حوار مع القاصة والشاعرة خديجة موادي
خديجة موادي
صبيحة شبر
شاعرة رقيقة وقاصة متمكنة من أدواتها الفنية ، تحرص على إنتقاء مفرداتها وتغوص في بحر كلماتها ـ تستخرج منها اللؤلؤ الثمين ، كان لي حوار معها
1/ من هي خديجة موادي :
نثار غيمة غافية في سماء الوجود ، تستحث خطواتها في دروب المطر ، عمرا ينهمر في الزمن العابر لكي تكون كما تحلم : انسانة حقيقية تضع عصافير أفكارها على كف قلبها ..
2/ كيف كانت البداية ؟ ومن وقف بجانبك مشجعا ؟ وماتأثير موقفه على مسيرتك الأدبية؟
البدايات كانت في الطفولة كقرع ناقوس جميل ، حينما يتهادى رنـينه بأغـواري كـنت أمضي نـحوه منومة إلا من افـتتاني بقزحية الكلــمات التي اكـتشفتـها مبكرا ، فتغفو عيناي على حكايا ورســومات سلـسلة " إقرأ " للراحل أحمد بوكماخ والتي كنت أجد متعة قصوى في الركض خلف فراشاتها الملونة وقصصها الشيقة ، تاركة آثارها تملأ شريان القلب بالخيال ، به أعبر الحدود من دون تذاكر .
وكلما ازداد قرع الناقوس رنينا .. كان إحساسي بالحروف يتناسل أكثر فتخرج من زحمة الرأس نحو مساحات الورق الفسيحة ، سكبت حرفي فوق الحيطان .. طاولات الدراسة ورمل البحر .. وورق الشجر .. خدود الورد .. وجذوع النخل ... ونتوء الصخر ..
من شجعني ؟؟ كلمة صادقة من قارئ ، أو التفاتة تشجيع كانت تكفي لأن تدب الحياة لحروفي خاصة وأني لم أكن أهتم بنشر كتاباتي إلا من حين لآخر ولفترات متباعدة .
نشرت في فترة سابقة ، العديد من كتاباتي بالصفحات الإبداعية التي كان يشرف عليها الأستاذ فراس عبد المجيد وكانت بحق مساحة بوح جميلة جدا منحتني مذاقا جديدا للكتابة وللنشر ، بالموازاة مع مشاركتي في عدة ملتقيات وطنية قربتني من المشهد الثقافي أكثر ...
إني جد ممتنة لكائن صموت غرس إبره عميقا في عروقي .. أعرفه جيدا ، وقرأت تفاصيله في دواخلي فانبجست منه العيون ، مدينة له بالكثير ، وكلما نظرت إلى وشمه بداخلي تذكرت مزاياه التي ينفر منها الكثيرون .. كان معي يعلمني الحياة في وجهها الآخر، وجوده كان يعطيني دافعا ما للكتابة .. فلولاه ماكتبت حرفا .. انه الألم حين يفيض رواء لمشاتل روح تهفو للأمل وتبحث عن عزف نشيدها في تواتر الضوء ، حلما إنسانيا وطيبة عذبة الرحيق .
4/ تكتبين القصة والقصة القصيرة جدا والشعر والخاطرة ، المقالة ، أي من هذه الفنون أكثر تمثيلا لخديجة موادي ؟
لكل جنس أدبي طعمه الخاص ونكهته الخاصة ، وكلها وسائل تعبيرية أفرغ فيها شحنة مايعتمل في ذهني من أفكار تختار لنفسها الإطار الإبداعي الذي يتناسب مع مضامينها .. خديجة تجد نفسها في البوح ، حينما يداهمها تفتح له الأبواب والشبابيك ثم تتركه يترقرق من أي نبع يشاء .
من هو الأديب الذي مازلت تعتبرينه أستاذا لك ؟ ولماذا ؟
ليس هناك اسم بذاته دون آخر بل هي عشرات النجوم المتلألئة والأيادي التي حين لمست مابداخلي ، أنارت لي عتمة ما أو منحتني جرعة حماس في أوج التداعي . قرأت لأسماء كثيرة لن أحصيها ، منهم شعراء المهجر جبران خليل جبران ، ايليا أبو ماضي ، الشابي .. مي زيادة ، فيكتور هيغو ، بلزاك دوستويفسكي ، غادة السمان ، محمد الصباغ ، محمد عزيزالحبابي ، عبد الله العروي ، حنا مينة ، عبد الرحمان منيف ، فرانسواز ساغان ، ألبير كامو .... الخ
كثيرون و كثيرون أولئك الذين مروا من ذاكرتي وتركوا وقع خطاهم فيها تثمر ولو بعد حين .
