الحل الناجع لتنكب كل فاجع
من تكريم الله عز وجل لبني آدم، خلقه سبحانه وتعالى الأرض صالحة بما أودع وقدر فيها . ولا كرامة للإنسان إلا بالحفاظ على صلاحها . والصلاح لغة هو السلامة من العيب ، ونقيضه الفساد، وهو التلف والعطب والخلل . ولقد نهى الله عز وجل عن الفساد في الأرض التي خلقها بدءا صالحة من أجل كرامة الإنسان فقال جل شأنه : (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )) ،وقد تقدم هذا النهي قوله عز وجل : (( إنه لا يحب المفسدين ))، كما تلاه قوله : (( إن رحمة الله قريب من المحسنين )) .وكشف سبحانه وتعالى أن مصدر الفساد في الأرض هو الإنسان فقال : (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) ، وهذا يدل على أن الإنسان المخلوق المكرم هو السبب وراء فساد الأرض برا وبحرا ، وهو المتضرر الأول بما يحدثه فيها من نتائج إفساده فيها .
وتتعدد أوجه فساد الإنسان في الأرض ، وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عز وجل ببعض نماذج هذا الفساد الذي ستبتلى به أمته في الحديث المشهور الذي قال فيه : " يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن ـ وأعوذ بالله أن تدركوهن ـ لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا به إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم ، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم ". والملاحظ في هذا الحديث الشريف أنه مقابل كل نوع من الفساد توجد عقوبة خاصة به ، وإن شئنا قلنا ينتج عن كل فساد ضرر يلحق بمن كانوا سببا فيه . فالفاحشة فساد عقوبته أو ضرره الأوجاع التي لم تكن من قبل . والغش في المكيال والميزان فساد عقوبته أو ضرره الجفاف وغلاء المعيشة وظلم الحكام . ومنع زكاة الأموال فساد عقوبته أو ضرره الجفاف أيضا . ونقض عهد الله عز وجل وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم ،وهو الخروج عن طاعتهما فساد عقوبته أو ضرره تسلط العدو على الأمة ومصادرته لممتلكاتها ومقدراتها . وعدم الحكم بما أنزل الله فساد عقوبته أو ضرره الصراع بين ولاة الأمور والحكام . وعلى قدر حجم نوع الفساد يكون حجم العقوبة والضرر .
ومعلوم أن هذه النماذج من الفساد التي تعوّذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالله أن يدركها صحابته الكرام رضوان الله عليهم قد أدركتها الأمة في هذا الزمان ، ولا يمكن أن ينكرها إلا جاحد أو مكابر .
ومع حلول عقوبات أو أضرار هذه الأنواع من الفساد نجد الأمة تبحث عن حلول لها بكل الطرق والوسائل، لكنها تتنكب السبيل المفضي إلى القضاء عليها قضاء مبرما أو يمنع حدوثها أصلا . قد تبذل الأمة كل جهد لوقاية نفسها من الأوجاع أو الأمراض التي لم تكن معروفة في سلفها وما أكثرها اليوم ، فعلى سبيل المثال يفتك داء السرطان الخبيث على اختلاف أنواعه بخلق كثير في هذا الزمان ، ويلجأ الناس إلى تجنب كل ما يتسبب فيه من مأكولات ومشروبات ، ويحرمون على أنفسهم من الكثير منها خصوصا مع انتشار كثرة التحذيرات التي صارت عبارة عن إرهاب غذائي وطبي تتداوله وسائل التواصل الاجتماعي ، وقد توصف أنواع مختلفة من العلاج لهذا المرض الفتاك تتراوح بين ما هو كيمياوي وما هو إشعاعي أو غير ذلك من أنواع العلاج إلا أنه يستمر في الفتك بالناس ويتزايد ضحاياه سنة بعد أخرى بأعداد كثيرة ، وتؤسس المنظمات والهيئات التي تنتدب نفسها لمحاربته ،لكن كل ذلك لا يفضي إلى حل يقضي عليه بل قصارى الجهود في محاربته هو الحد من عدد ضحاياه أو بعض التخفيف عمن أصابهم . ولا أحد يفكر في التحذير النبوي الذي كشف عن سر هذا الوباء و غيره من الأمراض التي لم تكن مضت في الأسلاف وهو شيوع الفاحشة والإعلان عنها كما هو الحال اليوم . ألا ترتفع عندنا أصوات تطالب بالاعتراف بما يسمى حرية الجنس والرضائية والمثلية ؟ أليس هذا إعلان عن الفاحشة ؟ وهل تجدي طرق محاربة داء السرطان أو داء فقدان المناعة أو غيرهما من أمراض العصر وسبب انتشارها موجود ؟ ألا يجدر بالذين يبذلون كل جهد لمحاربتها أن يحاربوا أولا السبب، وهو شيوع وانتشار الفاحشة والمجاهرة بها ؟ وما قيل عن المحاولات اليائسة وغير المجدية لمحاربة ما يترتب عن فساد الفاحشة من ضرر أو عقوبة ، يقال عن كل المحاولات الفاشلة لمحاربة ما يترتب عن فساد الغش في المكيال والميزان ، وعن فساد منع زكاة الأموال ، وعن فساد نقض عهد الله ورسوله أو التنكر للإسلام ، وعن فساد عدم حكم الحكام بما أنزل الله . وقد تفكر الأمة في إجراءات مختلفة لمواجهة الجفاف وغلاء المعيشة والظلم السياسي وما يترتب عنه، ولكنها لا تفكر أبدا في منع مسببات ذلك بالقضاء على فساد الغش والتدليس ، وفساد منع زكاة الأموال . وقد تفكر الأمة في كل الحلول لاسترجاع ما أخذ الأعداء منها من أقطار كما هو الشأن بالنسبة لضياع فلسطين وما فيها من مقدسات ، ولكنها لا تفكر في الوفاء بعهد الله وعهد رسوله وتجديد الصلح معهما . وقد تبذل كل الجهود لتضييق هوة الخلاف بين ولاة أمور الأمة أو حكامها عن طريق وساطات ومؤتمرات ولقاءات ... ، و ذلك لمنع اشتداد البأس بينهم، ولكن لا يقع أبدا التفكير في دعوتهم إلى الحكم بما أنزل الله ،وتجنب الحكم ببعض ما أنزل والإعراض عن البعض الآخر وما أكثر ما يعرض عنه من شرعه سبحانه .
وأخيرا نختم بالقول إن في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحل الناجع لكل فاجع . ومعلوم أن الفاجع في اللسان العربي هو كل مؤلم أو موجع ، وأن الناجع هو الشافي .
وسوم: العدد 757