من يجرؤ على كبح التبرج الثقافي؟

كتاب مفتوح بين ذراعيه، ولا بد أن يكون سِفراً كبيراً كالعادة. عيناه مشدودتان بإخلاص إلى النص، وقلبه منصرف إلى الكاميرا التي تلتقط الصورة، وما إن يتم التصوير حتى يكف عن المطالعة المسرحية. إنه التصنّعُ الذي يفترض أصحابه أننا سنستقبل الصورة بوفرة من السذاجة، فنقتنع بانهماك صاحبنا في قراءاته المعمّقة، وأنّ العدسة هي التي تسللت إلى الموقف واختلست اللقطة دون علمه أو تدبيره.

الشك في براءة الصور

ينبغي الشك في براءة الصور التي تحتشد فيها الكتب أو تظهر في خلفيتها المكتبات أو يبدو فيها أحدهم منهمكاً في قراءة سِفر عظيم. ولا غنى عن فحص ما يتعاقب على وعينا في زمن الصورة والمشهد، فبعضهم يلتقطون صوراً ذاتية بوضعيات محددة تُحاكي ظهور أساطين الفكر والفلسفة في أزمان خلت. ينشر أحدهم صورة تعريفية له، مثلاً، وقد استندت جبينه المائلة إلى قبضة يده. قد يصرفنا ألَق هذه الوضعية الملائمة لانقداح الأفكار والتألّق الإبداعي أنها مجرد افتعال من صاحبها، يقوم على المحاكاة، وأنها نتاج تصنّع يستعمل التزييف، لمنح انطباعات بالاقتدار الفكري أو الانشغال الفلسفي.

لا تثريب على أحد في ما يرغبه من الالتقاطات، لكنها وغيرها تبقى من شواهد التبرج الثقافي، الذي يظهر أصحابه في لبوس العلم والمعرفة والثقافة، عبر تأكيد انطباعات مخصوصة في وعي الجمهور، سواء وافقت الحقيقة أم لم توافقها، بما يُذكي أحياناً نزعة الاستسلام لكهنوت ثقافي تجد أطراف متعددة مصالح لها من وراء تنصيبه وتعزيز حضوره.

مبالغة بعض النخب في الاستعمال الإعلامي والاجتماعي لحرف الدال قبل أسمائها، تكشف أحياناً عن عقدة متأصلة في بعض المجتمعات التي لا تكاد تعترف أدبياً بمن لا يتقدّم بهذا الحرف بين يدي حضوره

تمتدّ التساؤلات إلى فحص المغزى من الافتعال الكامن في إظهار كتب في صور تعريفية يختارها بعضهم لتقديم نفسه في الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل، فهل المقصود الإيحاء بالمعرفة المعمقة والثقافة الواسعة والانشغال العلمي والفكري؟ وما الذي تفعله بوَعيِنا كل تلك الكتب المُذهّبة عندما تظهر في خلفية الصور التعريفية أو ضمن مقطع يتحدث به أحدهم إلينا؟ ينبغي الاعتراف بأنها، غالباً، خلفية مسرحية مُصطنَعة ضمن موقف قائم على الافتعال من أساسه، من شأنه إشعارنا بالاقتدار العلمي والفكري الذي يحوزه صاحب الصورة أو المتحدث في المشهد، وقد يستولي علينا انطباع بفارق المعرفة التي يتقدم بموجبه شخص معيّن علينا بما يؤهِّله بالتالي للتوجيه والإرشاد. وسواء وافق الانطباعُ الحقيقةَ أم لم يوافقها؛ فإنّ المعضلة تكمن في تأسيس الانطباع على حالة مرئية قادرة على التضليل والتدليس والهيمنة على الوعي؛ على نحو لا يساعد على تشغيل العقل في مواجهة المضامين الفعلية التي قد يأتي بها صاحب الصورة أو المشهد.

