قراءة في معركة الغوطة، لماذا غوطة دمشق ؟

أكثر من ألف شهيد في غوطة دمشق الشرقية، ولاتزال الأعداد بارتفاع مستمر، جراء المجزرة المتواصلة منذ الثامن عشر من شباط فبراير الماضي، في ظل خذلان كامل للمنظومة الدولية، التي بدت أعجز ما تكون عن اتخاذ قرار جديّ، أو تنفيذ ما تم اتخاذه من قرارات، بخاصة الأخير منها والذي يحمل الرقم 2401، والذي طالب بوقف إطلال النار لمدة شهر دون أن يتم تحقيق ذلك بالطبع.

ومن أجل الإجابة عن سؤال لماذا الغوطة؟ لابد لنا من معرفة السبب الحقيقي وراء كل هذا الحقد على الغوطة الشرقية. وهنا تكمن القصة.. قصة تاريخ وحاضر ومستقبل. نحاول من خلال هذه المادة أن نسلّط الضور عليها، علّنا نوفّق في أن نوصل الفكرة بسيطة إلى القارئ، والتي من وراءها تكمن القضية بما فيها من تعقيدات، أو لنقل مخططات.

لقد كان يوم الخامس والعشرين من آذار مارس من العام أحد عشر وألفان، والذي شهد خروج أول مظاهرة في مدينة دوما – عاصمة الغوطة الشرقية – وخزانها البشري الأكبر، كان علامة فارقة على مستوى الثورة السورية، أصاب بها نظام الأسد في مقتل، كيف لا وقد تداعت بعد ذلك التاريخ مدن وبلدات الغوطة واحدة إثر الأخرى إلى الثورة مقبلة غير مدبرة. فيما كان لها الأثر الأكبر في تشجيع المناطق الأخرى على الأرض السورية للخروج على النظام وكسر حاجز الخوف.

لم يكن خروج الغوطة على النظام مجرد حدث عادي، إنما شكّل رمزاً مهماً، لاعتبارات عديدة منها الجغرافية، حيث تفصلها عن قلب العاصمة كيلومترات عدة، ناهيك عن تاريخ الغوطة المعروف في مقارعة الظلم والاستبداد. حيث كان هذا الحدث البارز والخطير، كفيلاً بأن يضع الغوطة الشرقية بمدنها وبلداتها – منذ البداية – تحت مجهر النظام بأذرعه العسكرية والأمنية، لما تشكله من خطورة مباشرة على دمشق، المعقل الأهم لبقاء النظام السوري.

لكن علينا أن نعرف أن حقد النظام السوري الطائفي على الغوطة لم يكن وليد ما آلت إليه الأحداث إبّان الثورة السورية فقط، إنما هو حقد دفين مرتبط بالعديد من الأسباب الأيديولوجية، والديموغرافية، والتاريخية.

التركيبة السكانية في الغوطة :

عجز نظام الأسد الأب والابن طوال ما يزيد على الأربعين عاماً أن يخترق الجدار المنيع للغوطة، ونعني هنا التركيبة السكانية التي تنمتي بغالبيتها العظمى إلى المكوّن العربي السني، والذين يعود أصلهم إلى العرب الغساسنة، بالإضافة لقلّة قليلة من العرب المسيحيين. هذا الجدار الذي لطالما لعب دوراً ريادياً هاماً فيما يتعلق بالأحداث التي تجري في دمشق ومحيطها خاصة والمنطقة عامة على مرّ التاريخ قديماً وحديثاً.

من المعروف أن التركيبة السكانية في الغوطة الشرقية تتميز ما بين الالتزام الذي يظهر واضحاً في مدينة دوما، وما بين الاعتدال في باقي المناطق، ما جعل اختراق هذه البيئة المترابطة المتماسكة صعباً لدرجة كبيرة، وهو ما ظهرت نتائجة جليّة خلال أعوام الثورة السورية المستمرة حتى اللحظة.

وإن كان النظام نجح إلى درجة ما بجلب الشيعة للاستيطان في منطقة السيدة زينب والتي ينتمي سكانها الأصليون إلى العرب السنة فقط، لكن نجاحه لم يتعدى منطقة جغرافية ضيقة محدودة.

