لماذا تعثرت ثورات الربيع العربي؟
الجواب: في قصة بني اسرائيل
خذ من وقتك دقيقتين واقرأ..!!
عندما كان موسى عليه السلام يكافح لتحرير قومه من ظلم الفراعنة واجه متاعب جديرة بالتأمل، وجل هذه المتاعب كان من قومه أنفسهم!.
أصدر اليهم الأمر أن يرحلوا من مصر فى ليلة موعودة، وأن يستخفوا تحت جنح الظلام متجهين شطر البحر الأحمر، واستجاب اليهود للأمر الذى أصدره قائدهم، فلننظر: أكانوا متلهفين للخروج من مصر؟ أكانوا متعشقين للحرية التى فقدوها؟ والأمان الذى حرموه؟ أكانوا كارهين لجو تذبح فيه الأبناء وتستحيا النساء ويصب فيه البلاء؟.
إن هذا ما يتبادر للأذهان.
غير أن الواقع غير ذلك، فإن بنى إسرائيل كانوا قد ألفوا الدنية واستكانوا للضيم على نحو ما قال أبو الطيب :
من يهن يسهل الهوان عليه .. ما لجرح بميت إيلام!
وقد نبه القرآن الكريم إلى موقف الشعب من القائد الذى يبغى تحريره قال تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) إن بعض الشباب الحديث السن السليم الفطرة هو الذى اعتنق رسالة موسى، وقرر أن يقاوم معه الجبروت، ومضى مع أحلام المغامرة ينشد مستقبلا أشرف!.
أما الشيوخ وسواد اليهود فقد قيد مسالكهم الخوف ولم يتحمسوا لدعوة الحرية! وقد انكشفت خباياهم لما قرر فرعون ملاحقة الهاربين من بطشه، وخرج على رأس جيش كبير ليستعيد قوم موسى إلى السجن الذى فروا منه!!.
كانت مطاردة مثيرة، اليهود يشتدون نحو الساحل عابرين الصحراء الشرقية، وفرعون وراءهم يريد أن يدركهم.. ويصف الإصحاح الرابع من سفر الخروج هذا الموقف قائلا: " فلما اقترب فرعون رفع بنو إسرائيل عيونهم، وإذا المصريون راحلون وراءهم، ففزعوا جدا، وصرخ بنو اسرائيل إلى الرب وقالوا لموسى: هل لأنه ليست لنا قبور فى مصر أخذتنا لنموت فى البرية؟ ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟ أليس هو الكلام الذى كلمناك به فى مصر قائلين: كف عنا فنخدم المصريين لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت فى البرية "؟.
إن هذا الكلام ناضح بالنذالة والجبن واستمراء الدنية، والواقع أن الشعوب التى برحت بها العلل لا يمكن أن تبرأ من سقامها بين عشية وضحاها، إنها تحتاج إلى مراحل متتابعة وسنين متطاولة من العلاج المتأنى الصبور حتى تنقه من بلائها.
من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن جزء من العلاج..
وقد رأيت بعد تدبر عميق أن الشعب الإسرائيلى أول أمره لم يتبع موسى عن عزة نفس أو صلابة يقين، لعله تبعه عن تجاوب عرقى أو تعصب قبلى، ثم استفاد الأخلاق والإيمان فى مراحل متأخرة.
ونظر بنو إسرائيل فوجدوا أنفسهم سالمين على الشاطئ الآخر، كما أحسوا أن قتلة الأمس قد طاحوا، فلا عدوان عليهم بعد!!..
فبماذا استقبلوا هذه النعماء الغامرة؟ وماذا فعلوا لمسديها الجليل؟ لقد تيقظت فى أنفسهم الوثنية، وأعجبتهم عبادة الأصنام! فتقدموا إلى نبيهم فى بلادة هائلة ليجعل لهم صنما! قال تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين).
وأى فضل أعظم مما تم؟ أن يرثوا الأرض، ويغلبوا العدو، ويُمنحوا فرصة السيادة؟ بيد أن شيئا من ذلك لم يغير خستهم إن أثقالهم النفسية حالت بهم فى مكان سحيق..
وجاء الاختبار التالى، فإن الله لم يكلف اليهود بمحاربة فراعنة مصر - ومحاربة الطغاة مطلوبة حيث كانوا - إلا أن الإسرائيليين كانوا أقل وأذل من ذلك، لقد كلفوا بمحاربة الجبابرة الذين يسكنون فلسطين، ووعدوا بأنهم فى هذه الحرب سوف ينتصرون...
