انتهى… كما انتهى عبد الناصر في 67!
وساقت الأقدار دليلاً جديداً على صحة «التسريبات» الأخيرة، يتمثل في الفزع من الانتخابات الرئاسية، كما يتمثل في الرعونة في إدارة الدولة المصرية!
قل تسريبات «النيورك تايمز» ولا تقل تسريبات «مكملين»، صحيح أن القناة التي تبث من تركيا، هى من أذاعت هذه التسريبات، ونقلت عنها قناتا «الجزيرة» و»الجزيرة مباشر»، لكن الواقع أنها خاصة بالصحيفة الأمريكية العريقة، ونسبتها لـ «مكملين» كان المدخل الذي منه تم الدخول للطعن في صحتها، مع أن مكملين أذاعت ولأكثر من مرة تسريبات بالسابق لم يثبت عدم صحة أي تسريب منها، كان البطل فيها هو عباس كامل، سكرتير عبد الفتاح السيسي وولي أمره، وقد أخطأت عندما نظرت إليه على أنه مجرد سكرتير، لكن «ديفيد هيرست» ذكرنا بتسريب قديم، يكشف أن «عباس» هو من قدم السيسي للمشير محمد حسين طنطاوي، وقال له: هذا ابني!
لا بأس، فالقوم في القاهرة، ولو استقرت البشرية على اختيار أهم وسيلة اعلامية في العالم أجمع، ثم أذاعت هذه التسريبات، فسوف ينطلقون مشككين، وقد يرمونها بالاتهام الأثير بأنها تابعة للاخوان، ولو كانت تبث من المجلس الملي العام بمحافظة القاهرة، وقد اتهموا قناة «بي بي سي» العريقة بأنها اخوانية، عندما أذاعت ما لا يروق لهم، كما اتهموا رئيس أركان الجيش المصري السابق الفريق سامي عنان، بأنه مرشح جماعة الإخوان المسلمين، مع أن الرئيس الاخواني هو من عزله من منصبه، ونصب عبد الفتاح السيسي وزيراً للدفاع، متخطياً الرقاب!
ولم يكن المثير هو اتهام «بي بي سي» بأنها اخوان، فالأكثر إثارة هو أن أحمد موسى وقف ليعطي القوم دروساً في المهنية، عندئذ أيقنت أن الساعة قد اقتربت وانشق القمر!
وإذا كان الشيء بالشيء يٌذكر، فإنني أود التذكير، بأن الفنانة الجليلة «يسرا» أعلنت في اليوم الأول لهذه التسريبات، أنه ستلجأ للقضاء ضد الصحيفة الأمريكية، وأعلن عميد سابق لكلية الحقوق، جامعة القاهرة، في برنامج تلفزيوني، أن يسرا إذا لجأت للقضاء فسوف تحصل على تعويض كبير، لكن تبين بالتقاعس عن اللجوء للقضاء، أن هذه التهديدات، كانت للاستهلاك المحلي؛ بهدف التشكيك، وستر العورات، التي تبدت للناظرين، بطرف الثياب!
عقدة النكاح
في التسريبات، بدا أهل الحكم في مصر يعملون حساباً للانتخابات الرئاسية، وهو ما مثل في البداية قرينة على عدم صحتها، فالأمور تبدو قبضة القوم، وعقدة النكاح لا تزال في يد عبد الفتاح السيسي، والدنيا تحت السيطرة تماماً، فماذا في الانتخابات الرئاسية يفزع أو يخيف، والسيسي يسيطر على المشهد، ويتمدد، ويتوغل، ويعين ويقصي، وتبدو مؤسسات القوة جميعها ملك يمينه؟!
لم يكن القلق من هذه الانتخابات يعبر عنه طلب ضابط المخابرات الحربية أشرف الخولي من مقدمي البرامج، مناصرة السيسي في برامج تلفزيونية، ولكن في حرصه أن تمر هذه الانتخابات على خير، لدرجة أنه يعمل حساباً لشخص، اعترف على نفسه بأنه ليس اعلامياً هو «عزمي مجاهد» فعندما يبدو ضابط الأمن القومي منه ضجراً، فإن «الخولي» يطلب منه تسيير الأمور حتى تمر الانتخابات الرئاسية بلا مشاكل، ولم ندرك حجم هذه المشاكل إلا مؤخراً!
