فيصل شحادة «شيخ الخطاطين الفلسطينيين» يروي سيرته: ما زلت أحيا من الكتابة
رغم رعشة يديه، وشرايينه البارزة، الا ان خطه لا زال قويا ، يبث الروح والنبض في الكلمات حن يكتبها ويرسمها، رحلةٌ عمرها 86 عاما من صحبته للخط العربي، فقد تشرب فيصل شحادة حبه الفطري للخطوط منذ العاشرة من عمره، علم نفسه بنفسه.
أثره لا يقتصر على خطوطه البارزة في عشرات مساجد فلسطين، ورسوماته، بل ان جودة وجمال خطوط شيخ الخطاطين الفلسطينين، باتت معيارا للنجاح او الفشل لكل من ساروا على دربه.
"السفير" التقته في مرسمه المتواضع في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية، وتركته يروي الحكاية من البداية إلى النهاية.
(بدايته)
حين كنت في الصف الرابع، كانت كتاباتي منظمة وخطي جميل، فكان لها رونق وشكل رغم انها كانت كتابات عادية، برغم عدم وجود أي كراسات للخطوط ، وذلك ما لفت انتباه استاذ اللغة العربية والطلاب والصف بأكمله، بالتالي كلما كان لدينا موضوع إنشاء، كان التلاميذ في الصف يطلبون مني ان اكتب لهم الموضوع، وبعد بضعة اشهر لفتت انتباهي لوحة على مدخل مسجد الأقطاب وسط مدينة الخليل تحمل اسم المسجد، وقد بدى لي الخط جميلا جدا، فصادف ان صلى بالمسجد من علمت بأنه من قام بخط اسم المسجد، وهو الخطاط الشيخ قاسم القاسمي، الذي قيل انه تخرج من القاهرة، فسلمت عليه بحرارة، لدرجة اني قبّلت يده، فانطبعت لوحته في ذهني، وازدادت رغبتي في تقليد الخطوط، وبدأت افكر كيف يمكن ان اطور نفسي بنفسي.
(التدرب الذاتي)
لكنني اضطررت في العام (1942) لترك المدرسة وترك الصف الخامس، نظرا لحاجة والدى لمن يساعده في تجارة الأقمشة، رغم ذلك فإن حبي وشغفي للخطوط لم يتوقف، فأخذت أطالع نماذج الخط من خلال الورق المطبوعة عليه الآيات القرآنية، الواردة من مصر والعراق وبلاد الشام، إلى جانب متابعتي لمنشورات واعلانات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، والمتعلقة بالأحداث الرئيسية للحرب، إذ كان يُعلّق (الأفيش) المكتوب على لوحة كرتونية يزيد طولها عن متر وعرضها70سم، على الجدران او الواجهات في مناطق تجمع الناس، واذكر انه كانت ترد في نهاية تلك الإعلانات ( والتي عرفت لاحقا انها مكتوبة بخط الثلث) عبارة (انتصار الحلفاء مؤكد أو محقق) بالتالي كنت اتحين الفرصة التي لا يكون فيها احد المارة، من أجل شق تلك العبارة كي اتمكن من نسخ العبارة والتدرب عليها من خلال الكربون، كما كنت أجمع الكرتون الاسطواني الذي تُلف عليه الأقمشة في محل والدي، واستخدمها لاعادة كتابة تلك العبارات المأخوذة من اسفل الاعلانات، بالتالي كانت الكراتين الاسطوانية مادة رسمي وتخطيطي الأولى، حيث كنت اشكل عليها الحروف العربية والآيات القرآنية، وذلك باستخدام الاقلام العادية او الطلاء او الدهان، لدرجة انني ومن شدة حبي للخطوط اخذت الجأ احيانا إلى استخراج الكرتون الاسطواني للكتابة عليه، حتى وإن يكن قد تم بيع الثوب عنه بعد!! ".
(تحول الموهبة لمصدر رزق)
خمس سنوات قضيتها في تطوير ذاتي على الخطوط دون ان اعرف انواعها، وفي احد الايام طلب مني جارنا أن اكتب عبارة (سيري فعين الله ترعاك) على شاحنته، وكي يشجعني أخبرني انه سيضع شاحنته في مقابل شاحنة اخرى عليها نفس العبارة وكان قد كتبها خطاط من يافا، وقال لي ان كل ما علي فعله هو نقل ذات الحروف، وفعلا قمت بذلك عبر استخدام الطلاء، وقد كان لذلك بُعد ايجابي، اذ بدأ سائقو الشاحنات في مجمع الكراجات القديم، يطلبون مني الرسم و الكتابة على ابواب وجبين شاحناتهم، فكنت ارسم لهم عروق نخيل فيها عبارات ظاهرة كـ (وما توفيقي الا بالله، الرزق على الله، الله محمد)، فبت معروفا داخل الكراجات، حتى أنه تم طلبي من قبل كتيبة الفرسان في الجيش البريطاني أيام الإنتداب البريطاني، لكتابة لوحات بأسماء وارقام الاحصنة لتثبيتها في الاسطبلات في الخليل، وقد كان لكل حصان رقم ومسمى واسطبل خاص، وفعلا استخدمت(الصاج ) لتلك الكتابة.
