مع سميرة صالح طه
سميرة صالح طه
سيرة تشرد فلسطينية
ميسون أسدي
دير الأسد بلدي وأهلي، لبنان مسقط رأسي، وفي الرياض أنشأتُ أسرتي، وكندا اليوم موطني!
*** نشأنا على حب فلسطين والمطالبة بها، أرضنا وسنرجع إليها***لو خيروني أين اسكن في العالم لاخترت الرياض، عشنا بها حياة كريمة ومرفهة في السبعينات والثمانيات***لجئنا الى كندا طلبا للعلم لأولادي، عام 1993 ممنوع الأجنبي دخول الجامعات السعودية***أقيم في مدينة "هالي فاكس" الكندية وتسكنها 25 ألف عائلة عربية، وتعتبر اللغة العربية الثالثة بعد الانجليزية والفرنسية في كندا كلها***لبنان وطني، عرفت فلسطين وأنا ابنة 53 عاما، بعد أن حصلت على الجنسية الكندية***
* إنها واحدة من قصص التشرد الفلسطيني، عائلة فلسطينية أرغمت على التنقل من بلد إلى بلد فقط لأنهم فلسطينيين! وهي نموذج للتشرد الفلسطيني، رغم أن معاناتها لا تقاس بمعاناة العديد من الفلسطينيين الذين تم ملاحقتهم وإبادتهم.. عائلة نجت من الإبادة لكنها لم تسلم من التشرد القسري..
سميرة صالح طه، جذور عائلتها من قرية دير الأسد الجليلية، تروي لنا في هذا اللقاء قصة تشرد عائلتها.. وتقول: والدي ترك فلسطين، ظروف الحياة اضطرته لتركها، كان يتاجر في الأقمشة مع قريبه محمد الشحبري، في لبنان وسوريا، وفي عام النكبة (1948) كان والدي يزاول أعماله داخل الأراضي اللبنانية، وأغلقت الحدود بسبب الحرب، فاضطر أن يبقى هناك.
كان محمد الشحبري يملك (300) دونم في منطقة الريفنري بين حيفا وعكا وله العديد من الدكاكين والحواصل في حيفا، وقام بفتح دكان خاص لأبي، وقد شاركه فيه تاجر اسمه احمد عمورة.
لأبي عدة أخوال: سليم الحنفي، محمد الحنفي، عبد السلام الحنفي، علي الحنفي وخالاته، خالته خديجة، ونجمة التي أرضعت أبي سنة مع ابنتها بديعة، خالته خديجة كانت لها ابنتين، وخديجة، كانت خياطة، ماتت بأثر لغم انفجر بها عام (1948) أثناء تجهيزها لمراسم خطبتها.. وحدثنا أبي، أن خالتي سلمى عندما هربت تركت علبة من الصفيح مليئة بالذهب في دارها. مما يدل على أن أحوالهم المادية كانت جيدة.
عندما سقطت حيفا عام (1948)، ترك أبي حيفا وفتح دكان سمانة في "السوق العتم" في عكا.. كان يذهب إلى بيروت ويغيب عدة أيام، يبيع ويشتري، بعد سقوط عكا بقي أبي في بيروت ولم يستطيع الرجوع.وكثيرا ما كان يشتاق لوطنه وأهله، ذكر فلسطين وأهلها بصورة دائمة، وتزداد حدتها في أيام رمضان والأعياد، وكان يقوم بأعمال الخير في المخيمات.. تابع أبي أخبار فلسطين عبر الراديو والتلفزيون، وكان ينفعل ويبكي عندما يسمع أخبار فلسطين السيئة، كان يشرد البال فترة طويلة وحينما يصله خبر وفاة من بين أهله ينقطع عن الطعام شهر، وكان مشغول البال على أخوته، حيث هو البكر وكان مسؤولا عنهم بعد وفاة والدتهم مريم الحنفي.
