الشيخ د. علي بن عمر بادحدح

الشيخ د. علي بن عمر بادحدح

الخطابة وسيلة دعوية مهمة يمارسها الكثير من الدعاة والخطباء ، وهم يجتهدون للتأثير الإيجابي في جمهورهم سواء في يوم الجمعة أو غيرها من المناسبات الإسلامية ، ويستثمرون ما وهبهم الله من قدرات وإمكانات لتوصيل رسالتهم العظيمة ، ويجتهدون من خلالها في علاج العديد من القضايا الاجتماعية وغيرها ..

  ود.علي بن عمر بادحدح ـ الأمين العام المساعد لمنظمة النصرة العالمية ، المشرف العام على موقع " إسلاميات " ـ إحدى الشخصيات السعودية التي لمع اسمها في عالم الخطابة ، وعلى مدى أكثر من ربع قرن من اعتلاء المنابر عرفته الأوساط الدعوية خطيباً مفوّهاً تميزت موضوعاته بالتنوع والتجديد والبعد عن التقليدية ، كما يُحسب للشيخ فضل السبق في إصدار موسوعة " زاد الخطباء " ، والتي تعد أول موسوعة علمية تهدف لرفع مستوى أداء الخطباء ، وتضمنت العديد من المواد العلمية التي تعالج وتلبي احتياجات الخطباء . 

  وحول الشأن الخطابي وتجربته الشخصية في هذا المجال ، التقت " المجتمع " الشيخ بادحدح . وكان هذا الحوار :

  * بداية ، لماذا شُرعت الخطبة ؟ وما هي وظائفها ؟

  ـ من محاسن الإسلام وآثاره الكبيرة ما تتضمنه تشريعات العبادة الجامعة المتمثلة في الصلوات الخمس والزكاة ، والصوم ، والحج ، وعلى سياقها تأتي خطبة الجمعة التي تعد وسيلة لتوصيل الرسالة وتوجيه المسلمين دون أي عناء ودون أي جهد خاص ، باعتبار أن المنابر موجودة وصلاة الجمعة مفروضة ، والناس يأتون إليها طواعية ، فمزية الخطبة أنه يتوافر فيها عناصر الرسالة ، وعنصر تهيئة الأوضاع والأجواء للتلقي والقبول والتأثير المباشر .

  أما الحديث عن الوظائف فهذا المجال واسع لكني سأحصرها في نقطتين باعتبار أن أهدافها ووظائفها تعبدية .. فالنقطة الأولى تتمثل في الهدف التعليمي ؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من خلالها الصحابة ، ويذكر فيها الأحكام ، ويذكر فيها إرشادات توجيهية في هذا الشأن ، أما النقطة الثانية ، فهي الهدف التقويمي ؛ بمعنى أنه يشير إلى بعض الأخطاء وبعض المخالفات ، ويرشد إلى علاجها ، وإلى كونها مخالفات وإلى إثمها وعقوبتها والتحذير منها ، وبيان آثارها الدنيوية وربما عقوبتها الأخروية .

  * برأيك ، ما الشروط التي يجب توافرها في خطيب الجمعة ؟

  ـ الخطيب هو المحور الأساسي والركن الركين لخطبة الجمعة ، ونسبة كبيرة من أهمية الخطبة وتأثيرها تعتمد على الخطيب ، لذلك يمكن إيجاز صفات الخطيب في أمور عدة ، أولها ، التحصيل العلمي بقدر ملائم لهذه المهمة ، بمعنى لا يصح أن يتولى الخطبة أشخاص ليس عندهم أدنى حظ من العلم الشرعي والمعرفة بالقرآن والسنة والسيرة ونحو ذلك ؛ لأن هذا هو المفتاح ، بمعنى أن الذي يعتلي المنبر يعتبر عند كل الناس عالم ، أو طالب علم ، أو داعية ، أو إنساناً له اطلاع بالشرع .

  الأمر الثاني : وهو غاية في الأهمية ، القدرة على حسن التعبير وحسن التوصيل ، فأحياناً يكون المرء عالماً ولكنه لا يحسن توصيل رسالته ، وقد يكون هناك من هو أقل منه علماً ، لكنه يحسن انتقاء النصوص وترتيب الأفكار وضرب الأمثلة ، كما لابد أن تكون الروح التي يعرض بها النصوص متوافقة مع نبرة صوته وحركات جسده وانفعالات وجهه ، وكل ذلك يؤدي إلى توصيل الرسالة .