التركيبة الديموغرافية في الغوطة تختلف لدرجة كبيرة عما نجده في العاصمة، حيث أن تركيبة سكان دمشق تتوزع ما بين عرب مسلمين سنة، وقلة من الشيعة، ومسيحيين، بالإضافة إلى مكونات أخرى ذات أصول كردية وتركية. ناهيك عن نسبة سكانية كبيرة أتت من الساحل السوري خلال حكم الأسد الأب والابن، لتتخذ من دمشق سكناً لها توزعت في مختلف المناطق في العاصمة وفي أحياء مفصلية لعبت بعد الثورة  دورها التي صمّمت من اجله.

إن وحدة وتماسك المجتمع في الغوطة كان له أثره في الذود عن دمشق على مدار التاريخ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الدور الذي لعبه ثوار الغوطة ضد الاستعمار الفرنسي، حيث استعصت الغوطة بثوارها على الفرنسيين طيلة فترة الاستعمار، وكانت ملاذاّ للثوار من خارج الغوطة أيضاً.  فالتاريخ على مدار تقلباته يشهد للغوطة وقفاتها ضد المحتلين والغزاة. هذا التاريخ الذي ظهرت نتائجه منذ بدايات الثورة الأولى والتي كانت الغوطة أحد أهم أركانها.

وأد الثورة بالغوطة :

في شهر تموز يوليو من العالم اثنا عشر وألفين، وصل الثوار إلى محيط ساحة العباسيين في العاصمة دمشق، ودارت اشتباكات عنيفة بينهم وقوات النظام السوري، لكن الفرحة التي انتظرها السوريون كثيراً لم تتم، فتراجع الثوار أو أريد لهم أن يتراجعوا، لأسباب كانت مجهولة وقت ذاك، فيما هي واضحة اليوم.

إن وصول الثوار إلى ساحة العباسيين كان دليلاً واضحاً على قوة الثورة – التي كانت في أوجها في ذلك العام – وضعف النظام التي كان يتراجع في مختلف المناطق على التراب السوري. ومن هنا بدأ العمل اقليمياً ودولياً على العمل بشكل فعلي من أجل السيطرة على الثورة السورية، والتي كان سيؤدي انتصارها - فيما لو تم - إلى خلط الأوراق وقلب موازين القوى على مستوى العالم أجمع.

شيئاً فشيئاً بدأ المال السياسي يدخل بقوة على ساحة الثورة، ومناطقها الأكثر خطورة على النظام، لتنتهي العملية بشراء الولاءات بالمال والسلاح وتصفية الشرفاء أحياناً. تلك الولاءات التي طعنت الثورة السورية في مقتل.

وبعد أن بدأ نجم "جيش الإسلام" وهوالفصيل الأكبر في الغوطة ينمو ويتمدد على حساب الفصائل الأخرى، والذي أوقف العمليات الهجومية من جانب الثوار، كان أن استتب الوضع على حال بقي على ما هو عليه من انكسار وتراجع، مع حفظ ماء الوجع في مواجهات ومعارك لا تغني الثورة  ولا تهدف إلى إسقاط النظام، حيث أن الداعم – المعروف للجميع – بات هو المقرر وعلى من في الأرض التنفيذ، فيما بات نجم الثورة يخبو بينما تتساقط المناطق واحدة تلو الأخرى، دون أن يحرك "جيش الإسلام" ساكناً.

فسطاط المسلمين ونبوءات قم :

"إن فُسْطَاطَ المسلمينَ يومَ المَلحَمَةِ بالغوطةِ. إلى جانب مدينةٍ، يقال لها: دمشقُ مِن خيرِ مدائن الشام" بهذا النص وصف الرسول صلى الله عليه وسلم غوطة دمشق، وهذا دليل كاف لما للغوطة من أهمية روحية لدى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم. أهمية لا تقتصر فقط على المسلمين، إنما تتعداها إلى الأديان السماوية الأخرى من مسيحية ويهودية والتي تؤمن بحتمية المعركة الفاصلة في آخر الزمان.

