ياسين رفاعية..
القصة القصيرة من أصعب أنواع الكتابة.. كتاباتي الشعرية ذات موضوع واحد وهو الحب.. دمشق حاضرة برجالاتها وحاراتها في معظم أعمالي
عزيزة السبيني
الكاتب ياسين رفاعية أديب متميز، يكتب القصة والرواية والشعر، وله ما يزيد عن عشرين كتاباً. ولد في العام 1934 في دمشق، اختار لبنان مبكراً للعمل والإقامة.
أول كتاب نشر له صدر في العام 1960 وكان بعنوان «الحزن في كل مكان» من أعماله القصصية «العالم يغرق العصافير، العصافير تبحث عن وطن» ومن أعماله الروائية «رأس بيروت أسرار النرجس» ومجموعاته الشعرية «جراح رسائل حب وبوح أنت الحبيبة وأنا العاشق». وله أيضاً «رفاق سبقوا» مذكرات.
حول تجربته الإبداعية المتنوعة، وعلاقته بالمرأة الكاتبة وزوجته الراحلة الشاعرة أمل جراح على وجه الخصوص وأمور أخرى التقيناه وكان لنا معه الحوار التالي:
ہتنوعت تجربتك الإبداعية بين القصة، الرواية، الشعر، هذا التنوع كان متمازجاً أم عبر مراحل انتقالية؟
ہہ بداياتي الأدبية كانت عبر كتابة القصة القصيرة، وحاولت التركيز جيداً كي أتقن كتابتها وحتى لا أكتب ما يشبه الآخرين وكنت حريصاً كل الحرص ألا أكرر تجارب الآخرين. وكما تعرفين منذ الخمسينيات الى اليوم مرت القصة القصيرة بأجيال كثيرة، وفي معظم الأحيان كانت القصص متشابهة، تعليلهم ذلك بأن النبع واحد، المجتمع ومشكلاته واحدة، الناس، الأحداث، ولكن تبقى هناك مهمة الكاتب القصصي في التقاط فكرة قد لا يلتقطها غيره. وكنت حريصاً على كتابة قصتي وليس قصة الآخرين، ودعيني أشير بأن كتابة القصة القصيرة في رأيي هي من أصعب أنواع الكتابة.
إذ من المفروض على الكاتب أن يحشر في صفحتين أوثلاث أحداث عشر سنوات أو أكثر.
وأنا أعتبر كتابتي للقصة القصيرة تمريناً لي لكتابة الرواية أي تكثيف العمل الروائي، فأنا لا أشجع على كتابة الرواية الطويلة، لاسيما في هذا العصر، لذلك تلاحظين أن معظم رواياتي لا يتجاوز عدد صفحاتها (200) صفحة، عدا رواية (رأس بيروت) التي فرضت عليها أحداث الحرب الأهلية الضاغطة والمتنوعة في همجيتها، والقاسية في إيقاعها فكان لابد لي من جمع أحداث هذه الحرب في رواية واحدة، ولو أردت أن أكتب على طريقة الكتاب المصريين مثلاً لكان من المفروض أن تكون عدد صفحاتها (600) صفحة أو أكثر.
ہ ولكن رواية «رأس بيروت» ليست الرواية الوحيدة التي كتبتها عن الحرب اللبنانية؟
ہہ الحرب اللبنانية استمرت سنوات طويلة وعايشتها بكل ظروفها لذلك كانت مادة خصبة لي للكتابة، وأن الكاتب الوحيد الذي كتب عن الحرب اللبنانية الأهلية أربع روايات، وكل واحدة من زاوية مختلفة عن الأخرى وإن كانت تتمم بعضها بعضاً هذه الروايات إضافة إلى رأس بيروت هي «الممر، امرأة غامضة، دماء بالألوان».
ہ ماذا عن تجربتك الرواية الشعرية من جهة وكتابة الشعر من جهة أخرى؟
ہہ عندما صدرت رواية «امرأة غامضة» في القاهرة فإن معظم النقاد الذين كتبوا عنها وجدوا أنها رواية شعرية بامتياز، وهذه اللغة الشعرية اكتسبتها من خلال كتاباتي الشعرية، وهي كتابات ذات موضوع واحد وهو الحب.