مجتمع الألقاب المنتفخة

يحرص التبرج الثقافي على افتعال الصوَر، ويجد فرصته في الشاشات والشبكات، سعياً إلى ألَق النجومية الثقافية بكل متطلباتها البصرية في الهيئة واللباس والتصرّف. لكنّ الحالة لا تقتصر على الافتعال المصوّر، فهي حاضرة أيضاً في الإلحاح على إبراز الألقاب العلمية والمعرفية ولو في غير مواضعها. ليس نادراً أن يقع تقديم أحدهم بحشد من الأوصاف الفخمة المتكررة من قبيل "فضيلة الشيخ العلامة الأستاذ الدكتور"، أو ما إلى ذلك مما يبلغ بصاحبه الذروة التي تستعلي على المناقشة والأخذ والردّ.

إنّ مبالغة بعض النخب في الاستعمال الإعلامي والاجتماعي لحرف الدال قبل أسمائها، تكشف أحياناً عن عقدة متأصلة في بعض المجتمعات التي لا تكاد تعترف أدبياً بمن لا يتقدّم بهذا الحرف بين يدي حضوره. وقد يتجاهل القوم حق من لا يحملون الدرجة في التعبير عن آرائهم ومواقفهم، أو لا يُكترَث بهم كما ينبغي، مع استسهال إضفاء الشرعية، في المقابل، على ما يأتي به حاملو الدرجات دون فحص كافٍ للمضامين الواردة منهم أحياناً.

بوسع هذه التقاليد أن تفسِّر سلوك بعض المنصات الإعلامية والفكرية والعلمية العامة عندما تباشر إضافة حرف الدال إلى المتحدثين عبرها جميعاً، وكأنها تفترض أنه من غير اللائق أن لا يكونوا كذلك، بما يشي بنزعة تقديم التغليف على الفحوى وإضافة رونق مُفتَعل إلى أصل الموضوع.

يُثير هذا المنحى شكوكاً بجدارة الصفوة العلمية والفكرية في مجتمع ما؛ إن أسرَفت في الاستعمال الإعلامي والاجتماعي لدرجاتها العلمية وألقابها الفكرية، علاوة على هيئاتها البصرية في الرداء ولحن القول وكيفيات التصرف. فالمبالغة في الحرص على التغليف الثقافي قد يأتي على حساب الاهتمام بفحواه، ويبقى انتفاخ حاملي الألقاب بألقابهم من أعراض التثاقل العلمي والتكلس الفكري على الأرجح، خاصة إن لم يرافقه عطاء عميق في حقول الاختصاص.

ليس مفاجئاً أنّ المجتمعات التي تعيش عقدة تخلّف عن ركب العصر، تأنس بمعالجة عقدتها عبر سلوك تعويضي يبالغ في العناية بالرموز عبر الزهو الدعائي بأدمغتها أو بمن تراهم كذلك، فتباشر إثقال بعضهم بتيجان الاقتدار على نحو يفيض بالمبالغات غير المُنتجة علمياً في نهاية المطاف. وهكذا يستدرج المجتمعُ نخبَه العلمية والفكرية إلى حالة انتفاخ تقع النخب ذاتها ضحية لها في نهاية المطاف.

عندما يُبالِغ بعض المحسوبين على العلم والوعظ والخطابة في افتعال وقار زائد يمتنعون معه عن التفاعل الإنساني الملائم للمواقف المتعددة؛ فإنهم في هذا يخالفون طبيعة البشر ونهج الأنبياء

مواقع التواصل

ومن أعراض الحالة أن يصبح الحصول على درجة الدكتوراة كناية عن نهاية مطاف علمي بدل أن يغدو بذاته نقطة الانطلاق العلمي والبحثي بصفة مستقلة، فيستسهل أحدهم، من هذه الفئة المتثاقلة بألقابها، الالتصاقَ بمقعد مريح في مكتب مكيّف؛ مستنكفاً عن مواصلة مسيرة تبيّن أنها سعت إلى الدرجة العلمية دون أن تعبأ بالعلم المجرد على ما يبدو. إنها البيئة الملائمة تماماً لمصانع الشهادات التي تمتد فيها صفوف الخريجين؛ دون أن ينعكس ذلك المنحى الكمي بوضوح على جودة المنسوب العلمي والثقافي في البيئة ذاتها.

