الشيخ الغزالي يتحدث عن حسن البنا
الكثير من الناس يعيش لنفسه ولا يُفكِّر في سواها، فإذا مات انقطع أثره وطُويت صفحته، وقليلٌ من يحيون لغيرهم، ويحملون هموم الناس، وهؤلاء لا يفنيهم الموت إنما يمتد ذكرهم بعد مفارقتهم أديم الأرض ..كان الإمام البنا أحد الذين حملوا على كواهلهم هموم الأمة .. وهو وإن تميَّز بأنه واعظٌ مؤثر، وخطيب مفوَّه، وعالم متمكن وقائد ومرشد ومربٍّ، إلا أن أبرز ما تميَّز به أنه بنى دعوةً تحمل مقوماتِ كسر الحدود والامتداد عبر القارات، وأنشأ جيلاً من المسلمين متميزًا بالتفاني والتضحية في سبيل الله ..!!
كتب عن حسن البنا الكثيرون من أتباعه ومن غيرهم .. ويطيب لنا أن نكتب عنه من خلال أحد أقرب تلاميذه الذين تربوا على يديه، وتشربوا علمه وعاشوا معه على درب الجهاد حتى الرمق الاخير، إنه الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله رحمة واسعة ...
وعندما يكتب الغزالي فإنه لا يكتب من منظار الحبِّ والعاطفةِ وحدها، بل يزنه أيضًا بميزان العلماء والمربين والمصلحين والقادة، وينظر إليه نظرةَ الفاحص الدقيق، والناقد البصير.
لذا يفخر الغزالي كلما تحدث عن البنا بأنه أحد تلامذته، ويشعر بالرضا عن اتصاله به فيقول: "أشعر بالرضا وأنا أعترف بأني من تلامذة حسن البنا ومحبيه، وحاملي أعباء الدعوة الإسلامية معه، أعرف أن ذلك يبغضني عند كثير من الناس! ليكن ... فقد تعلمت من الرجل الكبير: أن المؤمن يسترضي الله وحده، ويطلب وجهه الأعلى، ولا يبعثر محابَّه هنا وهناك فلا يظفر بشيء" ..
يقول الغزالي في موضع أخر: "لقد كان حسن البنا واحدًا من علماء كثيرين ظهروا في العصر الأخير، علماء لهم فقه جيد في الإسلام ودروس رائعة. ..بيد أن حسن البنا يمتاز عن أولئك بخاصةٍ أُتيحت له وحده.. ولم يرزق غيره منها إلا القليل، خاصة تأليف الرجال، والاستيلاء على أفئدتهم، وغرس علمه في شغاف قلوبهم وأخذهم بآداب الإسلام في تلطُّفٍ وإحسانٍ ساحرَين" .
ومن الأمور التي تميز بها البنا ايضا عن غيره من الدعاة والمصلحين سياحته في القطر المصري كله عندما بدأ جهاده الدعوي، ثم يكون حظه من النوم سويعات أثناء ركوبه القطار، يؤازره في هذا الجهاد زهادة في الدنيا، واستعلاء على الشهوات، وقلب معلَّق بالله.
يقول الشيخ الغزالي: "كان هذا الإمام العجيب يحسب عمره بالدقائق لا بالساعات، وفوق تراب مصر وحدها شقَّ الطريق إلى عشرات المدن وآلاف القرى، فتحدَّث إلى الناس في ثلاثة آلاف قرية على الأقل، ولا أزال أتصوره وهو يزرع الحب بالبسمة الرقيقة، ويصنع اليقين بالإقناع الهادئ، ويتجاوز الخلافات برفض الجدل، وتعليق الناس بالجوهر لا بالمظهر"ويتساءل الغزالي: "أهذا ما يتميز به؟ كلا كلا..
لقد رأيت حسن البنا يعمل وينسب عمله لغيره.. كان نكران الذات خليقةً ثابتةً فيه، على حين نجد كُثْرًا من الساسة الآن يدورون حول ذواتهم ويعبدون أنفسهم" .!!
كانت أحوال الأمة وبُعدها عن روح الدين يؤرقه ويؤثر في نفسه حتى تعدَّى الأثر وبلغ الجسد، يقول الشيخ الغزالي في هذا المعنى: "التقيتُ الأستاذ الإمام قبل يومٍ من استشهاده، وعانقته، وأفزعني أني عانقتُ عِظامًا معلَّقةً عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترمت جسدَ الرجل فلم تُبقِ منه إلا شبحًا يحمل وجهه المغضَّن العريض" .
ونختم بكلمة معبِّرة قالها الغزالي عن الامام البنا بعد استشهادة في مقالته ( غصن باسق في شجرة الخلود) يقول " لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أتفه شيء في ناظريه.!!
ماذا خرقت الرصاصة الأثيمة من بدن هذا الرجل؟
خرقت جسدًا أضنته العبادة الخاشعة ، وبراه طول القيام والسجود.
خرقت جسدًا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصي البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفًا ألوفًا في ساحة الإسلام!
لقد عاد القرآن غضًا طريًّا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله.
ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبًّا للإسلام واستمساكًا به.
وعرفت "أوروبا" الصليبية أيَّ خطر على بقائها في الشرق إذا بقي هذا الرجل الجليل، فأوحت إلى زبانيتها.. فإذا الإخوان في المعتقلات، وإذا إمامهم شهيد مضرج في دمه الزكي!
ماذا خرقت الرصاصة من جسد هذا الرجل؟
خرقت العفاف الأبي المستكبر على الشهوات ، المستعلي على نزوات الشباب الجامحة.
لقد عاش على ظهر هذه الأرض أربعين عامًا لم يبت في فراشه الوثير منها إلا ليالي معدودة، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة، والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية، وتوطيد أركان الإسلام، في عصر غفل فيه المسلمون، واستيقظ فيه المستعمرون، ومن ورائهم التعصب الصليبي، والعدوان الصهيوني، والسيل الأحمر! فكان حسن البنا العملاق الذي ناوش أولئك جميعًا حتى أقض مضاجعهم، وهدد في هذه الديار أمانيهم.
لقد عرفت خسة الغدر يوم قُدم رفات الشهيد هديه للمترفين والناعمين ، كما قدم - من قبل - دم عليّ رضي الله عنه مهرًا لامرأة.
عجبًا لهذه الدنيا وتبًّا لكبرائها.
ووارحمتاه لضحايا الإيمان في كل عصر ومصر!
أكذلك يقتل الراشد المرشد ..؟؟
رحم الله الشيخين الجليلين رحمة واسعة وجمعنا بهما عند مستقر في الفردوس الأعلى .. امين
وسوم: العدد 757