حوار مع الروائي والمفكر المصري يوسف زيدان

حوار مع الروائي والمفكر المصري يوسف زيدان

رواية عزازيل تسعى للكشف عن الإنسان المطمور في التاريخ

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

الروائي المصري يوسف زيدان الحائز مؤخرا على جائزة البوكر العالمية ، هو باحث ومفكر  وهو مدير مركز ومتحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية ، وله بحوث علمية في الفكر الاسلامي والتصوف وتاريخ الطب العربي ، وعمل مستشارا لبعض المنظمات الدولية مثل جامعة الدول العربية ، والأسكوا واليونيسكو ، وهو متخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه .

 كتب رواية "ظل الأفعى" و"عزازيل" الحائزة على جائزة بوكر العالمية ، وهو بصدد كتابة روايته الثالثة "النبطي" ، ونلمس في رواياته بحثا عن الإنسان المطمور في التاريخ ، وقد عصفت به الوقائع المروعة عبر تعاقب الحقب التاريخية ، و نستشف مسا للجوهر الإنساني عبر ولوج تلك العاطفة الفطرية في حالتها البدئية قبل أن تتلوث ، جاعلا من الرواية عملا تخييليا ولئن انطلق من المرجع التاريخي ، لا بهدف تصحيح الأوهام عن التاريخ أو التحقيق في وقائعه ، بل باستلهام شخصيات روائية ، واعتماد مخطوطات ولفائف هي من نسج خيال الروائي ، يلج عبرها القارئ عتبات الرواية لينظر في لغتها ، و بنيتها السردية ، والخطاب ، وكل تلك الأدوات الفنية التي تشكل هندسة الرواية الحديثة .

وقد أفادنا الروائي يوسف زيدان بهذا الحوار عن روايته "عزازيل" الفائزة بالجائزة ، وعن رؤيته الخاصة في الكتابة الروائية مصححا بعض الآراء التي أسقطت على الرواية والتي اعتبرها موجهة للقارئ أساسا ، القارئ المبدع القادر على توليد الدلالات .

- 1 - روايتك "عزازيل" الحائزة على جائزة "بوكر" العالمية للرواية العربية عادت إلى الفترة التاريخية - القرن الخامس ميلادي - وهي "فترة قلقة من تاريخ الديانة المسيحية" ، ماهو الهدف من العودة إلى هذه الفترة التاريخية بالذات ؟ وهل أرادت الرواية أن تنطق ما سكت عنه التاريخ عبر الأقنعة التاريخية والدينية ؟

الهدف هو الفهم. ليس فهم الماضى فى ذاته فحسب، وإنما الوعى به لفهم الحاضر ومكوناته المعقدة المتداخلة الممتدة خلال مئات السنين. فمن غير الممكن أن نفهم واقعنا العام دون إمعان النظر فى التعاقب التاريخى والتقلبات الفكرية والثقافية التى تمت خلال التاريخ البعيد والقريب. ورواية عزازيل لا تكتفى بالكشف عن مرحلة منسية فى التاريخ العام لهذه المنطقة القديمة التى نعيش فيها، وإنما تسعى الرواية أيضًا للكشف عن الإنسان المطمور فى التاريخ، خلف الوقائع المروعة التى جرت فى أزمنة التعصب المقيت.

- 2 - هل الراهب "هيبا" هو قناع ليوسف زيدان الذي حاول مسَّ جوهر الإنسان "وراء الأسوار العقائدية والتاريخية ونظم التقاليد" وبث جذور المحبة ؟ وهل هدف الرواية هو استرجاع العاطفة البشرية الجوهرية كحقيقة أسمى تنقذ المجتمعات من صراعها العنيف في هذه الحقبة التاريخية بالذات ؟ وهل الإطلالة على الحاضر من ثقوب التاريخ لها مآرب اجتماعية وإنسانية لخدمة المجتمعات البشرية ؟

هذه أسئلة كثيرة، متراكبة. والإجابة عليها جميعًا بالإيجاب. لأن مَسَّ الجوهر الإنسانى يرتبط بالكشف عن جذور المحبة الفطرية فى الإنسان، أى إنسان. وهذا بدوره طريق لاسترجاع العاطفة الإنسانية الجوهرية، بعيدًا عن الطمس المتعمد الذى قام به فى الماضى متعصبون أظلموا واقعهم والزمن التالى عليهم، بدعوى أنهم يؤسسون ملكوت السماء ويعلون به فى الأرض. وبالتالى، فإن الإطلال على التاريخ هو أمر لازم للوعى بالواقع المعاصر.