6/ ماهو الكتاب الذي كلما قرأته اشتقت الى قراءته مرة أخرى ؟
رواية " شرق المتوسط " للرائع عبد الرحمان منيف .
7/ حضرت عدة مهرجانات ، مارأيك بها ؟ وهل يمكن أن تكون تلك المهرجانات ممثلة للحركة الأدبية ؟
لاأحد ينكر دور المهرجانات في خلق ديناميكية بالمشهد الثقافي لما تعكسه من تلاقح وتلاق بين المبدعين لكنها كسائر الأمور التي متى لم تجدد نفسها تلاشت . تحتاج الكثير من المهرجانات إلى دعم حقيقي يشد من عضدها وأيضا للالتفات أكثر نحو الأصوات الصاعدة بتنوع أطيافها ، فالدم الذي لايتجدد يتخثر !الحراك الأدبي يصنعه الفعل الثقافي والحضور الانساني في أجمل تجلياته. والمهرجانات لاتمثل سوى جزءا من روافد هاته الحركية . بالانفتاح والعمل الرصين والمحبة يبنى الفعل الثقافي لا بالشعارات الواهنة والتواصل المصطنع ..
نلت عددا من الجوائز مارأيك ؟ هل تمثل تلك الجوائز حافزا لمواصلة الابداع ؟؟
الجوائز تورط المبدع أكثر في متاهات إبداعه فهي تجعله دؤوبا وأكثر عطاء ، لكن إن هي أحالته إلى كائن مغرور ومتعال قزمته أكثر . الجائزة اعتراف جميل ، وتكليف أكبر ، تعطيني إحساسا آخر بثقل الأمانة .. وأن الطريق مايزال طويلا وشاقا ولابد أن أمشيه باحثة عن تغذية سليمة لجذور الكتابة بتطويرمقوماتها وأساليبها مهما كان حجم التعب .
9/ ماهي طقوس الكتابة لدى الأديبة خديجة موادي ؟
لاموعد مسبق للكتابة ، هي تعترضني حيث لاأتوقع مثل قاطع طريق لايحفل بتوسلاتي ، أحيانا أحتال عليها فأسجل خطوط أفكاري ريثما أعود لبقية التفاصيل في لحظة سكون أعيد فيها صياغة ماكتبت . وأحيانا تهاجمني بقوة فأخضع لها تماما فلا يمضي وقت إلا وقد كتبت مايجول في وجداني دفعة واحدة .
أعشق الكتابة ليلا على إيقاع موسيقى هادئة ، ونافذتي مشرعة في وجه السماء .. بالليل تستيقظ حواس اللغة وتنتفض ، فالإحساس بالهدوء ليلا يمنحني رغيف الكتابة على طبق من حنين.
10/ ماهي هموم المبدع العربي ؟ وكيف يمكن تجاوزها ؟
هي هموم ذاتية وأخرى موضوعية . المبدع العربي إنسان قبل كل شيء ، لديه متطلبات يومية ،
أحلامه وانكساراته وهواجسه .. هو مطالب أن يغرد عن الحرية وهو محروم منها .. مطالب بالتحليق عاليا والأفق ضيق .. مطالب بالاستمرارية ومعاول الواقع تشدخ جمجمته بالمزيد من الضجيج والضغط اليومي المتكرر .. المبدع العربي بأمس الحاجة لنفض الغبار عنه ، والتعامل معه على أساس أنه صاحب دور تثقيفي له ماعليه من واجبات وحقوق ، لا على أساس أنه كائن ذو لحن نشاز وغير قابل للاستيعاب أو الفهم . يموت الأدباء ذوي الأنفة بصمت .. لايبكيهم أحد سوى أصدقاؤهم ولا أحد ينصت لوجيب آهاتهم والأبواب تصفق في وجوههم بصلف ، في ما نفس الأبواب تفتح على مصراعيها لمغنيات يرقصن بالأرداف والخصور الرشيقة ويفهمن جيدا لعبة الوقت !!
