مع الشاعر المغربي جمال الموساوي

جدوى الكتابة هي خلخلة الحياة بالأسئلة،

وجعل الإنسان يعيش دائما في قلق مستمر

 تنقل شاعرنا من كتاب الظل إلى مدين للصدفة، وهي مجموعات شعرية ينحت من خلالها مجرى صوته الشعري مغربيا وعربيا. ممارسته لمهنة الصحافة ومتابعاته الثقافية للأدب تمنحه آفاقا أخرى ليظل قيد الفعل الإبداعي. حصل على جائزة بيت الشعر المغربي في مارس 2002. يتحدث بكل جرأة عن الأمراض الثقافية وحالات الوصاية، ويحتفل بكل جمال بالأصوات الشعرية هنا وهناك، تأكيدا منه على أن الأدب درس محبة.

مع جمال الموساوي كان هذا الحوار

 بماذا تقدم الشاعر جمال الموساوي؟

إنسان اختلطت عليه الحياة، فارتبط بالشعر ليعيش الامتداد، وكتب عليه أن يخوض بفعل دراسته وعمله في شجون الاقتصاد، وأعتقد أن الأزمة العالمية ستؤثر علي قريبا. أكتب شعرا لأتخلص من تعب اليومي البغيض وأعود إلى نفسي في صفائها الفطري. نزولي إلى الأرض كان في قرية بعيدة في نواحي مدينة الحسيمة في شمال المغربي، بينما كانت مدينة تطوان محطة نزولي إلى أرض الكلمات وسحر الكلام، وأذكر أن أولى مقتنياتي من دواوين الشعر كان "ادفنوا أمواتكم وانهضوا" للراحل توفيق زياد. ما كتبته في البداية كان بريئا كشمس. خلجات وحذلقة لغوية وشعور بالتفوق على الأقران والخلان، وفي ما بعد ومع الاغتراف من القراءات بدأت الكلمة تكبر في داخلى، وتعلن انتماءها إلى الاستمرارية، وبدأت الكتابة تتشكل كهم في حد ذاتها، خاصة مع نشر المحاولات الأولى ابتداء من سنة 1987. كلما نشرت محاولة أشعر برغبة ملحة في تجديد ذلك مرة أخرى، وربما من طريف ما يمكن أن أذكره هنا، أنني بعثت مرة في مظروف بريدي واحد 32 محاولة، وكنت في ذلك الوقت أي سنة 1987، أنشر تلك المحاولات في صفحة للشباب ، كان يشرف عليها الشاعر العراقي خالد الحلي، وفي ما بعد الشاعر والتشكيلي العراقي أيضا فراس عبد المجيد.

 من أين تسللت لك روح الكتابة؟

لا أستطيع تحديد المكان الذي تسللت منه الكتابة إلي. ولكن من الضروري أن ثمة أمورا جعلتني أكتب وأستمر. أتذكر مثلا أنني كتبت موضوعا في مادة الإنشاء في سنة 1987 حول التقدم العلمي، كتبته بشكل جيد ومليء بالمعلومات، إضافة إلى طوله المفرط على غير ما يفعله التلاميذ عادة. استحققت علية أعلى درجة وتنويها شفويا من الأستاذ مفاده أنني أصلح مراسلا لجريدة الشرق الأوسط.

أتذكر أيضا أنني وبعض الأصدقاء في القسم الدراسي، لسبب ما، بدأنا "نتناوش" بكلام حول من يكون قادرا منا على كتابة الشعر، فشرع كثيرون منا في المحاولة، ولصدفة ما، أنا مدين لها، استمررت في الكتابة حتى الآن.

 هل ما زال هناك من يستنكر قصيدة النثر؟

ولماذا يستنكرها، في وقت كل الأشياء تتداخل في ما بينها، فأصبحت للشعر إقامة في النثر، أي في الرواية والقصة وحتى في المقال النقدي، وأحيانا الصحفي، ثم في التجلي الأكبر للنثر، أي قصيدة النثر، وكذلك صارت للنثر مثل تلك الإقامة في الشعر، فيحضر السرد في القصيدة، وتحضر القصة والحكي والحوار، وربما تحضر أشكال أخرى للنثر.

يتعلق الأمر في نهاية الأمر باختيار شكل للكتابة يستجيب للانفعال الداخلى للشاعر، وهذا الاختيار متعدد بتعدد الشعراء.

