مراجعات (16)
النخب السورية و العسكر
في مرحلتي ماقبل الاستقلال و مابعده
كانت سورية قد وقعت في أسر السياسات الطائفية التي تبنتها الدول الحليفة مع مطلع القرن العشرين؛ بعد سقوط الدولة العثمانية و تحوّل سورية إلى بلد محتل تحت النفوذ الفرنسي، و ذلك بموجب الاتفاق الودي الذي عقد في "سان ريمو" في إيطاليا، و الذي قسّم كلا من سورية و العراق إلى مناطق نفوذ تتبع كلتا الدولتين و بعد موافقة عصبة الأمم على ذلك التقسيم و مباركته.
وقد مثلت قوات المشرق الخاصة التي أسسها غورو سنة 1924م - و التي كانت طائفية بامتياز – دينمو التحرك الطائفي وقد كان أمامها
و ظيفتان.
الوظيفة الأولى – تمثلت بمطاردة الثوار السوريين، المناوئين لسلطة الانتداب.
و الوظيفة الثانية – تمثلت بالأنشطة الطائفية المبرمجة و المقننة، و التي تسير على وفق جداول زمنية محددة. و كان قرار غورو قد نص على أن تكون عمدتها من الطائفيين، و من العلويين تحديدا، و أن تستوعب أبناء الأقليات بصورة خاصة.
و الوظيفتان كانتا متحققتين من سنة 1924م إلى سنة 1946م. حيث تداخلتا معا في مهمة واحدة ؛ في دائرة الأجنبي. ينظر ( مراجعات(15)، النخب السورية و الحقائق الوطنية الثابتة) وقد كان أن أصبح الأجنبي هو الدينمو المحرك للأنشطة الطائفية كلها، و أصبحت الدول الحليفة و معها الولايات المتحدة الأمريكية، بمثابة الحليف الأقوى للطائفية التي وجدت مرتعها الخصب في (بلاد الشام) و منها سورية على وجه الخصوص.
و باستقراء الأحداث القائمة على أساس من الفعل ورد الفعل يلاحظ أن سورية شهدت في ذلك التاريخ ميلاد قواتها المسلحة التي كتب لها أن تلعب دورا في تاريخها الحديث. الذي يمتد من سنة1920م إلى سنة 1963م. وقد مرت خلال هذه الحقبة بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى - تمثلت بالجيش العربي الذي أسسه فيصل بن الحسين سنة 1918م. و هذا الجيش مثّل في حينه المتناقضات. وقد راوح بين أن يكون وطنيا صرفا، وقد واجه بقيادة البطل يوسف العظمة الفرنسيين عند بلدة ميسلون. أو أن يكون أكثر قربى من الأجنبي وقد ارتكب مجزرة راح ضحيتها من الوطنيين مئة قتيل و أكثر من ثلاثمئة جريح، وذلك بأمر من (القائد الأعلى) ( ينظر الجيش و السياسة صـ81). وقد كانت تلك المجزرة بمثابة النهاية المآساوية لذلك الجيش الذي لم يدم أكثر من سنتين، و الذي ظهر فيه الخط الفاصل بين الوطني و اللاوطني، و ذلك بقتل بعضه، و تسريح بعضه الآخر، و اللعب على متناقضاته. بل و العبث بشؤونه و بأمر من ( القائد الأعلى)!!!
المرحلة الثانية – مرحلة قوات المشرق الخاصة، التي ألفها غورو بقرار منه، و التي قامت منذ يومها الأول في سنة 1924م قياما خاطئا. وقد ظلت على ماهي عليه إلى سنة 1946م. و هو العام الذي شهدت فيه سورية قيام الدولة الحديثة. و خلال هذه المرحلة التي استمرت مدة اثنين و عشرين عاما ظهرت التطورات الخطيرة. وقد امتازت بسياقين مختلفين:
السياق الأول – سياق اعتُمِدَ فيه على العنصر الطائفي. وقد ظل على ذلك إلى سنة 1939م ؛ أي : إلى بداية الحرب العالمية الثانية. و لم تزد فيه نسبة المكون السني عن 30%. وقد كان طائفيا بامتياز، و خصما لدودا للوطنية و الوطنيين.