لماذا ؟؟؟
11/ ماهي رؤية الأديبة خديجة موادي للمؤسسات الفاعلة في مجال الكتابة والقراءة ؟ ومالمطلوب لتطويرها ؟
لاأعرف أية مؤسسات فاعلة تقصدين .. ؟ لكن اسمحي لي أن أقول إن الجو العام للكتابة والقراءة على صعيد المؤسسات أو خارج المؤسسات جو تعلوه الكآبة والشحوب ، كيف لا وحصة الكلمة من ميزانية الإنسان هزيلة بالمقارنة مع باقي الاحتياجات . فهل نحن شعوب الخبز في المقام الأول والأخير ؟؟ أم أن رغيف الروح والتثقيف معجون فقط بالخواء ؟؟
كل من له علاقة بهموم الكتابة عليه أن يساهم في إعادة الاعتبار أولا للكاتب ومصالحة المتلقي مع الكتاب ومع المعلومة ومع الفكرة .. ومع الكلمة الناصعة التي تعيد شيئا من البياض لعالم استوحش فيه الإنسان نفسه .
12 / مارأيك بالأدب النتي ؟ وهل استطاع أن ينافس الورقي ؟
النت أحدث ثورة وعلى أكثر من صعيد ، ساهم بشكل كبير في خلق حركية أدبية يموج فيها الصالح والطالح كما هي سنة الكون في كل شيء . من شاء غرف منه العلم والنور ومن شاء حام حول النار فهو كالهشيم .في الأدب ، لاأظن أن هناك تنافسا بقدر ماهناك تكاملا . فالأدب النتي فرض نفسه بقوة بحكم سرعة التواصل وسهولته . تجربتي في النشر النتي قصيرة ومع ذلك هي كافية لأن ألاحظ حركية جميلة بين النتي والورقي بدليل صدور العديد من الكتب والمجلات الورقية بعد مخاض في رحم النت ويساهم فيها كتاب ومبدعون من مختلف أنحاء العالم . النت بدوره يحتوي في طياته على الورقي اذ تتحول الصفحات النتية بضغطة زر إلى أوراق مطبوعة ورقيا .. أليس الأمر مذهلا ؟؟
ومع ذلك ، لامحيد عن الكتاب الورقي فله عشاقه ومكانته . وهو لن يصير جزءا من الماضي لأنه من صنع الحاضر فكيف نتجاوزه ؟
13/ ماهي العوامل التي تحول بين الأديب وبين نشر ابداعه ؟
الإبداع في حالات عدة غالبا ماتكون ولادته قيصرية تسبقه مشاكل في النشر والطبع وإخراج المخطوطات إلى ضوء الطباعة ومشاكل توزيعها أيضا ... كلها عوائق تحول بين نشر الإنتاج الإبداعي وتسريحه من سجن الرفوف والظلال .
في المقابل أرى أنه في الوقت الراهن لم يعد النشر يشكل عقبة كأداء مع ظهور وسيلة النت العابرة للقارات . لم تعد مفاتيح النشر في يد أهل الحل والعقد ممن يضيقون الخناق على الابداع بالزبونية والعلاقات الاخوانية . يبقى على المبدع أن يظهر براعته في التعاطي مع الابداع بمقدرة جميلة وإنسانية وألا يستسهل المادة التي يشتغل عليها ، فالكتابة عمل شاق لايجب الإستخفاف به .
14/ لم تعد القراءة كما كانت احدى الهوايات الجميلة فما سبب هذا التخلي ؟
وكيف نعيد للقراءة القها القديم ؟
بالرجوع إلى لغة الأرقام عن نسبة المقروئية في عالمنا العربي عامة وبالمغرب خاصة ، تطالعنا أرقام صادمة وكارثية . فالقراءة سلوك تربوي يتم تلقيحه بشرايين الفرد كي يمنحه الحصانة والعلم والقدرة على مجابهة ماهو آت وفهم ماهو حاصل .. الذي حصل أن الجرعة استبدلت بمخدر ينوم الحواس والعقل والروح لتفريخ إنسان غير قارئ .. غير واع بدوره في المسار الحضاري والنهضوي .. إنسان يخطط له ولايخطط .. يفكرله ولايفكر .. إنسان لايرى أبعد من أرنبة أنفه
وأكيد أننا سنجني ثمار هاته الهشاشة من جيوب المستقبل المثقوبة سلفا بأعطاب مزمنة تشي بغد غامض . لإعادة الألق للكتاب علينا أولا أن نحبه بسخاء فمتى أحببناه منحنا مانريد من منطلقات أساسية للانطلاق في ركب الرقي .. ومتى هجرناه حلت بنا لعنة الجهل والجهل كما تعلمين أقرب طريق لجفاف العقل والروح .. إنه الهاوية واليباس !
