د. مريم جبر
د. مريم جبر
قاصة أردنية اتجهت للنقد والتخصص الأكاديمي:
لست مع شدة الاحتفاء بإبداع المرأة لأن ذلك يعادل تهميشها تماماً!
إلتقاها: يحيي القيسي
عمان ـ القدس العربي : د. مريم جبر قاصة وناقدة وأكاديمية استطاعت أن تشق طريقها من عجلون في شمال الأردن إلي البعد العربي خلال الثمانينات من خلال قصصها التي كانت تنشرها في المجلات الثقافية العربية المعروفة، ثم عرفت في العاصمة عمان بعد ذلك، وكأن قدر الكتاب الأردنيين أن ينالوا الاعتراف العربي أولا قبل أن يتم الانتباه لتجاربهم في بلدهم، ورغم أنها قد بدأت قاصة إلا أنها توجهت إلي عالم النقد، وقد أصدرت في مجال القصة مجموعتين هما: آخر أحاديث العرافة 1996، طمي 2002، وفازت بجائزة د. سعاد الصباح للإبداع الفكري والأدبي في القصة القصيرة، 1992 أما مؤلفاتها النقدية فهي: شخصية المرأة في القصة القصيرة في الأردن 1995، دراسات تطبيقية في اللغة العربية 1999، التجليات الملحمية في رواية الأجيال العربية 2005.
وقد واصلت جهودها في العالم الأكاديمي حتي حازت علي شهادتي الماجستير في الأدب والنقد ـ القصة القصيرة، والدكتوراه في الأدب والنقد في حقل الرواية من جامعة اليرموك، وتتميز أعمالها القصصية بولوجها إلي النفس البشرية، وتحليلها، ونقل هواجسها، فيما تنشغل أعمالها النقدية بإضاءة النصوص من الداخل، لا لتشكيل سلطة خارجية عليها، وهي اليوم أستاذة الأدب العربي في جامعة البلقاء، وعضو هيئة تحرير في مجلة أفكار الثقافية.
هنا حوار معها حول تجربتها القصصية وإصدارها النقدي الجديد:
* دعينا نبدأ من كتابك الجديد (التجليات الملحمية في رواية الأجيال العربية) هل يمكن أن تطلعينا علي أبرز الملامح التي درستها، وما خلصت إليه من نتائج؟
التجليات الملحمية في رواية الأجيال العربية، كما يتضح من العنوان، محاولة لتلمس طبيعة العلاقة بين الرواية والملحمة من جهة، وبشكل خاص بين رواية الأجيال العربية والملحمة من جهة أخري، فقد حاولت في هذه الدراسة أن أتقصي ما حملته الرواية العربية من سمات جيلية وملحمية من خلال عدد من النماذج الروائية المختارة والممثلة لهذين المحورين في آن معاً، وهي (ملحمة الحرافيش) لنجيب محفوظ و(ثلاثية غرناطة) لرضوي عاشور و(مدارات الشرق) لنبيل سليمان و(الزوبعة) لزياد قاسم و(الدقلة في عراجينها) للبشير خريف، وقد راوحت تلك الروايات بين التوزيع الجغرافي والتنوع في العناصر الملحمية والعمق الزمني الجيلي فيها.
وقد خلصت من تحليل تلك النماذج فنياً ومضمونياً إلي تحديد مدي إفادتها من أجناس أدبية سابقة وبخاصة الملحمة التقليدية سواء كان ذلك في مضامينها الإنسانية والأسطورية أم في بنيتها وتقسيمها وراويها ولغتها، كما خلصت إلي أن تلك الروايات تتضمن جملة من السمات الملحمية كشعرية الأسلوب والفضاء الأسطوري والعمق التاريخي وبروز العنصر القدري والعادات والتقاليد والمزج بين القوي البشرية وقوي الطبيعة الخارقة، وبخاصة بناء شخصية البطل، كالذي نجده في ملحمة الحرافيش مثلاً، إلي جانب تفشي التفكير الأسطوري في جل الروايات المدروسة، ولعل ذلك يعود إلي اهتمام رواية الأجيال وما تشهده من تغيرات تفرضها طبيعة التحول الزمني الذي تشهده الأجيال فيها، وإلي ذلك بينت هذه الدراسة مدي اتكاء هذا اللون من الرواية علي التاريخ لإقامة العالم الروائي الخاص بكل منها، فقد قدمت كل رواية منها تاريخ منطقة محددة في حقبة زمنية محددة مجاوزة التاريخ الحقيقي لتلقي نظرة إلي ما آل إليه المجتمع في تلك المنطقة، وهو طرح يأتي متناغماً مع طبيعة رواية الأجيال التي تنهض علي الزمن وتسلسل الأحداث وتعدد الشخصيات وتعاقبها، وفي الوقت ذاته تقترب من طبيعة الملحمة التي تصور مجتمعاً محدداً بكليته، غير أن الرواية هنا تجاوز الملحمة في نظرها في حاضر المجتمع وفي استشرافها لمستقبله. وأخيراً فقد تبين إفادة رواية الأجيال العربية من تقنيات السرد الحديثة وبخاصة في جنوحها نحو تعدد الرواة وخلخلة الزمن وعدم تراتبيته باستخدام تقنيات الحلم أو الرؤيا والحذف والخلاصة وغيرها، علي الرغم من هيمنة الراوي الواحد التقليدي الذي عرضته الملحمة وما زالت الرواية التقليدية تستخدمه.