- 3 - كونك متخصصاً في التراث العربي المخطوط وعلومه ولديك العديد من المؤلفات والأبحاث العلمية في الفكر الإسلامي والتصوف وتاريخ الطب العربي ، لمَ اعتمدت على تكوينك العلمي والمعرفي في كتابة الرواية ؟ وهل نتوقع منك أن تبحث عن مرجع واقعي والنأي عن التاريخ الديني للمجتمعات في روايات لاحقة ؟

أكتب الآن روايتى الثالثة (النبطى) وسوف أنتهى منها قريبًا. وهى تدور أيضًا فى مرحلة زمنية منسية، هى العشرون سنة السابقة على فتح مصر، أو غزو مصر كما يحب الأقباط أن يسموه ، ظنًا منهم بأن كلمة (غزو) كلمة كريهة عند المسلمين! مع أن حروب الفتح معروفة فى التاريخ الإسلامى باسم الغزوات. ومع ذلك فإننى أرى أن دخول عمرو بن العاص مصر، لم يكن فتحًا أو غزوً فقط ، وإنما كان نتاجًا لحقائق كثيرة سوف تكشف عنها الرواية. مع ملاحظة أن العمل الروائى يظل دومًا مختلفًا عن الكتابة التصحيحية لأوهامنا عن التاريخ. ففى الرواية: اللغة، والإنسان المنسى، والبنية السردية، والخطاب... وغير ذلك من (الأصول) التى تقوم عليها عملية التأليف الروائى.

 - 4 - بما أنك مدير مركز ومتحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية فقد ارتأى البعض أن المخطوطات واللفائف التي انطلقت منها وقائع الرواية هي وثائق حقيقية لمخطوطات سريانية مع مزجها بالخيال الروائي ، لكنك صرحت أن المخطوطة وسيلة فنية اقتضتها شروط الكتابة الروائية وهي وسيلة اعتمدها الكثير من الروائيين . وللقارئ أن يتساءل عن تلك الوثيقة المخطوطة : فهل وقع استلهامها على أساس معرفة ترجح كتابتها تاريخيا ؟

لا توجد وثيقة أو مخطوطة أصلاً، والذين قالوا ذلك لا يعرفون ما هو الأدب، ولا أظنهم قرأوا فى حياتهم رواية أخرى غير عزازيل. ولذلك لم أجد عندى أى سبب للرد على توهماتهم، فظلوا يرددونها معتقدين أنهم وقعوا على شىء! يقولون إن المخطوطة الأصلية لعزازيل هى مخطوطة لراهب نسطورى، وإنهم سوف يردون عليها بمخطوطات قبطية.. ويقولون إن الراهب هيبا لم يكن معاصرًا للأسقف السكندرى كيرلُّس! لأنهم ظنوا أن بطل الرواية الذى اتخذ له اسمًا كنسيًا خاصًا هو النصف الأول من اسم (هيباتيا) التى قتلها المتشددون المسيحيون فى الإسكندرية بعدما سحلوها فى شوارع المدينة وقشَّروا جلدها عن لحمها، يظنون أنه أسقف الرها المسمى (إيباس، إيبا، هيبا) مع أن هذا الأخير عاش بعد أحداث الرواية بأكثر من نصف قرن، ولا صلة بين الرجلين، التاريخى منهما والروائى، إلا فى خيال هؤلاء الصاخبين فى وجه الرواية بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين.