ومع الكساد والبطالة التي عاشتهما المنطقة عام 1948، باتت هواية الخط والرسم التي اكتسبتها من خلال الممارسة والاطلاع مصدر رزقي الوحيد، حيث فتحت محلا لكتابة ارقام السيارات بتفويض من الجهات الرسمية، وقد حاولت دائما ان اكون خلاقا حين اخط الحروف على واجهات المحلات التجارية والشاحنات او يافطات الدوائر الرسمية بالاعتماد على الطلاء، كما اعتمدت بالكتابة على الصاج و الحجارة او أي شيء يتوفر بين يداي".
(التعرف على انواع الخطوط لأول مرة)
ما مرت به المنطقة من كساد، لم يمنعني من السعي لتطوير ذاتي، ومن حسن حظي ان الحظ كان لجانبي، حيث ساعدني صديق لي يسعى لتشجيعي، بأن عرفني قبل نهاية العام1949على الخطاط الشيخ حافظ صندوقه العوضي المقيم في القدس، وكان قادما من القاهرة، والذي اعطاني نسخة من كتاب (اثر محمد عزت خطوط عثمانية) بعد ان كتب على راس كل صفحة كل نوع من الخطوط(الفارسي، الرقعة، الديواني، الثلث،...الخ) وقد كانت هذه اول مرة اتعرف فيها على انواع واسماء الخطوط، واستمر عملي في الكتابة والتخطيط، واذكر ان من اول الاعلانات التي نفذتها ان رسمت وقمت بتخطيط رسم لغطاء شركة مشروبات غازية احتفظ بنسخة عنها الى الآن".
( محطة الانتقال للأردن والعراق)
ورغم تمتعي بمقومات العمل في الخط والفنون عموما، الا ان الظروف الاقتصادية والسياسية التي ألمت بالوطن تلك الفترة دفعتني للانتقال للأردن عام 1951، حيث تقدمت للعمل في قطاعات الجيش الاردني، وفعلا عملت كجندي ملكي في قسم الانشاءات في محافظة الزرقاء، حيث كنت أعمل في الطلاء والدهان، لكني في نفس الوقت كنت اعمل على كتابة الإعلانات وتلوين الخطوط ورسم الشعارات والخرائط و(أفيش) سينما الحمراء وغيرها من خلال مكتب لي في الزرقاء خصصته للخط العربي، وبعد فترة وجيزة طُلبت للعمل كخطاط في المدرعات، فأخذت اكتب وارسم الشعارات الخاصة بالجيش على ابواب المكاتب وارقام السيارات العسكرية حتى الرسم والكتابة على الدبابات والمدرعات، وفي احتفالية ومراسم يوم الجيش، لفتت الشعارات الجميلة على المدرعات والدبابات نظر الملك طلال رحمه الله من على منصة المتابعة، وفي اليوم التالي اتاني اتصال من قادتي يبلغوني فيه قرار الملك، بأني اصبحت خطاط التاج الهاشمي، ونلت شهادة فخرية من رئيس الاركان الفني على ذلك.
لكن أبناء عمومتي شجعوني على السفر معهم للعراق، فقدمت استقالتي من الجيش وانتقلت للعمل في العراق عام1953 حيث فتحت محلا خاصا بالخط والديكور، وكنت أخذ تعهدات لطلاء فلل وبنايات حكومية، فذاع سيطي الى ان رسمت الخطوط ونفذت الديكورات والتحف الفنية الخاصة بقصر الرحاب، فكان ان التقيت فيه بالملك فيصل الثاني، وإبان حكم الزعيم عبدالكريم قاسم تم تعييني في نادي ضباط الشرطة مشرفا فنيا عن الديكورات الصيفية والشتوية الخاصة بنادي ضباط الشرطة، كما قمت بتذهيب قاعات البرلمان العراقي، أما في عهد عبدالرحمن عارف واخيه عبدالسلام، فقد عُينت مراقبا لشؤون الديكور والخط في عدة مشاريع حكومية.
(محطة العودة لأرض الوطن)
وبعد 9 سنوات قضيتها في العراق، قررت العودة الى ارض الوطن بطلب من والدي ووالدتي، حيث افتتحت ورشتي الفنية، واخذت اعمل في الاعلانات التجارية وكتابة اليافطات، كما تزوجت في سبعينيات القرن الماضي، واذكر ان هديتي لزوجتي كانت لوحة كتبت لها عليها(برضى المتعالي نلت منالي).