 و هل مازال تلقي الشعر عائقا أمام تواصل الشاعر العربي بجمهوره؟؟

ربما كان سؤال تلقي الشعر سؤالا "مغرضا"، سواء طرحه الشاعر أو المتلقي. وسأتعسف قليلا في المقارنة، لأقول إن تلقي الشعر شبيه باستهلاك مادة من مواد السوق. ليس كل مستهلك قادرا وراغبا في استهلاك مادة ما، وكذلك الشعر، ليس كل متلق قادرا وراغبا ومؤهلا لتلقي قصيدة ما أو شاعر ما، لذلك فنحن لا نقرأ نفس القصائد ونفس الشعراء، وحتى إذا فعلنا فإننا في النهاية لا نتفاعل بنفس القدر مع نفس القصائد ومع نفس الشعراء، إن القصيدة التي أتلقاها بطريقة جيدة هي تلك التي تستجيب لي. لشيء بداخلي. هي تلك التي أجد فيها نفسي، أعني ما يمكنني من التجاوب معها، تلك التي تجعلني أشعر أنها كتبت من أجلي. هذا الأمر ليس قاصرا على الشعر فقط، بل على كل الأجناس الأدبية والفنية الأخرى.

إن التلقي في شقه البسيط يرتبط بالذوق، والأذواق تختلف، ويرتبط في شقه النقدي بالأدوات ولسنا نملك الأدوات ذاتها.

 بالنسبة لك هل الحياة مشروع سؤال كتابة؟

الحياة هي مشروع حياة أولا. والكتابة في الواقع تسائل الحياة، وتبحث لها عن صيغة مثلى. الكتابة تطرح الأسئلة، ويجب على الحياة أن تقدم الأجوبة الممكنة. بهذا يكون مشروع الكتابة هو مساءلة الحياة. أي نوع من عكس صيغة سؤالك. وعندما تكف الكتابة عن طرح الأسئلة سينزوي الإنسان إلى ركن قصي مليء بالجمود والاستكانة للجاهز والسائد. وهنا يأتي ذلك السؤال المتعلق بجدوى الكتابة، وأعتقد أن جدواها ينبغي أن تصب في هذا الاتجاه تحديدا، أي خلخلة الحياة بالأسئلة، وجعل الكائن يعيش دائما على قلق مستمر تجاه الحياة، لأنه بغير هذا القلق يصبح كائنا ميتا.

 لم انحسرت تجربة النشر بالمغرب سواء تعلق الأمر بالملاحق الثقافية أو إصدار المجلات؟

أعتقد أن المجلات الثقافية في المغرب انحسرت بسبب غياب مشروع ثقافي واضح تتبناه، خلافا لما كان عليه الأمر بالنسبة لمجلات كانت رائدة وتصدر عن مشروع ثقافي قبل أن يتم منعها ويمكن ذكر الثقافة الجديدة والجسور على سبيل التمثيل. هكذا فإن العديد من المجلات صدرت ثم توقفت سريعا أو تذبذبت في الصدور. وغياب مشروع ثقافي هو في صميم مأساة الثقافة المغربية، وحتى إذا وجد هذا المشروع، فهو لا يجد ما يكفي من الدعم والمساندة.

وما ينطبق على المجلات ينطبق على الملاحق الثقافية إلى حد بعيد، ذلك أن العديد من الملاحق توقفت أو تذبذبت هي الأخرى في الصدور، فباستثناء ملحقي جريدتي العلم والاتحاد الاشتراكي، لم تستطع الكثير من الملاحق الثقافية الصمود في واقع يهمش الفعل الثقافي ويقزم دوره. والآن هناك ملحق آخر هو الملحق الثقافي لجريدة المنعطف، كما لا يغيب عنا الدور الذي لعبه في وقت ما ملحق أنوال الثقافي.

ومن الأسباب الأخرى، لهذا الانحسار، تدني معدلات القراءة الذي يؤدي إلى ضآلة حجم التوزيع الذي يحكم على هذه المبادرات بالانطفاء والإفلاس، خاصة أنها لا تستكتب أقلاما قادرة على خلق الحدث الثقافي بكتاباتها، نظرا لغياب إمكانيات مادية تفي بمتطلبات هذا الاستكتاب.