يتورّط "الإعلام الوطني" في تعزيز هذا المنحى عبر النفخ في "علماء الوطن" واستعمالهم دعائياً بطريقة قد لا تتناسب مع جداراتهم المجردة. ومن يقع تقديمهم في هذا الإعلام هم غالباً من انصاعوا للواقع وأذعنوا له؛ فاختارت السلطة إبرازهم والنفخ فيهم وتقديمهم في هيئة إنجاز لها وأسوة للاقتداء، فيصبح أحدهم مادة لأبواق الدعاية والهيمنة على وعي مجتمعه؛ وإن حاز جائزة نوبل.

يتجلى شيء من هذا على مستوى مصغّر، عندما تحرص القبائل والعشائر والقرى والبلدات على التباهي بأبنائها من حاملي الشهادات والدرجات، إلى درجة قد تقتل علومهم وتفتك بمعارفهم تحت وطأة الإفراط في النفخ والتباهي. يُدرك حاملو الدرجات حظوتهم الجديدة في مجتمعهم فينزلقون إلى المبالغة في استعمالها طلباً لمكاسبها الاجتماعية ورونقها الإعلامي؛ بصفة قد ترتدّ عكسياً على الروح العلمية ذاتها التي تقتضي التواضع في طلب العلم المستمر، وتحصيل المعارف دون إشارة توقف مهما تزاحمت الشهادات على الجدران ودروع التقدير في الخزائن.

وما يفاقِم المأزق هو استعمال الدرجة العلمية في غير حقلها، فيدفع بها أحدهم في ترويج حضوره ضمن مجال آخر غير تخصصه، مثلا في ما يسمى "التنمية البشرية" بكل ما يخالجها من مزاعم ومضاربات مارقة من العلم، على نحو يمنح انطباعاً مضللاً بأنّ ما يأتي به أحدهم في هذا الحقل أو سواه هو نتاج دراسة علمية وأكاديمية رصينة. هكذا تدفع بعض الانطباعات المترتبة على التبرج الثقافي إلى الشرعنة العلمية الزائفة لمقولات غير علمية أساساً. ومن فواجع المرحلة أن ينخرط حاملو درجات علمية رفيعة في ترويج مواد قوامها التدليس والتضليل وسوء الفهم، ضمن حمى الأخبار الزائفة التي تجتاح مجتمعات الحاضر، وكان الأجدر بهم مقاومتها وتفتيح الأبصار على زيْفها الذي يعود بعواقب جسيمة على الوعي الجماهيري.

وللحالة تقاليدها الراسخة التي تحاول تنصيب كهنوت ثقافي بالتذرع بفضل العلم والعلماء، وهو باب وقع تضخيمه واستعماله بطرائق لا تخدم المناقشة العلمية بقدر ما ترتفع بمكانة العالِم فوق مجتمعه ورسم صورة مُعَمْلَقة له. قد تُنشئ المبالغة في توقير العلماء فجواتٍ بين العالِم والناس، فينقطع عن دنياهم أو يجعلهم يبلغون به مبلغ التعظيم الذي ينطوي على تجاوز غير حميد. كما أنّ الإسراف في رفع أشخاص محسوبين على العلم والفكر إلى أبراج عاجية فوق البشر، أو تلميعهم وتضخيمهم وتحنيطهم في وعي الجماهير؛ مما لا يشجع على ممارسة الحسّ النقدي معهم وتمحيص ما يأتون به، فتغيب الفكرة ويبزغ الصنم، بتعبير مالك بن نبي، وهذا تحت وطأة الشعور بالتقزّم إزاء "المفكر العملاق".