15/ أنت موظفة بالقطاع العام ، هل تحول الوظيفة بين الأديب وبين تطوير أدواته الفنية؟
الأديب أشبه بطائر ، يرفض السجن والسجان . تواق هو للهجرة والتحليق نحو الآفاق البعيدة ولو بعربات الخيال ، والفضاء الشاسع يبقى ملاذه بدلا من الجدران التي تبعث على الدوار . العمل الوظيفي يجعل المبدع موزعا بين لقمة العيش وبين رغبته في المضي أبعد ، ضيق الوقت يصير عذابا حقيقيا يشتت ذهنه ويحرمه من التفرغ لكتاباته كما ينبغي .
بالنسبة لي ، أكتب ضدا في كل الضجيج وتحت سقف ضيق من الوقت مهدد بالإنهيار في أية لحظة ،
الأمر شاق وخانق جدا . أحيانا كثيرة أكتب تحت القصف . لكن الحياة تفرض شروطها
فالعمل كرامة مثلما هي الكتابة بلسم ، حينما أوفق بينهما وأنجح في إخراج نصوص جديدة
أتعجب ، كيف أمكنني ذلك ؟
16/ هل تفكرين بالقاريء وأنت تكتبين ؟ ومانوع القاريء الذي تحرصين على أن يتابع ابداعك ؟؟
هو رفيق لي ، أطل عليه من منخل الذات ويطل علي من ضفاف تجاوبه ، أحرص حين أكتب أن أنقله معي إلى حيث بوسعه أن يجد شيئا منه منثورا بكتاباتي ودونما أن يحرمني متعة الغوص في الأعماق وعيونه تراقبني أو تحد من توغلي . القراء أنواع ، يسعدني القاريء الذي يستوعب نبضي ويفهمه بتذوق ، وأسعد أيضا حينما يلامس حرفي العائمين في لجج الصمت بلا حنجرة ، المتبرمين من قيود تحكم وثاق أحلامهم وتزهق كل جميل بدواخلهم ..
القاريء الذي أتحالف معه في قضم حبال القبح ومناشدة الأفق الرحب .. أقرب القراء إلي !
17/ هل تجدين أن بعض أعمالك أكثر قربا منك ؟ لماذا ؟ وماهي تلك الأعمال ؟
كل نص له في القلب نبضة حين تورق تجعل القلب مليئا بالحياة .. يولدون جميعا من رحم الكلمة وحرقتها وحلمها ، خلف كل نص آهة سحيقة لصرخة أو حلم يود لو يشهق . هناك نصوص أحبها ، لكن قد يكون أفضل أعمالي مالم أكتبه بعد ، فمازلت بحاجة لأن أكتب وأحفر أكثر في أرض الكلمة وهي ليست بعقيم وتربتها ولادة .
18/ هل سبق لك وأن شعرت أنك تسرعت في نشر أحد النصوص ؟ ولماذا ؟
في الغالب لست مستعجلة ، طبعي المتمهل يجعلني أتريث فعل الإقدام على النشر.
النص متى نشر صار مستقلا عن كاتبه ويخضع لقراءات متعددة بحسب وجهات نظر القراء.
19/ ماذا تتمنين في المستقبل القريب ؟ وفي المستقبل البعيد ؟؟
في كلتا الحالتين أتمنى لخديجة أن تصحو يوما على عالم أجمل .. أن تحقق ذاتها وتبتسم دوما كلما أومأت برأسها نحو الخلف دونما ندم .. وأن تخطو عتبات الغد بنفس القدرة على الابتسام ، بكثير من الحب وبقليل من الأسف !!
20/ ماهر السؤال الذي كنت تتوقعين أن أطرحه عليك ولم أفعل ؟؟
بل أشكرك على تنوع أسئلتك ، اللحظة ليس في ذهني أي سؤال .
21/ ماجديدك ؟
أبلل ريشي مثل نورس بشاطئ الكتابة ... وأحلق من جديد !!
بالضفاف قصص قصيرة جديدة .. هي آخر ماكتبت الآن .
************
لك وردة من حديقة القلب عزيزتي صبيحة