 ما رأيك في تطور القصيدة المغربية ؟

لست أهلا للحكم النقدي على القصيدة المغربية وتطورها، ولكن أقول بكل تجرد أن هذه القصيدة قطعت حتى الآن مراحل مهمة، وتطورت مع التحولات التي عرفها المجتمع المغربي منذ خمسينيات القرن الماضي، فعايشت أحداثا سياسية واجتماعية، وساهمت هي أيضا فيها بشكل من الأشكال، فأثرت وتأثرت. إلا أن الانشغال بالهم الاجتماعي والسياسي لم يودي بالشعراء إلى إغفال الجوانب الجمالية والأسلوبية واللغوية. هذا الانشغال المزدوج خلص القصيدة المغربية من الارتكان إلى الجمود، وأخرجها في وقت من الأوقات من الخطاب التبشيري والمحرض، المشبع بالسياسي والإيديولوجي، ليعيدها إلى الانشغال بالداخل، فظهرت قصائد تكتب الذات وتستلهم الخطاب الصوفي وتكتب اليومي والتفاصيل والقلق الوجودي والموت، وتطرح الأسئلة المتنوعة حول الكائن وصيرورته،  والكثير الكثير من القضايا المرتبطة بالإنسان في علاقاته بالعالم. لقد كانت القصيدة المغربية كائنا حيا، كانت صدى للقصيدة في الشرق، ثم انغمست في المعترك الاجتماعي والسياسي المغربي، ثم اغتسلت من كل ذلك لتخرج بهوية أخرى معلنة ولاءها لكل ما هو كوني. والجميل في كل ذلك أن كل الشعراء المغاربة انخرطوا في هذا الأفق الكوني، بمن فيهم أولئك الذين شكلت قصائدهم زخم المراحل السابقة.

 بعد كتاب الظل صدرت لك مجموعة مدين للصدفة أين تضع تجربتك الآن؟

أكتب شعرا منذ أكثر قليلا من عشرين سنة. هو عمر إبداعي قصير على كل حال. ومجموعتي الأولى التي صدرت سنة 2001، كتبت بين سنتي 1990 و 1994، وهي بالتالي عصارة نحو سبع سنوات من الكتابة. أما المجموعة الثانية فامتدادها الزمني أطول قليلا، ففيها نصوص كتبت بين 1994 و2006، وهناك مجموعة أخرى قد تصدر قريبا، تتضمن نصوصا كتبت بين 1995 و 2001. إضافة إلى نصوص لا تزال متفرقة. وكما ترى ليس هذا بالحصيلة الوافرة، وهذا يجعلني أقول إنني ما زلت في مرحلة البحث عن تراكم محترم، ليس فقط على مستوي الكم، بل أيضا على مستوى العمل في العمق، أي العمل على تطوير وتنويع طرائق الكتابة، وهو رهان أساسي بالنسبة إلي ما دامت الحصيلة على مستوى الكم قليلة، كما قلت. لهذا إذا كانت نصوص مجموعتي الأولى تنتمي إلى التفعيلة، فإن الثانية تنمي إلى قصيدة النثر، وإلى حدود الآن أتأرجح بين هذا الشكل وذاك، وأجعلهما يتعايشان في داخلي.

 هل من مشروع روائي؟

- لا أتذكر أن فكرة من هذا القبيل راودتني يوما. بل لم تراودني فكرة كتابة أي جنس إبداعي آخر. إنني أحاول كتابة قصيدة تستحق القراءة، وموازاة مع ذلك أحب قراءة الرواية، خاصة تلك التي أجد فيها زخما حياتيا كبيرا ينم عن تجربة حياتية ثرية تغني رصيدي الداخلي وتشحنه بالحيوات التي لم أعشها لكني أتفاعل معها. ويمكني أن أذكر روايات أحببتها، وقرأتها بكل الشغف الذي يليق بها. مثل روايات لجرجي أمادو ونيكوس كازانتازاكي، وأستورياس وإيزابيل الليندي وميلان كونديرا، إضافة إلى تلك الفراشة التي كتبها هنري شاريير، وغيرها.

 هل من أفق للحياة الثقافية بالمغرب؟

للأسف، عندما نتحدث عن الحياة الثقافية في المغرب، نتحدث بسوداوية قاتمة. وللأسف المضاعف أن هذه الرؤية مشروعة وواردة، وتشي بانسداد الأفق. الأسباب كثيرة، ولكن يمكن الإشارة إلى بعضها، ومن ذلك أن العمل الثقافي لا تتوفر له الإمكانيات المادية التي تسمح بإنجازه، حيث تظل كل المبادرات رهينة الآمرين بصرف الميزانيات في الإدارات المركزية والجماعات المحلية. بمعنى أن الهيئات الثقافية ليست لها ميزانية سنوية قارة تسمح لها بإعداد برنامج ثقافي على طول السنة واحترامه.

أيضا ليست هناك مجلات متخصصة تطرح السؤال الثقافي بعمق، وتسائل المشهد الثقافي في المغرب، بما يليق به من روح نقدية تروم تعميق النقاش حول القضايا الثقافية والفكرية التي تشغل الناس.

