أجواء صفي
عندما توظفت، حذرني بعض مدراء المدارس وقد عرفوا أني أتكلم مع الطلاب باللغة العربية قائلين:
احفظ المسافة بينك وبين الطالب، إن تقربت إليه، أساء إليك؛ وقلّ احترامك في الصفوف، ولن تتوفق في إلقاء الدروس بالطريقة المطلوبة.
لكنني رغم الحذر والنهي، كلمتهم بلغتهم و(لغتي)؛ وكانت النتيجة عكس ما يحذرون. فلم أجد إلا الاحترام والتقدير والود.
بل وكونت مع بعض طلابي صداقات استمرت وتطورت إلى زيارة بيتي وبيوتهم.
كنت وما زلت ألقي الدروس باللغة الفارسية، لكنني أكلمهم بين الدروس وفي حصص الاستراحة بلغتنا العربية.
علما بأن اللغة الرسمية في مدارس الأهواز هي اللغة الإيرانية الفارسية، والكتب التي ندرسها طبعت بهذه اللغة.
وقد طالب الأهوازيون منذ عقود بمدارس عربية، فلم يُـلبّ طلبهم.
ويعانى معظم أطفال الأهواز في المرحلة الابتدائية كثيرا حتى يتعلموا اللغة الفارسية (الرسمية).
وأما طلابي وقد اجتازوا الابتدائية والمتوسطة، وهاهم في المرحلة الإعدادية؛ فقد تعلموا الفارسية كلاما وقراءة وكتابة إلى حد ما.
وإليكم أجواء صفي اليوم، وعادة في كل يوم:
الحصة الأولى من دوامي كانت مع الصف الرابع فرع (التجربي).
سلمت عليهم وبدأت أقرأ أسماءهم الأربعة والعشرين لأتفقد الغياب وأدون أسماءهم.
كان عدنان راجعا من زيارة كربلاء، وعندما وصلت إلى اسمه رفعت صوتي:
(زائر عدنان الرعيدي)
وانفجر الصف من الضحك.. وعدنان معهم.
أين كنت يا عدنان وقد تأخرت عن دروسك؟! .. وصمت عدنان.
أعرف طلابي وما يزعجهم، وما يسرهم؛ كنت أدري أن عدنان لا يؤذيه مزاحي.
وبدأ الدرس بمعادلات المثلثات.
وبعد مثال أو مثالين، وعندما كانوا يدونون ما كتبته على السبورة البيضاء،
سألني أحدهم: ألا تذهب إلى كربلاء؟
أجبت على سؤاله بسؤال: أذهب لماذا؟!
قال: للزيارة.
سألته: وصفوفي؟!.. أأعطلها؟!
وتابع طالب آخر: أستاذ، يقال أن الطعام متوفر في امتداد الطريق وبالمجان.
وختمت الموضوع: أيها السادة، الدوام لا يُعطل بحجة الزيارة، ولا بحجة السفر، ولا بحجة الطعام الوفير حتى لو كان بالمجان.
هناك عطلة صيفية تمتد إلى شهور، يمكنكم في تلك العطلة أن تسافروا وتتفسحوا وتزوروا أينما شئتم.
وفي هذه الأيام وقد أصبحت زيارة كربلاء لها موسم خاص، وكأنها فريضة الحج التي يجب أن تؤدى في شهر ذي الحجة دون غيره، يذهب كثير من موظفي الدائرات والمعلمين إلى العراق ويتركون وظائفهم وصفوفهم لمدة لا تقل من أسبوع.
والبعض يذهب مشيا لتطول مدة زيارته بل تجواله لأكثر من أسبوعين.
وتبقى الكراسي شاغرة من شاغليها، والوظائف معطلة، والأعمال مؤجلة، حتى يعود الزوار!
وأرجع إلى صفي وأجوائه...
وكان الهواء حارا بعض الشيء، فطلب أحدهم من الثاني الذي كان يجلس جنب الشباك: افتح (الپنجره)!
فاعترضه أكثر من طالب: قل الشباك. (وهم ينظرون إلي وتعلو وجوههم ابتسامة).
كنت قد ذكرتهم أكثر من مرة أن يتكلموا بالعربية الصحيحة فيما بينهم،
ولهذا تراهم يذكر بعضهم البعض إذا ما استخدموا كلمة فارسية في كلامهم.
قل: دق الجرس.. ولا تقل طگ الزنگ.
قل: قلم جاف.. ولا تقل خودكار.
وهلم جرا...
واستمر الدرس، ونهضت لأمسح السبورة، فصاح أحدهم:
عفوا يا أستاذ ومهلا، لم أكمل الكتابة بعد.
قلت: طيب، امسحها أنت متى ما أكملت.
فجاء يمسح السبورة بعد هنيهة، ولمحت في يده خاتما كبيرا ذا فص بني، فقلت في شيء من الجد والفكاهة:
أتدري لماذا تبطئ في الكتابة؟
قال: لماذا؟!
قلت: الخاتم هو السبب، هذا المحبس الكبير يثقل يدك..فضحكوا.
وخاطب أحدهم تلميذا فارسيا مازحا: أيها الفارسي اعطني دفترك.
فقال آخر وباللغة العربية: لا للعنصرية.
خاطبته: اكمل.. لا للعنصرية ونعم للقومية.
وبين لغة الدرس الفارسية والحوار العربي، دق الجرس وودعتهم، وخرجت من الصف لأكمل الحديث مع زملائي المدرسين في حصة الاستراحة.
وسوم: العدد 761