* لماذا تبدو كتبك النقدية قادمة فقط من الحقل الأكاديمي، أي لماذا لم تصدري بعد قراءاتك النقدية الأخري؟
ذلك أمر طبيعي لمن يعمل في الحقل الأكاديمي، أما قراءاتي النقدية الأخري والتي تراوح بين الروح الأكاديمية والإبداعية الذاتية فأعمل حالياً علي جمع المنجز منها بغرض تجهيزه للنشر في كتاب خاص بالنقد السردي، وأرجو أن أؤكد هنا أن القراءات النقدية التي تعنيها بسؤالك والتي تنفلت في كثير من الأحيان من قيود النظرية الأكاديمية لا تقل شأناً عن الدراسات الأكاديمية البحتة لأن طريقها أكثر يسراً إلي ذهن القارئ العادي وأكثر ملاءمة لذائقته.
* نعرف بأنك قاصة بدأت منذ نحو عشرين عاما في هذا الحقل هل أنت متوقفة عن كتابة القصة وذهبت فقط باتجاه النقد والأكاديمية أم أنك ما تزالين قابضة علي جمر القصة؟
كتابة القصة والكتابة الإبداعية بشكل عام ليست مجرد ممارسة اختيارية إرادية بحتة يمكن التوقف عنها وقتما نشاء، جمر الإبداع لا تقبض عليه الكف فقط بل ما لبث يتأجج في صدر المبدع الأصيل، وينبغي هنا أن نفرق بين التوقف عن الكتابة والتوقف عن النشر، فالنشر يخضع لعوامل الوقت والتفرغ وغيرها، وأما الكتابة الإبداعية فمستمرة استمرار الحياة ذاتها ومتغيرة أيضاً بتغيرها، وبطبعي لم أكن أستعجل النشر يوماً، لا في نشر المواد ولا في نشر الكتب. وأما الاتجاه إلي النقد الأكاديمي فأمر تفرضه طبيعة العمل الأكاديمي والإبداعي معاً، النقد يمنحني وعياً أكبر في الكتابة الإبداعية والتوجه إلي النقد لا يعني بحال التخلي عن الإبداع أو إقصائه، فما أقدمه من دراسات ينصب أولاً وأخيراً في مجال اهتماماتي الإبداعية في القصة والرواية، للنقد متعته كما للإبداع، للنقد لغته وصداه وللإبداع لغته وصداه، وفي كل منهما أجد بعضاً مني، وإذا كانت لغة النقد تحمل كثيراً من السلطة والهيمنة فيما لغة الإبداع تحمل كثيراً من الانثيال النفسي والمراوغة فقد استطاعت المرأة في جمعها بين اللغتين أن تخرج علي السياقات الثقافية للمجتمع العربي الذي منح اللغة السلطوية المهيمنة أو اللغة الأبوية للرجل في حين أتاح للمرأة أن تحكي بلغة خاضعة لتلك السياقات. ثمة أنساق ثقافية ذهنية متوارثة ما لبثت أحاول شأن غيري من المبدعات العربيات الخروج عليها في الجمع بين العقلي والروحي أو النفسي في النقد والإبداع، فكلا العملين في آخر الأمر لا يعدو أن يكون تعبيراً عن وعي وموقف ورؤية إنسانية في الكون والإنسان والحياة والمجتمع.