وتعرفين أن الحب لا يتألق إلا باللغة الشعرية. ولا بد من أن أشير إلى أن تلك الكتابات لم تكن برغبة مني، وإنما برغبة من الصحافة حيث كانت البداية في ملحق الأنوار حيث كان رئيس التحرير غسان كنفاني وكنت أكتب صفحة تحت عنوان (أناشيد إنسان على حافة الهاوية) وبتوقيع اسم مستعار هو (عابر سبيل) وكانت هذه القصائدة عبارة عن أناشيد مكتوبة لامرأة لا يمكن القول عنها إلا «المرأة المستحيل» لذلك كانت طقوسها إضافة للغة الشعرية طقوس الحزن، والألم، الحاجة الى امرأة ليست ككل النساء. وقد لاقت هذه الصفحة إقبالاً كبيراً من القراء وأثارت جدلاً في الأوساط الثقافية في تلك الفترة وهذا ما شجعني على تكرار التجربة مرة ثانية في مجلة الشبكة ومجلة الدستور بالاسم المستعار نفسه.
ہ رغم خروجك مبكراً من دمشق إلا أن الحارة الشامية، والعلاقات الاجتماعية التي تميز هذه الحارة حاضرة بقوة في أعمالك وخاصة «أسرار النرجس»، ما سرّ ذلك؟
ہہ تعرفين أن النشأة الأولى تدفع بصماتها على القلب والروح، ودائماً الكاتب يستعيد في كتاباته طفولته ومرتع شبابه، ولذلك قبل رواية «أسرار النرجس» كان هناك رواية «مصرع الماس» التي تناولت فيها مرحلة من طفولتي اكتنزت في ذاكرتي تلك الأحداث المتشابكة التي ملأت الرواية خاصة، بما يتعلق (بقبضايات الشام) الشاغور والميدان والعمارة والحي الذي ولدت فيه تحديدا (العقيبة)، ولو سألتني لماذا كتبت عن هؤلاء؟ أقول: سبب ذلك حكواتي مقهى حي (العقيبة) الذي كانت ألتصق بجانبه واستمع إليه وهو يروي قصة عنترة والمهلهل والزير، وتلك الأساطير الرائعة. واندفعت بذاكرتي بطولة هؤلاء النبلاء ووجدت بديلاً عنهم الرجال الذين صرت أعاشرهم وأراهم بأم عيني (أبو عبدو الطويل، أبو علي الماس) وهذا الأخير كان
مشهوراً باسمه الثاني (الماس) هؤلاء الرجال بلباسهم العربي الشعبي الكامل كنت أرى فيهم عنترة والزير. كانوا يومها بنظر السلطة الاستعمارية مجرمين وقطاع طرق.
لكنهم كانوا أبطال روايتي «مصرع ألماس» حيث دمشق حاضرة فألماس الذي كان مجرماً في نظر السلطة لأنه قتل يهودياً يتجسس على رجالات الثورة. وأبو عبدو الطويل قتل ابنته لأنها أقامت علاقة مع ضابط فرنسي وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات، إلا أن الضابط الفرنسي سعى بنفسه لإخراجه من السجن بعد عامين. اعترف الضابط أمام الوالد بأنه تزوجها وأسلم من أجلها. وهذه الرواية سوف تتحول إلى عمل درامي تلفزيوني ويقوم بالإخراج نجدت أنزور الذي سيسعى إلى ترجمتها الى الإنكليزية قبل عرضها. مصرع الماس تتحدث عن دمشق الأربعينيات. أما أسار النرجس فهي دمشق الستينيات.