هناك فقط ملاحق ثقافية في بعض الجرائد اليومية، لكن ما عليها يبدو أنه أكبر مما يمكن أن يكون لها.

وسواء تعلق الأمر بالمجلة أو الملحق، هناك إشكالية هي مرتبطة بضعف التصور العام للعمل الثقافي، و في نفس الوقت تعمل على إضعاف مساهمة الكتاب والمثقفين عموما في الحياة الثقافية من خلال كتاباتهم. هذه الإشكالية هي أن الكاتب لا يزال ينشر ما يكتبه مجانا، وهو ما يفسر، في جانب مهم، وجود العديد من الكتاب المغاربة في المجلات المشرقية وفي الخليج، وهو ما يفسر أيضا فقر الكثير من الكتابات التي تنشر في مجلاتنا وجرائدنا.

وعندما تحدثت عن الناس، أعلاه، بهذا الإطلاق، فينبغي أن نضيف سببا آخر لما يبدو من انسداد الأفق، هو عدم إقبالهم على العمل الثقافي سواء عبر حضور الأنشطة التي تنجز، أو عبر الإقبال على الكتاب، إذ أننا غالبا ما نقيم أنشطة في قاعات شبه فارغة، وأننا نملك نسبة قراءة متدنية مقارنة مع عدد سكان المغرب، ولا أريد هنا الخوض في أسباب العزوف عن القراءة.

ومن الأسباب الأخرى التي تؤيد أن الأفق أسود، إذا لم يتم العمل على تبييضه، أن مختلف الكتاب والشعراء والمثقفين بشكل عام لا يمثل العمل الثقافي إلا جزءا يسيرا من اهتمامهم، بسبب ضرورات الحياة، فهم إما موظفون أو أجراء أو صحافيون، ويستنزف العمل والحياة اليومية منهم الكثير من الجهد، وما يفضل عن ذلك فهو للعمل الثقافي.

 تشتغل في عالم الصحافة مما يفترض تماسا مع اليومي، هل يؤثر هذا المعطى على  اشتغالك الأدبي؟

جواب هذا السؤال مضمن في الجواب السابق، بمعنى أنني أيضا أحاول إيجاد الفجوات التي تتيح لي ممارسة "هوايتي" في الكتابة الأدبية سواء الشعرية أو تلك القراءات التي أنجزها للكتب التي تروقني. وكما أشرت إلى ذلك فاليومي لا يرتبط فقط بالعمل بل بالحياة بشكل عام، وهذا بلا شك يؤثر كثيرا في التراكم الذي يمكن أن أنجزه على مستوى رصيدي الشعري، كما يؤثر على أي مبدع آخر.

 بماذا يفكر جمال الموساوي في زمن الحروب و انحسار القيم؟

في زمن مثل الزمن الذي نعيش فيه، لا أفكر إلا في إنقاذ الإنسان الذي في داخلي. أنقذه من التيه والضياع والانجراف. أحاول أن أجعله يفكر، وألا يسقط في التنميط الذي يسير إليه العالم. إن التنميط هو ما تسعى إليه العولمة الزاحفة، التي تأتي على كل شيء، على القيم وعلى الأفكار وعلى تعدد هذه الأفكار. بقدر ما يتحدث العالم المتقدم عن الديمقراطية وعن حرية الاختيار فهو يزكي التنميط وأحادية التفكير، ويقوم بالتوجيه نحو نمط معين من العيش، ويسعى لابتلاع أي فكرة مخالفة، هذا لا يتم بالضرورة بواسطة الطائرات ورادارات توجيه الصواريخ، وإنما عبر التلاعب بالعقول، وتلك حرب أكثر خطورة.

ولعله لهذا السبب إذا ألقينا نظرة على الشعر الذي يكتب حاليا، ليس في المغرب فحسب، بل في كل الجهات من العالم، نجده مغرقا في الهموم الإنسانية الصغيرة، يحاول مواجهة الضآلة التي آل إليها الإنسان في هذا الزمن، ويحاول إنقاذه من التآكل والتلاشي.

 كتاب لا تنصحنا بقراءته؟

الواقع أن ثمة الكثير من الكتب التي تستحق القراءة، ولا أعتقد أنني في موقع يسمح لي بتقديم مثل هذه النصيحة.

 شذرة أشعلت رؤاك؟

عبارة جميلة للكاتب الفرنسي أندري مالرو تقول " هناك شيء من خلود يبقى في الإنسان، الإنسان الذي يفكر. شيء أسميه نصيبه الإلهي، هو قدرته في أن يجعل الدنيا موضع سؤال". أتمنى أنني تذكرتها على ما هي في كتاب "المذكرات المضادة".