة فقط وليس مسئولا عن مشاكل النشر.. ويجب أن تكون هناك جهات حكومية مسئولة عن هذا الأمر".. أما عن سبب توتر العلاقة بين الشباب والكتب فيرى أن الأمر مرتبط بأسباب لا تعد ولا تحصى كغلاء أسعار الكتب.. وعدم إيمان الشباب بقضية تدفعهم معها إلى الاطلاع والثقافة.. وتراجع دور الثقافة بشكل عام مقابل الحياة الاقتصادية التي تزداد سوءا يوما بعد يوم.. والفراغ الفكري العام.. وفقدان الثقة بالكلمة المقروءة.. ولولا أننا استوقفناه لما توقف في سرده هذا.. إلا أنه أشار إلى أمر بالغ الأهمية ولا يدركه كثير:" الواقع أن مجتمعنا متعلم بنسبة مرتفعة قد تصل إلى 95% ونحن بحسب إحصاءات واستطلاعات رأي من أعلى شعوب العالم بالنسبة للتعلم والتقدم في العلم.. لكن ( ويكمل متسائلا ) ما علاقة التعليم بالثقافة..؟! .. للأسف حتى أساتذة الجامعات ثقافتهم محدودة.. الأغلب لا يدرك المعنى الحقيقي للثقافة.. والدارج ثقافة العناوين.. يعني أن تجد شخصا يعرف معلومة من هنا ومن هناك فيعتبر نفسه مثقفا.. وآخر قد يسمع مثقفا يتكلم عن كتاب ما فيعتبر نفسه كأنه هو من قرأ الكتاب وهلمجرا"..
مشكلة واقع..!
وجهة نظر الكاتب والباحث ناهض زقوت مدير عام المركز القومي للدراسات والتوثيق مؤيدة وتصب في ذات الإطار ويشدد على أن المشكلة في قطاع غزة ليست مرتبطة بالكاتب والكتاب، وإنما بالواقع الذي يعانيه الكاتب وهو مرتبط أيضا بأزمة الثقافة: " فهو يكتب ولا يجد دار نشر تطبع نتاجه هذا.. لعدم وجود دور نشر ومطابع تابعة لجهات مسئولة والأمر لا يتعدى كونه فرديا".. مستطردا:" لا ننكر وجود أزمة القراءة في المجتمع على الرغم من وجود مكتبات عامة توفر خدمات مجانية للطلاب والباحثين والمهتمين .. لكن الطالب عندنا يفتقر للاستعداد النفسي للبحث والقراءة لعل السبب يكمن في التقصير في تعويده منذ الصغر على اقتناء الكتاب والاهتمام بالقراءة خارج إطار الكتب الدراسية، أو لعل ثقل المناهج الدراسية والحشو المفرط بها سبب عزوف الجيل عن القراءة".. مؤكدا على أن الشباب الآن لا يستغلون وقت فراغهم بشكل مفيد فهو يرى أن من يلوح بشعار الأزمة الاقتصادية أو عدم وجود كتب متاحة في متناول اليد هو ذو حجة واهية فالمكتبات العامة توفر الكتب مجانا والانترنت يمكن استغلاله بشكل سليم بعيد عن إضاعة وقت طويل دون فائدة تذكر من مجرد دردشات أو تعارف أو مواقع ليست ذات فائدة ترجى.. داعيا كل الأطراف المعنية إلى إنهاء حالة الانقسام لما لها من تأثير سلبي يؤثر على الكاتب وكتابته.. " في ظل هذه الأزمات تشتت فكر الكاتب وزادت همومه فبات لا يعرف عن ماذا يكتب..!! هل يكتب عن فلسطين الحلم.. أم عن الحياة والمعاناة.. أم عن عودة اللاجئين.. أم الهجرة.. والانقسام.. و و و.. لقد تعددت الصور واختلطت، وأصابتنا بحالة تشوش"..
هل يكفي منح الحرية في الكتابة لإبداء الرأي دون الاهتمام بالتنقيح، والضبط، والنشر من قبل جهات مختصة ومسئولة..؟! هل فضاء الإنترنت الرحب، والذي سهل الوصول للمعلومة.. خلق جيلا متكاسلا لا يفقه من الثقافة سوى اسمها..؟! وهل مشاكل الطباعة حقا، وهبوط كفة الكتاب.. سببها اندثار القراء كما يدعي البعض..؟!! أم أن سلبيتنا المتنامية.. والتي نورثها بعضنا جيلا بعد جيل.. هي سبب خيباتنا كلها.. لا في مصير الكتب والطباعة فقط، بل أكثر من ذلك.. أسئلة تدور بنا كدوامة مزعجة.. لندرك أمامها أننا بين مد وجز لن ينتهي سريعا بين كتاب مدافعين.. وقراء متكاسلين.. ومطابع تجارية همها الأول الربح.. في عصر مجنون لا يفقه لغة سوى لغة المادة..!!