أما أمي فاصلها من قرية الجديدة وقد تهجرت مع عائلتها إلى لبنان عام النكبة، وكانت في حينها مخطوبة لابن عمها عادل طه.. وفي لبنان تعرف أبي عليها وتزوجها، وفي زيارتي هذه حرصت على زيارة قرية جديدة وعمي عادل، ذكرى لامي...
**الولادة في النويرة اللبنانية
أنا ولدت يوم 29/7/1953 في منطقة "النويرة" في وسط بيروت، وعشنا هناك حتى جيل 16 عاما وبعدها انتقلنا إلى منطقة "الرواس" في بيروت ويسكن هذه المنطقة الفلسطينيون واللبنانيون وعلى ضواحيها تقع مخيمات "عين الحلوة" و"صبرا" و"شتيلا".
جمعي أخوتي ولدوا في منطقة النويرة، لم نسكن في المخيمات، انجبت أمي 8 أطفال، وكانت امرأة مكافحة تساعدنا في الكتابة والقراءة، رغم أنها أمية، كان مهم جدا، بالنسبة لها، أن ندرس ونتعلم، وواصل أبي عمله في التجارة في لبنان أيضا، كان له دكان سمانة في المنطقة التجارية في بيروت، فالوضع الاقتصادي كان جيد.
**أثر أبي العميق في قلبي
اجمل لحظات عمري، ونحن صغار في فترة الفجر، نستيقظ على صوت القران في إذاعة "بي بي سي" القسم العربي في لندن، وكان أبي يوقظ أمي ويحضر لها قهوة الصباح، وهذا يشعرني بالحب والطمأنينة، وفي المساء بعد الانتهاء من عمله، يحضر النرجيلة ونجلس مع أمي حوله، ليقرأ لنا من جريدة "الحياة" اللبنانية وجريدة "الشرق الأوسط" و"النهار".
**أقارب في مخيم عين الحلوة
كان لنا بعض الأقارب في مخيم "عين الحلوة" وحرصنا على زيارتهم وزيارة أقارب والدتي المهجرين من قرية جديدة.. في الأعياد يشتري أبي الهدايا للأقارب، محمود طه، احمد طه، بيت صنع الله، الفاعور من شعب، بيت الأسدي في عين الحلوة. آمنة أبو النهار، رهيجة الذباح، آمنة نعمة..وغيرهم
آمن أبي بأنه ملزم تجاه أقاربه وتجاه الأهل في المخيم، أهل دير الأسد كانوا بالنسبة له أهله.. لأبي أصدقاء كثيرون في صبرا وشتيلا ويزورهم بشكل دائم ومع الزمن تحول الأصدقاء إلى أهل.. وألزمنا بمناداة كل فلسطيني في المخيم أو غيره باسم عمي، وما زال قسم كبير من الأسدية حتى اليوم في مخيم عين الحلوة.. والوضع الاجتماعي والاقتصادي في المخيم كان مزري،: فقر، عدد كبير من الأنفار يعيشون في بيت صغير، لا يوجد حمامات في البيت يسيرون مسافات طويلة خارج البيت لاستعمال الحمام!.
**الثقافة سلاحنا في المهجر
بدأت فترة الحضانة في مدرسة خاصة، في منطقة "البسطة" القريبة من منطقة "النويرة"، لأن "وكالة غوث اللاجئين- الانروا" لم تؤمن حضانات، وتعلمت الابتدائية في مدارس الانروا، وكان التعليم مجاني، أمنوا الكتب والدفاتر للفلسطينيين، أما دراستي الإعدادي والثانوي فكانت في مدارس "اتحاد الكنائس الإنجيلية" في بيروت، مدارس خاصة تشمل الطلاب الفلسطينيون، المسيحيون وبعض اليهود، وكان لي صديقتين عزيزتين وهن من يهود فلسطين، هاجروا إلى لبنان وأقاموا هناك وبعض العائلات المطرودة سياسيا من سوريا، منذ أيام نور دين الأتاسي.