السياق الثاني – سياق أُتِيحَت الفرصة فيه للعنصر السني. وذلك من سنة 1939م إلى سنة 1946م. وقد كان ذلك بعد أن هزمت فرنسا في الحرب أمام ألمانيا، و بعد أن أدرك القادة الفرنسيون ضرورة توسعة قوات المشرق الخاصة. من أجل الدفاع عن الشرق الأوسط بعامة. و بسبب من هذه الرغبة دخل المكون السني بقوة في جيش المشرق الخاص. وقد كان التركيز بداية على أبناء العوائل المتنفذة في المدن الكبرى، فظهر إلى جانب معروف الدواليبي مصطفى الدواليبي، و إلى جانب جميل مردم بك فؤاد مردم بك و إلى جانب هاشم الأتاسي لؤي الأتاسي، و إلى جانب مأمون الكزبري حيدر الكزبري....الخ. ثم توسعت الدائرة أكثر بعد ذلك التاريخ لتشهد عددا أكبر من أبناء السنة. و ما كاد يأتي عام 1946م، حتى دخل العشرات من أبناء السنة إلى الجيش، و إن كان أكثرهم من رتبة الضباط الأعوان،حسب المصدر(الجيش و السياسة).
المرحلة الثالثة – مرحلة الجيش السوري في فترة مابعد الاستقلال و ذلك من سنة 1946م إلى 1963م. وقد امتازت بسياقات ثلاث:
السياق الأول – سياق المغامرات. وقد توزع على فترتين:
1- فترة حرب فلسطين: وقد دخل الجيش هذه الحرب و هو حديث عهد باستقلال. بقوات لاتزيد على بضعة آلاف من الجنود مع ضعف عام في قيادته التي تمثلت بشخص وزير الدفاع أحمد الشراباتي و بعدد من الضباط المغامرين، الذين ليسوا على مستوى من الكفاءة لخوض حرب من أجل تحرير فلسطين، وقد وصموا بالخيانة و التقصير.
2- فترة الانقلابات العسكرية: وقد شهدت سورية خلال خمس سنوات خمسة انقلابات عسكرية، تمثلت في انقلاب الزعيم1949م و انقلاب الحناوي 1949م، و انقلاب الشيشكلي الأول 1949م و انقلاب الشيشكلي الثاني 1951م، و انقلاب القوى الوطنية ضد الشيشكلي في سنة1954م. و الانقلابات الخمسة جزء من مؤامرة دولية جاءت بلبوس وطني، وقد كان الهدف منها تفكيك بنية الجيش الناشىء حدثيا. و عدم السماح له بامتلاك ناصية القوة فضلا عن بناء مؤسساته على شكل صحيح من أجل الدفاع عن الوطن و حمايته. وقد رَأَسَ الانقلابات ضباط من قوات المشرق الخاصة، الذين كانوا يفتقرون إلى الوطنية الحقة، وقد جذبتهم الأحزاب إلى أتونها المحرق. فاحترقوا بنارها و لم يفلحوا.
السياق الثاني - سياق الصراعات وقد امتد هذا السياق من سنة 1954م. و هي السنة التي انتصر فيها الديمقراطيون على حكم الفرد – هكذا كما أطلقوا هم على أنفسهم – و إلى سنة 1963م. و هي السنة التي أسلموا فيها الراية للسيد النظام!! حيث لم تقم لسورية قائمة بعد ذلك التاريخ. وقد وقعت في أسر النظام الطائفي الذي كان من أبرز رموزه حافظ و ابنه.
وقد مر هذا السياق بثلاث فترات متعاقية:
1- الفترة الأولى تمتد من سنة 1954م إلى سنة 1958م و هذه الفترة يمكن أن توصف بثلاث صفات تلازم كل واحدة الصفتين الأخريين بجدل من العلاقة و هذه الصفات هي:
آ- صفة غلبة المكون السني على بقية المكونات الأخرى. و دليل ذلك مجلس القيادة الذي تكون آواخر سنة 1956م و قد اقتصر على السنة. وقد شمل كلا من :( عفيف البزرة، و أمين النفوري و أحمد عبد الكريم، و مصطفى حمدون، و أمين الحافظ، و عبد الغني قنوت و طعمة العودة الله، و أحمد جنيدي، و حسين حده، و ياسين الفرجاني و بشير صادق، و محمد النسر و مصطفى رام حمداني.) و هؤلاء كلهم من السنة. ينظر الجيش و السياسة ص289. وقد ذكر بشير زين العابدين في الصفحة276 من مؤلفه انتماءات الضباط الذين تخرجوا من الكلية العسكرية خلال العامين(47 و 48) فعدد منهم سبعة عشر ضابطا، لم يكن بينهم غير ضابط درزي واحد هو جادو عزالدين. و الضباط هم: ( عفيف البزرة و مصطفى حمدون و أحمد عبد الكريم و أحمد جنيدي و طعمة العودة الله و حسين حدة و عبد الغني قنوت و محمد الناصر و ياسين فرجاني ، عبد الله جسومة و مصطفى رام حمداني و أكرم ديري و جمال الصوفي و أمين النفوري و عبد الحميد السراج و جمال فيصل.) و الملاحظ أن أكثر أعضاء مجلس القيادة كانوا من بين هؤلاء، الضباط. و هذا يعني أن غلبة المكون السني كانت واضحة. وقد قال مؤلف الكتاب:" بالرغم من استبعاد أهم العناصر الدمشقية من مجلس القيادة إلا أنه يمكن ملاحظة غياب العنصر الطائفي الذي تم تصفية العديد من عناصره في مرحلة حكم الشيشكلي، و من ثم في المحاكمات التي أعقبت المحاولة الإنقلابية في نوفمبر من سنة 1956م." و أيضا بعد اغتيال عدنان المالكي من قبل الحزب القومي السوري سنة 1955م. (المصدر نفسه).