وفي ثمانينات القرن الماضي كان ان تعرفت على الاستاذ الكبير محمد صيام احد اشهر الخطاطين العرب رحمه الله، وشيخ الخطاطين الفلسطينيين، اثناء زيارته لاحد اشهر صانعي الخزف الذين كنت اكتب على الخزف لديه، بعدها حصلت منه على اجازة في الخط.
(لقب شيخ الخطاطين)
أول مرة لقبت فيها بشيخ الخطاطين كان في عام1986 حيث كان ذلك على هامش تكريمي من خلال معرض كان قد اقامه نادي شباب الخليل الرياضي، ومنذ ذلك الوقت كانت الجوائز والدروع التي يتم تكريمي بها يكتب عليها هذا اللقب، والكل اصبح يناديني بهذا اللقب، واخذت الصحف تنشر صوري مع لقبي الذي اسعدني، رغم ما كان ولا زال لدي من قناعة ان محمد صيام رحمه الله هو شيخ الخطاطين الفلسطينيين، لمكانته وقوته، وإن كان لا بد من هذا اللقب، فأنا شيخ الخطاطين في جنوب الضفة الغربية، لثقتي بوجود خطاطين يستحقون ايضا هذا اللقب.
(الجوائز والمآثر)
شاركت بالعديد من المهرجانات والمعارض والمؤتمرات المحلية والعربية، حيث شاركت في مسابقات الخط العربي مع اللجنة الدولية - ارسيكا – تركيا، كما شاركت في دبي مع وزارة الشباب والثقافة – جائزة البردة، كما حزت على عدة جوائز تقديرية، واعطيت العديد من الدورات والمحاضرات في الخط العربي بالتعاون مع وزارة الثقافة ومؤسسات اهلية، كذلك قمت خلال مسيرة حياتي بكتابة الكثير من الآيات القرآنية وتخطيطها في أكثر من 35 مسجدا في فلسطين التاريخية، علما انني اعتبر ان من اهم المآثر التي حققتها في حياتي عثوري على خطأ في كتابة سورة ياسين على ثماني قبة الصخرة المشرفة في القدس، بعد ان مر عليها 130 عاما، والتي ُخطت ابان حكم السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله.
( الخط العربي في ظل دخول الحاسوب)
هناك قفزة في صناعة الإعلان عبر استخدام الكمبيوتر، وقد كان لدخوله علينا منافع وانجازات تستحق التقدير، لكن بعض الخطوط المستخدمة عبر الكمبيوتر من وجهة نظري لا قيمة حقيقية لها لأنها ليس بها جمالية او قوة، بالتالي فأنا اعترض عليها، خاصة وان بعض حروفها تحوي اخطاء تركيبية في بعض المواقع، وسبق لي ان كتبت في ذلك، وبكل اسف فبسطاء الناس لا يعرفون عن قواعد الخط الا القليل، مع لذلك أرى ان الخط العربي الذي يُخط باليد لا يضاهيه شيء، ولن يستغنى عنه وعن الريشة ابد الدهر، كيف لا وقد اقسم الله بالقلم بقوله تعالى "نون، والقلم وما يسطرون".
عليه، ورغم التطور الحالي فلا زلت محافظا على عراقة كتابة الخطوط، بحيث لا زلت استخدم الأدوات الاساسية للخط، وبالذات استخدام البوص لأنه يعطي حذافير الحروف، ولامتيازه بانه يقع ما بين الصلب والطري، كما انه سلس مطواع بالطريقة التي تريدها، بشكل يمكنك من ان تتعامل معه بكل راحة نفسية، وهو ما ارتاح له.
(الخط العربي والتعليم)
الخط العربي يقع ضمن مناهج المدارس، لكن المدارس تفتقر الى المختصين القادرين على اعطاء الطالب التوجيهات اللازمة حول اصول الخط العربي، وان باتوا يهتمون مؤخرا بذلك، لكن قلة من معلمي اللغة العربية يهتمون بهذا الامر، من خلال الحصول على اسس كتابة الخط العربي، بالتالي فالمطلوب تعزيز قدرة معلمي اللغة العربية للمراحل الاساسية بأسس الخط العربي، علما ان الخطوط الرائجة خط النسخ لمن هم بالمرحلة الاساسية من الاول وحتى الرابع، فيما يستخدم الطلبة في الصفوف الاكبر خط الرقعة، وبكل الحالات هناك اهمية لتربية الطالب على الخط وتعليمه على طريقة الامساك بالقلم، ومن ان يتربى على ذلك مع الكتابة.
(آمالك)
آخر حياتي اعتبرها اول حياتي، انا الان اعيش مع الخط، اعيش معه بمهنية وبطريقة اكثر جدية عن طول حياتي، بحيث ترويت بعد الكم الذي استفدته، الكتابة حياتي ودمي الذي يسري في كل عروقي، ولا زلت آمل تأسيس مركز او منتدى لجميع زملاء المهنة للخطاطين والناشئين والمخضرمين.
وسوم: العدد 695