تعلم أخوتي الابتدائية، في مدارس الانروا، لأنها قريبة من البيت، أختي الكبرى هدى تزوجت وهي ابنة 16 سنة، أخي الكبير محمد، درس في مدارس المسيحية في منطقة "سن الفيل"، وأبي اختار له مدرسة جيدة وكانت من أعلى المستويات فقد أراد له الأفضل.
**صابون العجيب وبراءة الاختراع
والدي أحب مهنته ولمع بها، وفي أواسط الستينات أسس مصنع لإنتاج مواد كيماوية للتنظيف في منطقة صبرا وشتيلا في بيروت، وأنتج صابون خاص وأعطاه اسم "العجيب"، وهو عبارة عن مادة لزجة، وكان بالفعل عجيب، لأن الصابون لم يكن صلبا وليس سائلا.. وقام أبي بتسجيله في غرفة التجارة والصناعة اللبنانية وحظي على براءة اختراع هذه المادة.
**هربنا من المجازر إلى مصر
سكنا في منطقة الرواس حتى مذابح "صبرا وشتيلا" عام 1981 فاضطررنا للهروب إلى مصر خوفا من المجازر التي حدثت فيما بعد في بيروت وعاش اهلي تسع سنوات في القاهرة.
حاول والدي في مصر تأسيس نفس مصنع الصابون مع بعض الشركاء من غزة ووجد صعوبة كبيرة في تحقيق هذا المشروع خلال السنوات التي قضاها في القاهرة.. في نفس السنة التي نجح بها بفتح مصنع الصابون من جديد، لتأمين لقمة العيش لعائلته في القاهرة، توفى والدي في القاهرة في حادث سيارة.. لم تكن الحياة سهلة على أبي في القاهرة ، كان يستدعى ربه أن يميته، لم يحتمل البيروقراطية والحياة الصعبة هناك.
**تزوجت فلسطيني من منشية عكا
تزوجت في لبنان عام 1974 من فلسطيني، يقطن في مخيم "عين الحلوة" وهو مشرد من "منشية عكا"، عائلته بيت الحاج حسين، وأبيه حسين الحاج حسين وأخيه الحاج وهبي من أغنياء منشية عكا، وملكوا في المنشية أراضي شاسعة باسم "بغلة الدابويا"، والتي أقام عليها اليهود والانجليز محطة تجارب زراعية.
**الرياض خياري!
عمل زوجي في السعودية خلال (17) سنة في المقاولات وتمكن من إنشاء شركة مقاولات مع أخوته في الرياض، وسكنا هناك.. كافحوا الفلسطينيون في الرياض كثيرا، حيث عملوا في ظروف طبيعية صعبة شديدة الحرارة ومعظمهم عملوا في شركات: مراقبين طرقات وشوارع مدرسين وممرضين وممرضات، حياتنا كانت محترمة ، شغل وكفاح وهناك مردود مادي، أنجبت أطفالي الثلاثة في السعودية، درسوا في مدارس خاصة هناك، كانت حياة عادية ومرفهة، ولو خيروني اليوم، أين اسكن في العالم، اختار الرياض، حياتنا كانت كريمة ومرفهة والأمر ينطبق على كل الفلسطينيين في السبعينات والثمانيات.. أختي وأولادها في السعودية وخالي وأصدقائي أيضا، وما زالت نسبة عالية من الفلسطينيين في الرياض، من غزة والضفة الغربية وأيضا الجليل.
**الهجرة مرّة أخرى.. وإلى كندا
تركنا الرياض وذهبنا إلى كندا، لنوفر تعليم عالي لأولادنا، لأن السعودية في عام 1993، منعت دخول الأجنبي إلى جامعاتها لأسباب سياسة.
سكنت وعائلتي في كندا منذ عام 1995 وحتى اليوم، وهناك لا يوجد تمييز، أعيش في منطقة تدعى "هالي فاكس" يتواجد بها حوالي 25 ألف عائلة عربية متواجدون في منطقة "نوفا سكوتشيا"، وتعتبر اللغة العربية الثالثة بعد الانجليزية والفرنسية في كندا كلها.