ب- صفة غلبة الطابع الحزبي على سلوكية الضباط و على انتماءاتهم، وقد توزعوا على الحزب القومي السوري، و حزب البعث، و الحزب الشيوعي، و حزب الشعب و الحزب الوطني. فعلى سبيل المثال: لقد كان كل من حسني الزعيم و أديب الشيشكلي ينتميان للحزب القومي السوري، بينما كان أكثر ضباط تجمع القوى الوطنية من البعثيين وقد شغلت ظاهرة تدخل العسكريين في السياسة جمال عبد الناصر الذي اشترط على الضباط الذين أبرموا معه اتفاقية الوحدة، عدم جواز الجمع بين الجيش و السياسية. و مع أن القيادة العسكرية قبلت مااشترطه عليها عبد الناصر إلا أنها لم تفلح بالتخلص من هذه الصفة، و من ثم ألحقت ضررا بالعمل الوطني بعامة، وقد أدى إبعادها عن الجيش إلى إضعاف المكون السني بعامة و إلى عودة الروح للمكونات الطائفية من جديد. التي عاودها النشاط الطائفي من خلال لجنة عسكرية ذات منهج طائفي و حزبي. وقد ضمت في حينها كلا من (محمد عمران و صلاح جديد و حافظ أسد) و هما من العلويين، و ( أحمد المير و عبد الكريم الجندي) و هما من الطائفة الإسماعيلية. و في فترة لاحقة و سّعوها لتشمل من الدروز (سليم حاطوم و حمد عبيد) و من السنة بعض العناصر اليسارية التي كانت أكثر إلبا على السنة، و هو الأمر الذي بات ملحوظا جدا في أعقاب انقلاب 1963م.
جـ- صفة الصراع. وقد غلبت على الحزبيين بعامة وقد كانت مدخلا للحاكم الفرد أن يضرب الأجنحة المتصارعة بعضها ببعض، أو أن يقدم جناحا دون آخر، و المعروف أن الشيشكلي لجأ إلى ذلك، و أن عبد الناصر فعل مثل فعله، فقد تابع على خطا الشيشكلي الاعتماد على العنصر السني، مع إقصاء للطائفيين عن القيادات العليا. و بسبب من عقدة البعث التي كانت تساوره فقد اعتمد على الضباط الدمشقيين، سيما بعد تصفية البعثيين و الطائفيين فجعل منهم بعض أعضاء حكمه. إلا أن اللأخلاقية العسكرية التي اتسم بها بعضهم و هي عقلية انقلابية تغلب عليها الوصولية الانتهازية و المكيافيلية كانت عاملا مساعدا لدى الضباط الدمشقيين لأن يثوروا و يتآمروا على الوحدة بدون وازع من أخلاق أو دين أو حتى من مصلحة عليا تخص الوطن و المواطن.
لقد دفعت عقلية الصراع الثلّة الدمشقية إلى الانقلاب على دولة الوحدة، و إلى خيانتها و التآمر عليها فباءت بشر ماباءت به عصابة خيانبة. وقد أدى فعلها إلى:
عودة الطائفيين إلى الجيش و القوات المسلحة سيما بعد مؤتمر حمص سنة 1962م. و قد كان من قراراته إبعاد الانفصاليين، و عودة المسرحيين. و قد كان أغلبهم من الفئات الطائفية و اليسارية. و هي مسألة ثبت خطرها لاحقا. إلى إضعاف المكون السني الذي وجد نفسه بعد ذلك الوقت محكوما من قبل المكون الطائفي، الذي قام بالانقلاب وذلك في الثامن من آذار، فأنهى حقبة من التاريخ السوري الحديث لم يكن أهم منها؛ وقد شغلت مرحلة ماقبل الاستقلال و مابعده، وذلك من مطلع القرن العشرين و إلى سنة 1963م و هي فترة تزيد على نصف قرن من الزمان. و تبعة تلك الأحداث تلقى على عاتق العسكر الذين لعبوا الدور الأخطر في تاريخها، و ذلك للأسباب التالية:
السبب الأول – يتعلق بتبعيتهم للأجنبي:
وقد لازمتهم تلك الحالة في مرحلة ما قبل الاستقلال و مابعده. بل منذ بداية القرن وقد كانوا أسرى السياسات الحليفة، التي لم تلبث أن كافأتهم على كونهم أتباعا لها باحتلال بلادهم و تجزئتها. فلم يشكل لهم ذلك واعظا؛ بل كانوا أكثر طواعية لها و ائتمارا بأمرها. و صفقة التابلاين و قد كانت وراء انقلاب الزعيم، و من ثم سياسة الشيشكلي و من جاء بعده وصولا إلى الانفصال، كل ذلك يصب في خانة تلك التبعية، و يؤكد بأنها كانت بمثابة الخطأ رقم واحد. الذي أدى ارتكابه إلى تعطيل المسار الوطني بعامة، و إلى الوقوع في أسر السياسات الطائفية، التي كانت أشد إلبا على سورية و شعبها من أي خطر كان.