* تري هل تراقب الناقدة فيك القاصة بشكل صارم أثناء الكتابة أم أن الأمر منفصل لديك؟
هذا صحيح إلي حد كبير والإنسان كل لا يتجزأ، الناقدة فيَّ تلتقي المبدعة غالباً، ولكني لا أستطيع الانصياع لرغبة الناقدة وحدتها دائماً، فما زال البون شاسعاً بين التنظير النقدي والرؤي الإبداعية، علي الرغم مما يكرره ناقدنا الأستاذ عبد الله رضوان كلما قرأ دراسة نقدية لي، إذ يري أنني سأظل قامعة وحادة في تعاملي مع النص حتي لو كان النص لمريم جبر ذاتها، إن ما أحاول إنجازه بشأن نقد الأدب السردي الأردني خاصة هو في حقيقة الأمر محاولة لتغيير السائد ونفض غبار الشخصانية والشللية الذي ما لبث يتراكم علي سطح الحركة النقدية في الأردن إلي حد الانصياع لرأي الرائين بأن لا نقد حقيقياً هنالك.
* ولكن لماذا لا نري أثر هذا الجهد في الكتابات النقدية الأردنية وفي الإضاءة عليه إعلاميا، هل لكونك إحدي أديبات المحافظات أثر، أو لأن النقد أساسا غائب عن الإبداعات المحلية ؟
إعلامياً أنت أدري مني بذلك، فأنا لا أبادر بتقديم نفسي إعلامياً ولا أسعي لذلك بقدر ما أحترم إبداعي، لن أكرر مقولة غياب النقد عن الإبداعات المحلية، فقد شهد العقد الأخير اهتماماً ملحوظاً بالأعمال الإبداعية الأردنية، وبخاصة السردية منها التي حظيت وما زالت بوافر من الدراسات النقدية التي عمل ويعمل علي تقديمها أو الإشراف عليها عدد من الأساتذة الأكاديميين، أو تلك التي اجتهد في تقديمها عدد من النقاد الذين كان لهم فضل الريادة في الالتفات إلي المنجز الإبداعي الأردني عامة، قبل أن تلتفت المؤسسات الجامعية إليه بالكثافة والنوعية التي بتنا نلحظها، ومن أولئك النقاد تجدر الإشارة إلي عبد الله رضوان وفخري صالح ونزيه أبو نضال وأحمد المصلح، الذين خاضوا مغامرة المواجهة مع النصوص الإبداعية مبكراً، وسخروا ما يمتلكون من أدوات نقدية مختلفة بدءاً بالذائقة الفنية عند عبد الله رضوان وليس انتهاء بتسخير المعرفة بالنظرية النقدية الغربية عند فخري صالح، أما الكم الهائل من القراءات الذي نطالعه في الصحف والمجلات فهو في الأغلب لا يعدو أن يكون تعريفاً بكتاب أو بصاحب الكتاب الذي غالباً ما يكون صديقاً أو قريباً أو عدواً بصورة ما، ولا يجاوز النقد هنا مدحاً أو قدحاً مبالغاً فيه بعيداً عن المسوغات النقدية وفي غياب تام للموضوعية والمنهجية، لكل ذلك لم ألتفت يوماً لغياب اسمي عن مثل هذا الذي تجاوزاً يسمي نقداً، وأما أكاديمياً فقد كانت قصصي حاضرة كجزء من المنجز الإبداعي القصصي الأردني وفقاً لما تقتضيه طبيعة تلك الدراسات، كما أن بعض قصصي تدرس في مناهج الأدب في بعض الجامعات، وبالمجمل أنا لست مع شدة الاحتفاء بإبداع المرأة لأنه يعادل تهميشها تماماً، وما أنتظره من النقد دائماً هو الالتفات إلي الأعمال الإبداعية بصرف النظر عن جنس كاتبها وإيديولوجيته وعمله.
أما كوني واحدة من أديبات المحافظات فلم يكن ذلك سبباً مباشراً في حجم الإضاءة الإعلامية، علي أنني لا أنكر حقيقة وجود إشكالية المركز والأطراف في التعامل مع المبدعين عموماً، لكني شخصياً لم أجد مشكلة أبداً في تعامل المجلات والملاحق الثقافية معي ككاتبة من المحافظات بل علي العكس كان لاحتفاء الأدباء الكبار والزملاء الكتاب وترحيب المنابر الثقافية باسمي أثر عظيم في استمراري إبداعياً ثم نقدياً فقد تراجعت أقلام نسائية واختفي أو توقف بعضها.