 - 5 - صدرت لك رواية "ظل الأفعى" ثم "عزازيل"، وهذه العناوين لها علاقة بالديانات القديمة قبل أن تفقد الأفعى قداستها وقبل أن يتغير اسم الشيطان من عزازيل إلى إبليس ، لماذا العودة إلى هذه الرموز في ثوبها الملائكي قبل ارتكابها المعصية ، هل تسترجع الكتابة صدى اللحظات الغائبة وجوهر الكائنات ، و"تبحث عن معرفة ما وتجيب عن أسئلة كونية وتضع الحياة وتجسدها وكأنها اللحظة الغائبة" ؟

إذا حاولنا فهم الواقع المعاصر من دون النظر المتعمق فى التاريخ، فلن نصل لشىء، فالواقع المعيش نتاج لسلسلة طويلة من المراحل السابقة التى نسميها (التراث) وهى فى واقع الأمر ليست تراثًا واحدًا، وإنما هى تراثيات متراكبة ومتواصلة وممتدة فينا إلى اليوم، عبر اللغة والدين والموروث الفكرى والفنى والعقائدى.

الزمان الإنسانىُّ مرورٌ دائمٌ من الماضى إلى المستقبل، وما الحاضرُ إلا لحظة فوت وانتقال مستمر من بوابة الزمن، فنحن حين نقول (الآن) ينتقل بنا الزمن من الآتى إلى الماضى، فالبعدان الأساسيان للزمان الإنسانى هما الماضى والمستقبل.

 - 6 - نلاحظ أن الندوة التي أقيمت في حلب حول الرواية حضرها كل من المطران يوحنا إبراهيم مطران السريان الأرتوذوكس إلى جانب الناقد نبيل سليمان والدكتورة شهلا العجيلي والباحث محمد قجة ، فما هي الأهمية الدينية التي دعت المطران يوحنا إبراهيم لحضور الندوة حسب رأيك سيما وأنك كتبت رواية ولم تكتب بحثا دينيا تاريخيا ؟

المطران يوحنا إبراهيم واحد من كبار العلماء فى الوطن العربى، وله اهتمامات عميقة بالتاريخ والأدب والفنون، وله عدة كتب فى الموسيقى السريانية والغناء الكنسى، هذا بالطبع علاوة على كونه رئيسًا دينيًا للسريان الأرثوذكس فى سوريا. وكان من أوائل الذين قرأوا عزازيل، وفى الندوة الأولى بحلب حيث نوقشت الرواية بعد أيام من صدورها، كان حاضرًا واشترك فى المناقشة. أما الندوة الثانية التى عقدت بحلب بعد ستة أشهر من الندوة الأولى، فكان المطران هو أحد المتحدثين الثلاثة الذين قدموا رؤيتهم الفنية والنقدية للرواية، فكانت قراءته لعزازيل عميقة جدًا، لأن الذى لم يعرف جيدًا تاريخ المسيحية –كما قال المطران يوحنا– لن يفهم رواية عزازيل بشكل عميق.

 - 7 - احتفل "صالون الشموع" الذي تقيمه الدكتورة لوتس عبد الكريم بفوزك بجائزة بوكر العالمية للرواية العربية في حضور عدد كبير من الكتاب والأدباء والسينمائيين والصحافيين ، وقد جاء هذا التكريم من جهة غير رسمية كتقدير ثقافي لك كما أعربت ، لماذا لم تكرم إلى حد الآن رسميا في رأيك رغم قيمة الجائزة الأدبية التي حصلت عليها ؟

لا أعرف شيئًا عن التكريمات (الرسمية) ولا أهتم بها. فقد كتبت للناس لا للحكومات. كتبتُ لقارئ مبدع قادر على توليد الدلالات، ولم أكتب لموظفين حكوميين كبار أو صغار أملاً فى أن يحتفوا بى يومًا إذا بدا لهم ذلك مناسبًا. والتكريم (الرسمى) يوضع عادة بين القوسين، وهو ليس مطلبًا عزيزًا عندى. فى صالون الشموع كان دفء الأصدقاء، وكانت الفرحة الحقيقية بجائزة البوكر، بعيدًا عن التداعيات السياسية للاحتفالات والاحتفاءات الرسمية. وبلادنا ليست هى الحكومات أو أولئك الذين نسميهم (الرسميين) وإنما هى الناس الحقيقيون الذين يعطون للوطن معنى.