  والأمر الثالث : أستطيع أن أسميه العنصر الاجتماعي ، كأن يكون الخطيب قريباً من الناس ، مختلطاً بهم ، عارفاً بمشكلاتهم ، منصتاً إلى أسئلتهم ، حتى لا يرقى المنبر فيتحدث عن أجواء اعتيادية وأفكار وخيالات من بنات أفكاره ، وهو ليس بمعنى القرب القلبي ، فأنا لا أعتقد أن الخطيب سيكون مؤثراً ما لم يكن محبوباً ، وما لم يشعر الناس أنهم يريدون أن يفضوا إليه بمشكلاتهم ، وأن يطرحوا عليه بعض الأفكار ، وأن يستمعوا منه عندما يخطب ، وأن يسألوه بعد الخطبة ؛ لذلك فالخطيب الذي ينصرف عند انتهاء الخطبة أشعر بأن لديه ضعفاً في هذا الجانب .

  أمر رابع : وهو لابد للخطيب أن تكون معرفته مطردة ، وخبرته مستمرة في الحياة ، بمعنى ألا يقتصر على الأمور الشرعية فقط : لأن الأحداث والوقائع الجديدة والأشياء التي ترتبط بحياة الناس لابد أن يكون قريباً منها .

  الأمر الخامس : هو لغة الخطاب ، وأعني بها اللغة العربية والفصاحة والبلاغة ، وتطعيم الخطبة بشواهد من أقوال العلماء ومن الأمثال المضروبة ، ومن الأبيات الشعرية ومن الحكم المأثورة ، فهذا يعطي للخطبة دوراً فعالاً وأثراً كبيراً .

  أول خطبة :

  * كيف بدأت رحلتكم مع الخطابة ؟

  ـ بدأت في الخطابة قبل 30 عاماً ، وتكاد قصة أول خطبي لا تفارق ذاكرتي لطرافتها ؛ حيث لم تكن خطبة رسمية ؛ إذ رتبت بشكل عفوي ، وفيما يتعلق بتفاصيلها فقد كانت في فترة إجازة الحج للعام 1400 هـ ، وكنت حينها طالباً في السنة الأولى في الجامعة ، وصادف في تلك الأيام أني خرجت للاستجمام في إحدى المناطق البحرية البعيدة عن التجمعات السكنية ، وكانت تلك المنطقة خالية من المساجد ، فاضطررت للعودة لأقرب مسجد لأداء صلاة الجمعة ، وبعد أن دخلت المسجد وشرعت في أداء الرواتب وتلاوة القرآن انتظاراً للخطبة ، عرف المصلون أن إمام المسجد قد غادر للحج ولم يوكل أحداً ينوب عنه ، مما أجبر المصلين على انتظار من يتطوع للخطبة .

  ووافق أن كان أحد جيراننا موجوداً في المسجد فقام وأخبر المؤذن وهو يشير بأصبعه ناحيتي ، بأنني أستطيع أن أخطب الجمعة باعتبار أني كنت حينها طالباً بكلية أصول الدين ، وعندما طُرحت عليّ الفكرة اعتذرت ، وتعللت بأني لم أخطب في حياتي وبأني لست جاهزاً ، بحيث كنت حاسر الرأس ، لكن لم تجد تبريراتي تلك آذاناً صاغية ، حيث عمد جاري إلى طاقيته وألبسني إياها وقال لي : " أنت الآن جاهز ".

  وقبل صعودي للمنبر ، ناولني المؤذن أحد كتب الخطبة لأقرأ منها ، لكني لم أرضَ بذلك ، وصعدت المنبر ، وتناولت في خطبتي ـ التي أعتبرها الأولى في حياتي ـ تفسير بعض الآيات القرآنية التي سبق أن درستها بالجامعة كأحد المتطلبات في مادة التفسير ، وأذكر أنه ما ينتابني ـ كما يحصل عادة مع من يتصدرون الخطابة لأول مرة ـ شيء كالخوف والارتباك ، ولذا أعتبر بدايتي جيدة وموفقة .