لقد أعلن الفريق «سامي عنان ترشحه»، في وقت متأخر من الليل، ورغم أنه اعلان متوقع إلا أن «أهل الحكم» ارتبكوا، وفقدوا القدرة على الإخراج الجيد لتصرفاتهم، وتأخر إذاعة البيان، لأن حملة الرجل وثقت في وعد من إدارة قناة «أون» باذاعته، وكان «العجل في بطن أمه» يعلم أن هذا مستحيل، فقناة «أون» هي واحدة من القنوات المملوكة بشكل مباشر لشخص عبد الفتاح السيسي، دعك من الواجهات التي تتبدل.
وقد فطنت الحملة وبناء على نصيحة فاعل خير إلى خطة بديلة، وهى وضع البيان المصور، على صفحة صنعت خصيصا لذلك، فتناقلتها الفضائيات الخارجية، وكانت ليلة ليلاء في قناة «الجزيرة مباشر»، إذ ظلت تناقش الأمر حتى الصباح، كل هذا والقنوات التلفزيونية المصرية، لم تذع خبر إعلان نية الترشح لرئيس أركان الجيش المصري السابق، في انتظار التعليمات، ومن الواضح أن العقل الموجه كان قد توقف ليلتها!
هذا الإعلان الجريء لـ «عنان» كان كاشفاً، وليس منشئاً، لصراع الأجهزة في دولة السيسي، فلم يعد يحظى بالإجماع عليه داخلها، وكشفت التسريبات عن ذلك فيقول ضابط المخابرات الحربية أن هناك من هم في «العامة» يقفون مع ترشح الفريق أحمد شفيق، ثم ينعت جماعة «العامة» بكلمة نابية، وعندما يأتي ذكر «تامر عبد المنعم» لا ينسي الضابط «أشرف» أن يخبر محدثه «عزمي مجاهد» بأنه كان محسوباً على «العامة» قبل أن «يلحق نفسه». و»العامة» اختصار «المخابرات العامة»!
ولم تكن تمر أيام على هذا التسريب حتى قرر السيسي عزل رئيس «العامة» اللواء خالد فوزي، ولم يجد في الجهاز من يثق فيه، فعين سكرتيره وولي أمر عباس كامل في منصب المدير لتسيير الأعمال، ربما حتى يتم الانتهاء من الانتخابات الرئاسية، التي تدور الآن في جو من المسخرة منقطعة النظير!
في إمارة أبو ظبي
لقد جرى التعاون مع إمارة أبو ظبي، على إجبار الفريق أحمد شفيق على عدم الترشح، وتم حمله إلى القاهرة مختطفاً، ليصبح قيد الإقامة الجبرية، بينما بناته رهينات في الإمارة المذكورة، إلى الآن، وفي الوقت الذي انشغل فيه السيسي وأجهزته كان «عنان» يخطط ليضرب ضربته، وحدث معه ما حدث مع الفريق أحمد شفيق في البداية!
في الليالي الأولى، ظهر أن التعليمات لم تصدر لبرامج «التوك شو» للهجوم على «عنان»، وفي التسريبات قال الضابط «أشرف الخولي» لمحدثه «عزمي» أنهم في «مساومات» مع شفيق، فإن أصر على الترشح يقومون بتقطيعه، وإن تنازل فهو قائد من قيادات القوات المسلحة!
التعامل مع الفريق «عنان» بدا في الليالي الأولى يدور حول استضافة المتحدث باسم حملته «حازم حسني»، وحصاره بالاتهامات، لكن الرجل أثبت براعة في التعامل، وكان لسان حال من يريدون وضعه في «خانة اليك» من مقدمي البرامج يسري عليهم القول القائل: «صياد رحت اصطاد صادوني».
تقول له «لميس الحديدي» إن الإخوان سينتخبون الفريق سامي عنان، فيقول لها هو لا يميز بين أصوات لمصريين لهم حق الانتخاب. تسعي لأن تحصل منه على اتهام للاخوان بالارهاب، فيرفض أن يساريرها. ويقول واحد من مقدمي البرامج، شاهدته لأول مرة: «إن صفحات الاخوان تؤيد الفريق عنان»، فيكون رده: «وصفحات إسرائيلية تؤيد الرئيس السيسي»!
وإزاء هذه الصلابة، لم يكن هناك من سبيل سوى اختطاف الفريق سامي عنان، واقتياده لجهة غير معلومة، وقد فشلت أسرته في الوصول إليه، ثم تصدر القيادة العامة للجيش بيان إعلان حرب ضده في سابقة لم يعرفها الجيش المصري طوال تاريخه!