* بالمناسبة لماذا تبدو القصة القصيرة كجنس أدبي حالة نسوية في الأردن، أي لماذا تفضل الكاتبات الولوج إلي هذا الحقل الإبداعي دون غيره؟
ذلك لا يخص الأردن وحده. القصة فن نسوي بامتياز، هذا صحيح، وصحيح أيضاً أن ثمة ميلاً لدي المرأة إلي الكتابة السردية، منذ شهرزاد ربما، وربما قبل ذلك بكثير، مشافهة أو كتابة، كانت المرأة وما زالت تمارس الحكي كمعادل للحياة ارتبط برؤية نسوية واقعية وتاريخية تقف في مواجهة محاولات الإقصاء أو التهميش التي مارستها المجتمعات المختلفة علي اختلاف الأشكال والصور، بحكاياتها قدمت شهرزاد برهاناً آخر علي أن علاقتنا بالعالم لا تتحدد بكينونتها الأنثوية، وإنما بقدرتها علي تحقيق إنسانية الإنسان فيها، بإخراجها من ضيق الحيز الجسدي إلي رحابة الوجود الإنساني. يقولون إن حكاياتها كانت مواجهةً هدفها درءُ الموت عن جنس المرأة والحفاظ علي بقاء النوع وتقديم تنازل أساسي في سبيل تحقيق الهدف الأصلي، وأنها رضيت أن تتخلي عن حريتها، وتصبح جارية لكي تحافظ علي بقائها وبقاء جنسها، كما يري الغذامي، وأقول إن تلك الحكايات، وإن درأت الموت عن المرأة فقد أرست دعائم حياة مختلفة، أساسها التغيير، تغيير العلاقة بالآخر إلي علاقة إيجابية.
شهرزاد كانت عرافتنا الأولي، تلك التي جسدت رغبتنا نحن في البحث عما يدهش..!
بحثاً عن الدهشة.. بحثاً عن الحياة ما زلنا نجاوز كل معتقداتنا ونستسلم لصوت يداعب بالحكي مخيلاتنا ليمنحنا بعض ما نشتهي أو بعض ما منحتنا شهرزاد.
* كونك متابعة للمشهد الإبداعي العربي والمحلي معا، تري ما هي الإشكاليات التي تعيق انتشار الأدب الأردني محليا وعربيا برأيك؟
الحديث عن انتشار الأدب الأردني محلياً وعربياً يمثل إشكالية بحد ذاته، وذلك لتعدد الأطراف والعوامل التي تسهم بوجود تلك الإشكاليات، وعلي الرغم من تراجع بعض تلك العوامل وبخاصة ما يتعلًق منها بوسائل الاتصال فإن ما وصلت إليه الدول العربية من انفتاح ثقافي لم يكفِ واقعياً في ظل حالة الكسل العام التي أراها أصابت القارئ العربي سواء كان ذلك كسلاً إجبارياً أو اختيارياً بفعل الحالة الاقتصادية التي تحول غالباً دون المتابعة والاطلاع والبحث عن كل جديد أو الكسل الاختياري الناتج عن الارتهان لواقع عربي لا يطفو علي سطحه سوي الألم، وبالتالي غياب الحافز للمتابعة، ناهيك عن غياب هدف نشر الأدب الأردني عربياً عن الناشر الأردني جهة رسمية كانت أو غير رسمية، فالكتب في مستودعات وزارة الثقافة مثلاً محكومة بشرط الأنظمة والإجراءات الرسمية التي تحول دون توزيعها محلياً فما بالك عربياً؟ ولقد أتاح لي عملي في هيئة تحرير مجلة أفكار التي تصدر شهرياً عن الوزارة فرصة لتلمس كثير من إشكاليات توزيع مجلة تحتفي بالأدب الأردني، وأسهمت وتسهم في تقديمه للقارئ. وإلي ذلك ما زال الأديب الأردني يكتفي بما يقرأه له أصدقاؤه وأحياناً لا يقرأ النص سوي صاحبه! بدأنا عربياً (وأتحدث هنا عن نفسي مثلاً) ولكننا للأسف انتهينا محلياً حين تراجع الحافز في داخلنا نحو السعي لنشر أعمالنا عربياً ومحلياً في بعض الأحيان، في حين بات يترتب علي الكاتب نفسه عبء توصيل صوته ومتابعة كل ما يتعلق بكتبه، ولهذا نجحت بعض الأسماء في الوصول عربياً بجهودها الفردية وسعيها الدائب لذلك إلي حد يبدو بالغاً فيه أحياناً.