ہ كيف تصف لنا علاقتك بالمرأة بشكل عام، المرأة ا لكاتبة، المرأة الحبيبة، الزوجة الراحلة الشاعرة أمل جراح؟
ہہ بالنسبة لي ككاتب المرأة جزء من كياني، حاضرة في كل لحظة من حياتي، عنصر أساسي في كتاباتي، ويجب الانتباه إلى أمر هام. أن المرأة في كتابتي هي المرأة الشرقية، المضطهدة، المظلومة التي لا وجود لها إلا أمام زوجها حيث إنها موصوفة للبيت والأولاد. النساء في كل ما كتبت مظلومات والرجل «قوام عليهن» وممنوع عليها الخروج عن سلطته.، وهذا شيء موجود إلى الآن في مجتمعنا حيث المرأة لا كيان لها رغم محاولتها الخروج من القوقعة التي فرضها عليها المجتمع ومن ورائه الرجل. وللأسف رغم حضور المرأة في الكثير من مرافق الحياة وخاصة بالنسبة للأعمال الدرامية إلا أنني لم أجد مسلسلاً يعبر حقيقة عن واقع المرأة في المجتمع.
ہ أين موقع المرأة الحبيبة بالنسبة لك؟
ہہ لا بأس أن أعترف أنني أحببت نساء كثيرات ولكن الجميل في هذه العلاقات أنني عندما أفترق عن إحداهن فتبقى العلاقة بيننا، علاقة ود وصداقة واحترام. اتصلت مثلاً صباح هذا اليوم بامرأة عمرها الآن (65) عاماً، وكنت قد أحببتها عندما كان عمرها (20) عاماً، سألتها عن صحتها وأولادها، ومازلت أسمع ذات نغمة الخجل في صوتها «اشتقت لك» المرأة بالنسبة لي شيء مقدس احترمه، وأحافظ عليه.
ہ أمل جراح، شاعرة استثنائية، رحلت مبكراً. كيف تصف لنا علاقتك بها؟
ہہ اعترف لك أنني فقدت برحيل أمل الإحساس بالوجود، الإحساس بأي طعم للحياة، فقدت فيها الحبيبة، فقدت الزوجة، والأم، لقد كانت كل شيء في حياتي، من بعدها، تحولت حياتي إلى فوضى، عزلة إلى خوف مستمر، ورعب من كل شيء حولي. واتساءل لماذا أخذ القدر مني أمل؟ ولماذا أمل بالذات! كانت رفيقة دربي ليست كظلي بل كعضو من أعضائي، عندما كانت تنظر إلى وجهي تعرف بماذا أفكر. كيف تريدين أن أحدثك عن أمل الشاعرة الإنسانة، الأم، كانت قارئتي الأولى وناقدي الأول وكنت آخذ بملاحظاتها، كما كنت قارئها الأول وناقدها وكانت هي أيضاً تأخذ بملاحظاتي.
وكنت حزيناً جداً عندما أقرأ قصائدها لأنها كانت تكتب بحزن وألم. لم يدخل الفرح الى أوراقها أبداً...
ہ سؤال أخير.. بعيداً عن الحزن و الألم، هل استكملت مشروعك الروائي، أم مازال هناك شيء لم تقله؟
ہہ أعتبر أنني لم أكتب كل ما أحب كتابته، وأرجو أن تساعدني الأيام لأكتب الرواية التي ما أزال أختزنها في ذاكرتي وقد وضعت لها عنواناً مبدئياً «عالم لا رجاء فيه» سأخرج هذه الرواية إلى المدى الأوسع ليس للمجتمع السوري أو العربي، وإنما للمجتمع الإنساني الذي أصابه الجشع وتضارب المصالح، والمال الذي يسود على كل شيء أو كما قال زكريا تامر: «بالمال تشتري كل شيء الله والعبيد»، وعندما سألته: كيف الله؛ فقال: إذا كان معك مال وبنيت مسجداً ألا ترضي الله.. إذا كان معك مال وأعطيته لعائلة فقيرة ألا ترضي الله.. إذا كان معك مال وبنيت مشفى ألا ترضي الله.. إذا كان معك مال وبنيت مدرسة ألا ترضي الله.. ولكن للأسف الشديد إن الذين يملكون المال لا يفكرون إلا بأنفسهم.. الأغنياء يموتون من التخمة والفقراء يموتون من الجوع.