السبب الثاني: يتعلق بالطائفية السياسية:
لقد لازمت الطائفية السياسية التبعية الأجنبية، في مراحلها كلها، وقد اتخذت من الأقليات العرقية و الدينية محضنا لها، و لم تتورع من أن تكون تابعا للأجنبي أو من بعض أجناده؛ و لذلك ما إن أصدر غورو قراره بإحداث قوات الشرق الخاصة حتى وجدتها سباقة إلى ذلك. وقد قبلت بتبعيتها له و بأن تتولى مهمة مطاردة الثوار، و أن تأخذ على أيديهم و ان تضربهم، و في مرحلة مابعد الاستقلال عمقت خطّها و أكدت نهجها و مقتل عدنان المالكي و غسان جديد يدل على عمق العداء، و كذلك السياسات الانقلابية التي جاءت بعد و كلها مرتبط بالأجنبي و تابع له.
السبب الثالث – يتعلق بالمناطقية الحزبية:
وقد كان فرس الرهان في هذه المسألة الحزبان العتيدان – يومئذ – حزب الشعب و الحزب الوطني اللذان انشغلا بسياسات متضادة، و بشغل المناصب الرسمية في الدولة السورية، مع عدم إدراك حقيقة الموقف في سورية بعامة، و بصورة خاصة الأقليات و ما تتمخض عنه من مشكلات؛ بل كان حضورهم و سياساتهم بمثابة المخدر الموضعي، الذي أبقى النخب السورية بعيدة عن التصرف تجاه قضاياها الحقيقية و منها مواجهة السياسة الطائفية و حل مشكلة الأقليات بما يخدم الوطن و المواطن.
السبب الرابع – يتعلق بالشخصانية الشللية:
مع أن ظاهرة الشخصانية الشللية يمكن أن تعد بمثابة المرض الأخطر في العالم الثالث كله؛ إلا أنها قد تكون أكثر ظهورا في سورية. وقد لازمت المثقف السوري و جعلته أكثر جدلا! و دليلنا عليه كثرة المكونات السياسية و كثرة الانشقاقات التي تتعرض لها، فضلا عن كثرة الخلاف سيما بين العسكر وقد أدى بهم إلى الوقوع في حمى الانقلابات، و في الصراعات التي أفقدت البلد خصوصياته الحضارية، وقدمته لقمة سائغة للطائفيين، و لأصحاب المطامع الدولية من أوربيين و صهاينة.
السبب الخامس: يتعلق بدونية التصرف في الموقف و الفكرة:
(الموقف و الفكر) هما من النتاجات الشخصية التي تسمو بصاحبها إلى عليين، أو ترده إلى أسفل سافلين. و الدونية خصوصية القاصر و العاجز و المهزوم بعامة. و لما كانت سورية خلال قرون قد فقدت خصوصيتها الحضارية فقد انجذبت نخبها المثقفة إلى تلك الدونية، و إذا بها تفكر طائفيا، و أقليا، و مناطقيا، و بأنماط دخيلة و مستوردة، أو تابعة أو هجينة أو شخصانية جدا فتحسب على زيد أو عمرو من الناس، أو تقبع في كوخها الشخصي لتجترّ أحلامها. و لتوزع أفكارها على أمثالها من المعوقين و صورة ذلك قيل ماقيل عنها فهي التي قتلت الموهبة و أعاقت الفكرة، و أجهضت الفعل، و أرخصت الموقف، و قدمت الوطن و المواطن لقمة سائغة لأعداء الوطن و المواطن، في سورية العربية المسلمة!!!
أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى
رئيس وحدة الدراسات السورية
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 759