قد يختار المتبرجون ثقافياً حمْل المعاول لتحطيم ما يعدّها الناس قاماتٍ أو يروْنها هامات، حتى ينتصب المتبرج متفرداً وحده وسط الحطام الذي افتعله

وعندما يُبالِغ بعض المحسوبين على العلم والوعظ والخطابة في افتعال وقار زائد يمتنعون معه عن التفاعل الإنساني الملائم للمواقف المتعددة؛ فإنهم في هذا يخالفون طبيعة البشر ونهج الأنبياء الذين كانوا يعايِشون الناس ويقتربون منهم؛ حتى عِيب عليهم أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

من التزامات المثقف الحقّ أن يضع حدّاً لتعلّق الجمهور به، فكيف إن بلغ حدّ الافتتان أو الهوَس، وعليه أن يسعى إلى تهذيب هذا المنحى والتحذير منه، وهذا هو نهج الأنبياء والمصلحين والروّاد. فالافتتان والهوَس لا يشجِّعان الجمهور على تشغيل العقل واستعمال الحسّ النقدي وروح التمحيص. لكنّ أذكياء التبرج الثقافي يباشرون التحايل على هذا المنحى، عندما ينشُدون الإسرافَ في تعظيمهم، ثم يَخرُجون على أقوامهم بتعبيرات التواضع ويطلبون من مريديهم عدم الافتتان بهم، بأساليب تُذكي الافتتان ولا تستأصله. هو مَسلك يُتقنه طغاة العصر عندما يخاطب أحدهم شعبه بما تبدو براءةً متناهية؛ بأنه مجرد واحد منهم وليس بأفضلهم، فتزداد حرارة التصفيق له وتعلو الهتافات، ويُطلَب منه البقاء في موقعه إلى الأبد.

عماليق "التجديد" في تبرجهم

برَز "التجديد" شعاراً يتكاثر المتحدثون عنه في العلم والفكر والدين والثقافة، بما أحاله إلى حلبة مُثلى للتبرج الثقافي الجديد الذي تعلو شعاراته وتتضخم مقولاته، وتظهر في ظلاله حالات انتفاخ في الشاشات والشبكات.

يتمسّح بعضهم بالعلم ويتذرّعون بالعقل، ويحتَمون بشعارات تلامس نفسيّات الجمهرة الحائرة في زمن التحولات المتسارعة، سعياً لاستغلال نقاط ضعف الناس والإمساك بخطام وَعيِهم. إنهم "المجددون" المتلوِّنون حسب المواسم، تجدهم، مثلاً، ثوريين وقت الثورة، ثم ينقلبون على أعقابهم إنْ أُطيح براياتها، ولا يعجزون عن تسويغ مواقفهم جميعاً على تقلّب الأيام وتعدّد الأحوال، مع مراعاة اهتمامات داعميهم ومن يتيحون لهم منصّات الظهور.

لهؤلاء "المجددين" فنونهم في التبرج الثقافي، فهو يُطلِقون شعارات مكثّفة ومقولات مُختزَلة ومصطلحات رنّانة وإن بدت مُبهَمة وحمّالة أوجُه، على أمل أن يباشر الناس نحتها في الألواح إلى جانب مقولات خالدة محمولة عبر الأزمان، وإن لم يأخذ المتحدثون بها في مسالكهم ولم يمتثلوا لمقتضاها في مواقفهم.

وقد يختار المتبرجون ثقافياً حمْل المعاول لتحطيم ما يعدّها الناس قاماتٍ أو يروْنها هامات، حتى ينتصب المتبرج متفرداً وحده وسط الحطام الذي افتعله. ولا يتردّد أحدهم في هزّ ثقة الأجيال بما في أذهانها، كي يظهَر لها في هيئة الفارس الموعود الذي يغويها بالانقياد لركْبه فراراً من الحيرة وملاذاً من الاضطراب.

يحرص هؤلاء المتبرجون ثقافياً على الخروج على قومهم بما ستراه العيون اكتشافاتٍ أخّاذة وفتوحاً متجددة، لاختطاف الأبصار والاستيلاء على الألباب، وقد يُهيلون الترابَ على "اكتشافاتهم وفتوحاتهم" في قابلات الأيام صوب غيرها، مُراهنين على ذاكرة الجمهور القصيرة في زمن الشاشات والشبكات. يستخلص هؤلاء مفاجآتهم من التماعات عارضة قد تكون تأسست على آراء جاء بها بعض السابقين واللاحقين فيستحضرونها في المشهد كأنهم من تفرّدوا بالنظر والتأويل. ثم إنهم لا يتوانَون عن التناقض مع ما جاؤوا به في أمْسِهم، ويقولون في يومهم ما سيخالفونه في غدهم، مع ثقتهم بأنّ الجمهرة التي وقع استلابها بسطوة المشهد المرئي ستتبعهم في ارتحالهم المتجدد من الأقوال إلى نقائضها، وستلتمس لهم الأعذار في كل ما يأتون به.