الدستور، وفي الباب الخاص بالجيش، نص على الهيئات الخاصة به، وتبدأ بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد عين السيسي أعضائه واحداً واحداً، بارادته المنفردة، ومع ذلك يبدو أنهم لم يؤوبوا معه في هذا الاتجاه، ولم يصدر البيان منه خلالهم والحديث أن «عنان» لا يجوز له ممارسة السياسة بدون موافقة، لأنه رهن الاستدعاء، في قانون لم ينشر في الجريدة الرسمية ولا يعلم عنه أحد شيئاً، لكن هذا المنع من الترشح تحدث عنه أحد قيادات الجيش السابقين في مداخلة مع «عمرو أديب»، وفي اليوم التالي كان الكلام بشكل رسمي، فمن الواضح أنه دفع به ليمهد لهذا القرار!
استباحة عنان
بانتقال سامي عنان إلى كونه متهماً فقد استبيح عبر الأذرع الإعلامية، وقيل فيه ما قاله مالك في الخمر، وتم الحديث عن فساده، ليتبين بأنه المعني بتهديد السيسي عندما قال إنه يعرف الفاسدين، ولن يسمح لهم بالاقتراب من هذا الكرسي، وقد أشار إلى الكرسي الذي يجلس عليه!
وهكذا يتمسك الجيش المصري بأحد قياداته السابقين ولا ينهي استدعائه مع فساده، فمن حق الفاسد أن يعمل في أي مكان غير اقترابه من «كرسي السيسي» عندئذ تحل عليه اللعنات والصفعات. واستدعي عبد الحليم قنديل للاستوديوهات ليفتح نيران مدفعيته على «عنان» ويضحك الثكالى بقوله إن عبد الفتاح السيسي حقق الاستقلال الوطني!
«عبد الحليم» كان قد تم تغييبه، فتوقف استدعاؤه للقنوات التلفزيونية، لكنه ظهر في مؤتمر السيسي الأخير، مع صدور حكم عليه بالسجن واجب النفاذ، ثم استدعاؤه ليهين «سامي عنان» في الحفل الساهر على القنوات السيساوية، وكان الاستدعاء كاشفا عن حجم الفزع من الانتخابات الرئاسية، وعبر عنه الضابط أشرف الخولي فأدهشنا لكن لم نعد الآن في دهشة!
كان السيسي بحمل أحمد شفيق على عدم الترشح، واختطاف سامي عنان، يستهدف انتخابات على قواعد انتخاباته السابقة، حيث المنافسة مع حمدين صباحي أو من ينوب عنه، وباعلان خالد علي ترشحه فقد تحقق المراد، لكنه انسحب فأربك المشهد، وأظهر خيبة أهل الحكم الثقيلة!
«في المساء والسهرة»، كانت مطالبة الأذرع الإعلامية لحزب «الوفد» بخوض الانتخابات، وبدا المشهد كالمناداة على طفل تائه في السوق: «طفل تائه يا ولاد الحلال» وفي الصباح يجتمع الوفد ليختار مرشحاً، وهو الذي أعلن بيعته للسيسي، وقال رئيس الحزب إن السيسي هو سعد باشا زغلول مؤسس «الوفد» وقائد ثورة 1919! ويعلن أهل الحكم هكذا في بجاحة أنهم يدرسون مع الحزب تقديم مرشح منافس للسيسي، وما الهدف إذن؟
يقولون حتى يعلم العالم أنها انتخابات تنافسية، وكأن العالم لا يتابع المهزلة لحظة بلحظة، ورغم أنه تبين أنها حملة البحث عن «محلل»، وانفجرت السيوشيال ميديا من السخرية، فإنهم بدوا كمن يخططون في حجرة مظلمة، وقد فقدوا اتصالهم بمن خارجها، ولا يدركون أنهم وقعوا ضحية لبرامج التسلية، حيث هناك جمهور المشاهدين الذين يرونهم ويضحكون على تصرفاتهم!
الآن عرفنا لماذا كانوا في حالة قلق من هذه الانتخابات، فالسيسي لم يعد كما كان، لقد انتهى كما انتهى عبد الناصر في سنة 1967، وإن احتاج استخراج شهادة الوفاة لثلاث سنوات أخرى!
كان صرحاً من خيال فهوى!
وسوم: العدد 757