  البداية الحقيقية :

  * ما السبب الذي حملك على الاستمرار في الخطابة ؟

  ـ حبي للغة العربية والفصاحة كان أحد الأسباب التي جعلتني أنخرط في مجال الخطابة ؛ حيث كنت أيام دراستي بالمرحلة المتوسطة شغوفاً بقراءة كتب الأدب القديمة والحديثة ، كمؤلفات المنفلوطي ، والطنطاوي ، والزيات ، والرافعي ، بالإضافة إلى بعض الدوواين الشعرية ، وعندما انتقلت للمرحلة الثانوية انخرطت في الجمعية الدينية ؛ حيث شرعت في كتابة المقالات الأدبية للمجلات التي كنا نصدرها ، كما انخرطت في الأنشطة الطلابية المختلفة ؛ حيث تدربت على إلقاء الكلمات والقصائد ، كما كنت أدرس الدراسات والعلوم الشرعية .

  وأثناء دراستي الجامعية ، أذكر أني خطبت غير مرة في المسجد الذي كان يتولاه أبي ، والذي كان خطيبه الراتب حينها د. سيد رزق الطويل يرحمه الله ، فلما عزم على العودة إلى مصر ، أشار على أبي بأن أتولى الخطابة في المسجد نيابة عنه ، وكان ذلك عام 1403 هـ ، وكنت حينها على مشارف التخرج من الجامعة ، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت الخطيب الراتب لمسجد " سعيد بن جبير " ، ولم أنتقل منه إلا بعد 24 عاماً ، وأنا أعتبر ذلك العام البداية الحقيقية والرسمية المنتظمة لي في الخطابة ، ومن حينها بدأت أنتقي موضوعاتي بعناية ، وكنت حريصاً على ألا أغيب عن خطبة الجمعة حتى عند السفر ، حيث كنت أسافر إما بعد الجمعة وإما قبلها بمدة كافية ؛ بحيث لا أتغيب عن الخطبة ، وكان حرص أبي هو السبب الرئيسي الذي جعلني لا أتغيب ؛ حيث كان دائماً يذكرني ويشدد على أن أكون مواظباً في حضور الخطبة .

  تفاعل مباشر

  * هل تستمتع أثناء إلقائك للخطبة ؟

  ـ الاستمتاع الشخصي بإلقاء الخطبة قد يكون مدخلاً للغرور ، أو حدوث خلط في النية ، وأنا أستمتع بالخطبة من جهتين ، أولاً : إذا شعرت أني وفقت في موضوع الخطبة من حيث اختياره ومدخله وقوة عرضه ، وثانياً : صداه وأثره الرجعي ، وأقصد الأثر الإيجابي ، كأن يأتيك أحد المصلين بعد الصلاة ويشكرك ، أو ظهور تفاعل مباشر يعبّر عنه السامعون ..

  وأذكر على سبيل المثال : عندما ذهبت إلى الحبشة خصصت خطبة الجمعة عن هجرة الحبشة الأولى ، وربطتها بزيارتي وبالمسجد الذي حُوِّل إلى كنيسة ، وسميت الخطبة " مسجد الصليب " حتى أجذب اهتمام الناس ، وكان للخطبة أثر إيجابي ؛ حيث تحمس بعض المصلين ليكون لهم دور في مساعدة المسلمين في أرض الهجرة الأولى ، وشرع بعض الأخيار في بناء أكثر من مسجد هناك بتأثير تلك الخطبة ، فالخطبة قد تتحول إلى صورة عملية أحياناً ..

  وقد خطبت منذ فترة قريبة عن القدس وجرائم تهويدها ، فجاتني رسائل تطالب بعمل مشروع أو مبادرة لمواجهة ذلك ، فالناس الذين تحركوا وتفاعلوا خير برهان على أن الفكرة والرسالة وصلت إليهم وأثرت فيهم .

  موقف طريف

  * هل هناك موقف طريف لا تنساه في رحلتك مع الخطابة ؟

  ـ جرت العادة عند سفري أن أوكل من ينوب عني لأداء الخطبة ، وفي إحدى سفرياتي قررت أن أوكل أحد الأشخاص لكني لم أخبره ، وغادرت وفي ظني أني أخطرته ، ولم أتذكر بأني لم أبلغ أحداً ينوب عني إلا عندما رأيت الخطيب يصعد المنبر في المسجد الذي كنت فيه أثناء وجودي في الدولة الأخرى ، وطبعاً انتظر الناس كثيراً في المسجد الذي من المفترض أن أخطب فيه ..