من هؤلاء من يستعملون النقد اللاذع في اتجاهات شتى، مع التحوّط من أن يرتدّ النقدُ عكسياً صوبهم. تجدهم يحرصون على التملّص من وطأة التدقيق ونظرة التمحيص في ما يأتون به، ويبادرون إلى تحصين مزاعمهم بحجج وذرائع تهدف إلى دفع المساءلة عنها، مع تحاشي تسطير الكتب وتدوين الدراسات التي تتيح قابلية الفحص والمراجعة لتبقى أقوالهم ومواقفهم عائمةً متلفتةً من محاولات ضبطها أو الإمساك بها.

 التبرج الثقافي لا يُعين مجتمعه على استدعاء روح التمحيص، إن استولت الهالة على الأذهان والوجدان وعطّلت تشغيل الحس النقدي وسلّمت بما يُقال للجمهرة باسم العلم والفكر دون فحص وتدبّر

مواقع التواصل

ما المشكلة تحديداً؟

مَن بوسعه أن يصادر حق البشر في التقاط الصور على النحو الذي يحلو لهم، أو في استعمال ألقاب حازوها بشهادات لا سبيل إلى الشك في صدقيتها، أو في اكتساب ثناء على علومهم ومعارفهم وسعة اطلاعهم أيا كانت الحقيقة؟

نعم، لا مشكلة في تصرف عابر، وأما معضلة التبرج الثقافي فتتعلق بنهج راسخ يقوم على التصنّع والافتعال، يجرّ تأثيرات سلبية مركّبة؛ قد تبدأ مع ترسيخ الاهتمام بالتغليف على حساب العناية بالفحوى، أو أن تغدو المضامين، أي الكسب العلمي والاقتدار الفكري والمعرفة الثقافية، مطلوبة لأجل القشرة والهيئة والشكل والحضور؛ بدل العناية بتحقيق انطلاق علمي وتقدم فكري ونهوض ثقافي. وإن عمّت الخيلاء العلمية والفكرية والثقافية مجتمعاً؛ فإنها على الأرجح من أمارات ضعفه العلمي وهزاله الفكري وهشاشته الثقافية.

ثم إنّ التبرج الثقافي لا يُعين مجتمعه على استدعاء روح التمحيص، إن استولت الهالة على الأذهان والوجدان وعطّلت تشغيل الحس النقدي وسلّمت بما يُقال للجمهرة باسم العلم والفكر دون فحص وتدبّر. وللتبرج الثقافي أدواره الوظيفية، فقد يُستخدَم لتضليل الجمهرة بغرض إيهامها بجدارة أحدهم في حقول معيّنة، كما يفعل بعضهم بافتعال الظهور مع خلفية مُتخَمة بالأسفار، مثلاً، كنايةً عن اقتدار علمي أو فكري لا تكفي صورة المكتبة للبرهنة عليه. ومن المألوف أن تقع الروح العلمية ذاتها ضحية الانتفاخ العلمي والخيلاء الثقافية، مثل الإسراف في المظاهر الدالّة على العلم على حساب العلم ذاته، فينتهي الحال ببعضهم إلى ألقاب متراصة في صفوف حاملي الشهادات، الذين يباركون نهج الجهل والتجهيل الذي تعمد إليه أنظمة ذات سطوة.