نحن كفلسطينيين، نحاول الارتزاق وهناك ناس توفقوا وتقدموا وهناك من فشلوا، هناك الأطباء، وهناك من يعملون في المطاعم، وهناك من توفق ويعمل في سلك الدولة، العمل مضاربة وليس سهل، هناك تنافس شديد للحصول على الوظائف.
العرب في مدينة هالي فاكس واعون وتهمهم أمور فلسطين والعراق، فيقيمون المسيرات دعم لغزة والعراق وتعبيرا عن سخطهم من الوضع السياسي الراهن، ونجد دعما من الكنديين.. أقام الشباب الفلسطيني في الجامعات جسور حوار مع الكنديين من نفس الأعمار، وشرحوا لهم بإسهاب عن اغتصاب فلسطين وعن قضيتنا وتشردنا، وذلك بفضل وعي وعزيمة الشباب الفلسطيني.
حياتنا كلها جهاد بسب الظروف الطبيعية، أحيانا تصل درجة الحرارة إلى (40) تحت الصفر، والأحوال المادية بسيطة ففي كندا نتعب ولا يوجد توفير، العيش في السعودية أهون لنا في جميع المجالات
**شتات لا يرضى به صديق أو عدو
أخوتي مشردون، كل واحد في بلد: الرياض، الكويت، أبو ظبي وأمريكا وبيروت، يسكنون مع أزواجهم.. عندما كنت في الرياض كنا نلتقي مرة في السنة في بيت والدي في بيروت، وكنا نلتقي في القاهرة إلى أن توفى والدي في القاهرة.. بعدها ذهبت من كندا إلى لبنان مرة واحدة لزيارة أخي في بيروت لأن التكلفة باهظة.
حاليا، وضعي المادي متوسط، مثل أي كندي عادي، كل من جاء إلى كندا جاءوا مع مال والشرط الكندي لدخولنا أن نكون مع مبلغ مادي تقره الدولة، لذلك وضعنا المادي جميعا جيد، نمارس طقوسنا الدينية من مساجد وكنائس وأعياد وطنية نحتفظ بها ونتذكرها.
أعيش مع أبنائي في نفس المنطقة، ابني البكر، عالم أبحاث في الفيروسات والأمراض والجراثيم، ابني الآخر يعمل مدير في شركة "سوني" والاثنين متزوجين نساء كنديات.
**أخاف الحرب
أنا أخاف من الحرب وهذا ما يمنعني من العودة إلى بيروت، لبنان هو وطني الام ،تعرفت على فلسطين وأنا في جيل 53 عاما، بعد أن حصلت على الجنسية الكندية.
أما قرية "دير الأسد" فهي بلد أبي وبلدي، بها أهلي، قرية حلوة، وهواها احلى.. ومن أجمل أحلامي أن نلتقي أنا وأخوتي في "دير الأسد" أن نكون بين أعمامي وعماتي وان نعيش أحلام وآلام البلد، تعلقت بالبلد بعد أن زرتها، والآن ساترك روحي وقلبي فيها، هناك أخبار تزعجني من البلد، أريد أن أعود وان أصلح فيها، أقيم أي جمعية لبحث المشاكل وأسبابها وكيفية حلها، أهل الدير طيبون ولكن هناك جهل في التربية وأسلوب التعامل وعدم نضج، وهم بحاجة إلى مساعدة.. دير الأسد بكل عائلاتها هم أهلي، غطائي وسترتي،هم الحب الذي تاه عن عيني 50 عاما، وجدته ولن افرط به أبدا، دير الأسد هي الأمن والأمان لذاتي
في الماضي لم تكن لي هذه الأحلام، لأني لم أتعرف بهم، واليوم تعرفت عليهم وعرفت بأنك عندما تتحدثين إليهم بلطف وبحب وبقلب واسع، يهبونك كل ما يملكون....
أحب فلسطين وأهواها ،القدس والأقصى حق لا يستهان به على طول الأزمان.