وجزع اليهود لهذا التكليف، ولم يطمئنهم هذا الوعد!! إنهم أحرص الناس على حياة، وهيهات أن يعرضوا أنفسهم لخطر! كيف يطلب منهم قتال؟.
جاء فى القرآن الكريم على لسان موسى (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها).
ووصف التوراة حال الشعب اليهودى عندما سمع هذا التكليف فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت! وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر الشعب على موسى وعلى هارون، وقال لهما: ليتنا متنا فى أرض مصر! أو ليتنا متنا فى هذا القفر! لماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف؟.
وكان لابد من قرار إلهى قاطع..
إن هذا الشعب محتاج إلى تربية طويلة الآماد، تكبح جماحه وتقتل رذائله، وتفتح بصيرته على لون آخر من الحياة الرفيعة، والإيمان بالله واليوم الآخر..
فلتكن سيناء مصيدة محكمة الجدران يضطرب داخلها، ويعيش وراء حدودها لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد، وليبق على تلك الحال أربعين سنة!.
أربعين سنة يهلك فيها الذين شاخوا فى الفساد، ويتدبر أمره فى سجنها الطويل من عاشوا لا يفكرون إلا فى مآربهم! وستنضج خلالها الذرية التى آمنت بموسى، وتبلغ مرتبة الرجولة التى تتصرف فى نفسها وفيما حولها...
أربعين سنة يخرس فيها من كانوا يهمسون بالحق فتكمم أفواههم!.
إن هذه الأمم محتاجة إلى جو جديد تتنفس فيه هواء أنقى، وتسمع فيه إلى دعاة الحق وهم يهدونها سواء السبيل..
وقد طالت المدة على بنى إسرائيل فى سيناء! مات فى هذه الفترة موسى وهارون، وتركا وراءهما شعبا يتولى القدر تأديبه، ويتدرج بشتى الوسائل على رفع مستواه.. ولم يكن من هذا بد ، إن الأمم لا تترك السفوح إلى القمم بكلمة عابرة من واعظ مخلص، أو مدرس بصير، الزمن جزء من العلاج.
والشبان الذين يظنون الإسلام يمكن أن يقوم بعد انقلاب عسكرى أو ثورة عامة لن يقيموا إسلاما إذا نجحوا! فإن الدولة المحترمة وليد طبيعى لمجتمع محترم، والحكومة الصالحة نتيجة طبيعية لأمة صالحة! أما حيث تتكون شعوب، ماجنة وضيعة فسيتولى الأمر فيها حكام من المعدن نفسه (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون).
إن قصة خدمة الإسلام عن طريق الانقلابات والثورات راودت أناسا لهم إخلاص وليست لهم تجربة، ولم تنجح من سنين طويلة هذه المحاولات
إن الدولة فى الإسلام صورة ظاهرة لباطن الأمة، وهى يدها التى تحقق بها ما تبغى، وقدمها التى تسعى بها إلى ما تريد..
إن الشعب والحكومة معا دون مستوى الإسلام الذى ينتمون إليه،
هل تحتاج أمتنا إلى أربعين سنة تصح فيها كما احتاج بنو إسرائيل؟ لا أدرى! كل ما أقدر على قوله أن الإسلام لا يقبل حكما عسكريا، ولا يعرف خرافة: " الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع يزيد " وأن على دعاة الإسلام من خلال تعاليمه لا من خلال تقاليد عصور الانحطاط والفوضى فى تاريخه المديد.
ورووا أن الربيع بن زيادة الحارثى وفد على عمر بن الخطاب فأنس إليه عمر وأعجبته هيئته، فشكا إليه عمر طعاما غليظا أكله فقال الربيع: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بطعام لين وملبس لين لأنت، فرفع عمر جريدة معه فضرب بها رأسه، وقال أما والله ما أراك أردت الله بمقالتك، ما أردت إلا مقاربتى! ويحك، هل تدرى ما مثلى ومثل هؤلاء ـ جماهير الناس ـ؟.
فقال الربيع: ما مثلك ومثلهم؟ قال عمر: قتل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم وقالوا له: أنفق علينا! فهل يحل له أن يستأثر منها بشىء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين قال: فكذلك مثلى ومثلهم..
تلك علاقة الشعوب بحكامها فى تعاليم الإسلام،
الإسلام كل لا يغنى بعضه عن بعض، والحكومة فيه إفراز طبيعى لأمة مؤمنة، أمة اختارت الأكفأ والأصلح ، وائتمنته على دينها ودنياها، ووضعته تحت رقابتها، ولها حق مطلق فى تنحيته يوم تشاء..!.
الغزالي
وسوم: العدد 758