ولهذه الأنظمة المنتفخة مصلحة مؤكدة في تسجيل "إنجازات جبارة" في وعي شعبها، ولو قامت على الوهم والافتعال، فأدمنت أبواقها الدعائية تصوير جامعاتها ومعاهدها ومحافل توزيع الشهادات بصفتها التعبير المرئي عن التقدم والازدهار، دون أن تجرؤ الدعاية ذاتها على إثارة تساؤلات الجدوى المنشودة والحصيلة المتحققة حتى الآن.

ومن المصارحة القول إنّ عمامة العلم لا تكفي وحدها مؤشراً على الاقتدار العلمي، لكنها قد تُستعمَل بذكاء في مواجهة العلم ذاته، أو يقع توظيفها بعناية للتدليس والتضليل، وهو ما يقتضي الحذر من مفعولها الذي يحرص طغاة الأرض على استصحابه بحشد بعض العمائم ضمن جوقة المصفقين لخطاباتهم الهزيلة، مع إسباغ أوصاف "كبار العلماء" عليهم. وما يُقال عن العمامة يسري على أغطية الرؤوس المحسوبة على العلم والفكر، وعلى ربطات العنق الأنيقة التي يحرص عليها "مجددو العصر" وسدنة الثقافة بألوانهم الفكرية المتعددة.

على الأمم أن تتحاشى التضحية بالفحوى في سبيل القشرة، أو أن تقنع بالرمز دون ما يرمز إليه، وأن تدرك أنّ انتفاخ الألقاب لن يتقدم بها في سباق الأمم بل قد يضللها بشأن حقيقة موقعها من خط الزمن

وللتبرج الثقافي مفعوله المؤكد في التدليس وتضليل الجمهور، كما يتجلى في زمن "ما بعد العلم"، الذي يكتفي فيه بعض المتحدثين في شؤون العلم والفكر بالمخاطبة الجماهيرية عبر الشاشات والشبكات والمقاطع عازفين عن المعاهد والكتب والدراسات، فلا يتواضَعون للقلم الذي يتيح للمدققين فرصة فحص ما يأتون به من أقوال ومراجعة ما يدفعون به من مزاعم.

وإن طابت الأبراج العاجية لمحسوبين على العلم والفكر والثقافة؛ فإنها حالة تفتن المجتمعات بإيهامها أنّ طلب العلم بعيد المنال، وَعِر المسالك، لا يُبلَغ إلاّ بشق الأنفس، بما يحرِّض على القعود عنه والاكتفاء فيه بتلقّف ما يبثّه المتبرجون ثقافياً وتدويره جماهيرياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الأجهزة دون تدبّر ومراجعة.

وإن ارتضى العالِمُ والمفكر والمثقف بارتقاء أبراج عاجية مرتفعة فوق الناس، والانزواء في أروقة موصدة دون الواقع؛ فإنّ أحدهم سيَقنَع بسجن اختياري لا يُعين على معايشة المجتمع وإدراك الواقع، فتنغلق مقارباته على عالَم خاص يفترضه أو يتصوّره، أو يُستدرَج إلى نرجسية ثقافية أو ترف فكري مما لا يتصل بالواقع كما ينبغي.

تحتاج المجتمعات التي اجتاحها الداء إلى ثورة على تقاليد التبرج الثقافي الراسخة، ومن مسؤولية المفكرين والعلماء وحاملي الألقاب والدرجات مباشرة ذلك بأنفسهم بشجاعة واقتدار، دون أن يقضي هذا بحرمانهم من امتيازات الألقاب المقررة في مواضعها وبالأقدار المعقولة، بدل تحويل حضورهم العام إلى طبقية علمية ذميمة وكهنوت ثقافي يستعمل الثقافة لغير مقاصدها المنشودة.

على الأمم أن تتحاشى التضحية بالفحوى في سبيل القشرة، أو أن تقنع بالرمز دون ما يرمز إليه، وأن تدرك أنّ انتفاخ الألقاب لن يتقدم بها في سباق الأمم بل قد يضللها بشأن حقيقة موقعها من خط الزمن؛ الذي تمضي خيْلُه مسرعةً دون أن تعبأ بمن أتخمتهم الأوصاف والألقاب واستولَت عليهم المَشاهد والصوَر.

وسوم: العدد 758