  وكان المؤذن على علم بسفري ، وأنه سيأتي أحد بدلاً مني ، لكنه انتظر حتى تجاوز الوقت ، فسأل الحاضرين أن يتطوع أحدهم بالخطبة ، فقام رجل ممن له دراية بالخطابة وصعد المنبر ، وصادف أنه أطال في الخطبة مما تسبب في تضجر بعض المصلين ، لاسيما وأن الخطبة بدأت في وقت متأخر جداً ، لدرجة أن أحد المصلين قام أثناء الخطبة الثانية وقال للخطيب : " يكفي " !

  * هل هناك خطبة محددة لها ذكرى في نفسك ؟

  ـ الخطبة التي ألقيتها تزامناً مع مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م ، الموافق 1411 هـ ، وكان عنوانها : " دمعة حزن من أجل فلسطين " ، وبلغ من انتشار هذه الخطبة أنه وُزع منها عشرة آلاف شريط ، بالإضافة إلى أنها كتبت ونسخت ، كما علمت أن أربعة خطباء ألقوا تلك الخطبة بنصها كما هي ، وتعدّ تلك الخطبة بالمقياس الفني " سياسية " ؛ لأنها كانت مزامنة للحدث ، وإن كان منهجية روحها القرآن والسنة .

  موسوعة منبرية

  * ماذا عن موسوعة " زاد الخطباء " التي أصدرتها ؟

  ـ بعد مرور أكثر من ربع قرن شعرت بأن تجربتي في الخطابة قد تفيد الآخرين ، وخاصة أني أعرف كثيراً من الخطباء ارتقى المنبر دون إعداد أو تأهيل خاص ، بالإضافة إلى التفاوت بين الخطباء في مدى معرفتهم واطلاعهم على المراجع أو توافرها عندهم ..

  ورأيت أن اختيار الموضوع يشكل عائقاً لدى الخطباء ، فأعددت هذه الموسوعة ، وشرحت فيها كيفية اختيار الموضوع ، وذكرت على سبيل المثال عشرة مجالات مع أمثلة أوردتها بالعشرات ؛ لأني أردت أن أبين للخطباء أن هناك مصادر وأفكاراً غير متناهية في اختيار الموضوعات .

  كما تعرضت في الموسوعة لكيفية التحضير ، ووضعت أمام الخطيب مفاتيح من خلال كتب أساسية وقليلة ، بحيث إذا توافرت لدى الخطيب فإنه يستطيع أن يقدم خطبة غنية ثرية فيها الآيات والأحاديث ، وتفتح له آفاقاً ومعلومات واسعة في الموضوع .

  وقد حرصت على أن تكون الموسوعة عملية لا نظرية ، وخصصت جزءاً منها للأشعار المختارة بترتيب على الموضوعات ، وجزءاً آخر عن أقوال العلماء ، وثالثاً عن قصصهم ؛ لأني وجدت حاجة الخطباء كبيرة للاستشهاد بأقوال العلماء وتطعيم الخطبة بها ، وتلك الأقوال منثورة في كتب كثيرة ، وليس سهلاً على كل خطيب أن يصل إليها ، وبالتالي جمعت كثيراً من الأقوال والقصص من بطون الكتب ، ثم رتبتها موضوعياً ، بحيث إذا أراد الخطيب أن يتكلم عن الصبر يفتح الموسوعة فيجد كلاماً عن الصبر لكثير من الأئمة والفقهاء والعلماء والأدباء وغيرهم في موضع واحد ، ومهمة الخطيب أن يختار منها ما يراه مناسباً .

  كما أنني ركزت في الموسوعة على أمرين : أولهما : رسالة المسجد ومهامه المتنوعة حتى يقوم بها الإمام الخطيب ، ويعرف كيف يؤدي الرسالة التعليمية والإيمانية والاجتماعية ، وثانيهما : ما يتعلق بفقه الخطبة وصفات الخطيب .