هذا فيما كان للايرانيين رأي آخر برز عبر "لطمية" ظهرت في أيار مايو من العام ثلاثة عشر وألفين تقول:

" قدح من درعا الشرر .. وخصم مهدينا ظهر .. ومن حرستا ننتظر أول علامة"

لتكون هذه اللطمية إيذاناً علنياً بحرب طائفية سخرت لها إيران حرسها الثوري بالإضافة إلى شيعة العراق وباكستان وأفغانستان، فضلاً عن حزب الله اللبنان. جاء هذا بالتزامن مع إطباق النظام السوري حصاره على مدن وبلدات الغوطة الشرقية والذي لا يزال قائماً حتى تاريخ كتابة هذه المادة.

لماذا الآن :

وهل أفضل من هذا الوقت لاتمام مشروع استعصى طيلة سنوات الثورة؟ فمجلس الأمن معطّل بالفيتو الروسي، كما هو ظاهر.فالولايات المتحدة وأوروبا ليست في وارد وضع حد لهذه المأساة. والتفاهمات الاقليمية والدولية تجري على قدم وساق. فمصر استقر فيها الحكم للجيش والأمن، والخليج العربي يعيش أسوأ أيامه في أزمة الأشقاء، والتي كان لها انعاكسها الخطير على الثورة السورية. وحرب اليمن أنهكت السعودية دون تحقيق النتيجة المطلوبة. والثورات المضادة للربيع العربي حققت تقدماً بفعل دعم المال العربي الإماراتي. وداعش فعلت فعلها طلية سنوات أنهكت الثورة وقتلت الثوار. والأكراد يسيطرون على أجزاء واسعة في الشرق بدعم أمريكي غربي. فيما قرار وقف الدعم عن الثوار قد اتخذ مسبقاً، والولااءات للخارج باتت تتحكم في الفصائل العاملة على الأرض.

فبعد كل هذا، وغير الكثير، ألا يحق لبشار الأسد أن يرتكب المجازر ويفعل الأفاعيل دون وازع أورادع، بعد أن أمن أي رد فعل من "المجتمع الدولي" المشارك بطريقة أو بأخرى فيما يجري.

سورية المفيدة :

في أواخر أيلول سبتمبر عام خمسة عشر وألفين، طرح رئيس النظام السوري بشار الأسد مصطح "سورية المفيدة"، وذلك بالتزامن مع التدخل الروسي في سورية، والذي منع سقوط النظام السوري حيث كان سيسقط خلال أسبوعين بحسب تصريح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.

إن "سورية المفيدة" التي يعنيها النظام، تمتد من دمشق ومحيطها بمروراً بالحدود اللبنانية وخاصة منطقة القلمون، إلى حمص فالساحل السوري، والتي تحقق بدورها الفائدة والمصالح لكل من بشار الأسد ومن وراءه الطائفة النصيرية "العلوية"، بالإضافة إلى المصالح الإيرانية والروسية.

فالطائفة التي ينتمي إليها بشار الأسد قدمت عشرات الألوف في سبيل البقاء على رأس الحكم في سورية، مستفيدة من الامتيازات التي حصلت عليها طيلة أكثر من أربعة عقود، وهو ما لن تتنازل عنه حتى لو استدعى ذلك إلى تقسيم البلاد.

في حين تسعى إيران إلى إعادة بناء امبراطوريتها الفارسية والوصول إلى البحر المتوسط مشكّلة هلالها الشيعي، وهو ما قالته بشكل واضح أكثر من مرة على لسان كبار مسؤوليها، فالأولوية لها إبقاء ذلك الخط الممتد من طهران مروراً ببغداد فدمشق وبيروت.

أما الروس فإن سورية المفيدة ستحقق لهم كل ما يريدون، سواء من خلال منع خط الغاز القطري من الوصول للبحر المتوسط عبر سورية ومنها إلى أوروبا، أو عبر السيطرة على سورية والتي كشفت التقارير عن حجم احتياط الغاز والبترول الهائل الموجود سواء في منطقة القلمون أو على طول الساحل السوري، ما يجعلها تتربع على واحد من عروش إنتاج الغاز والنفط مستقبلاً. وقد حصلت روسيا على مبتغاها بالعقود الحصرية طويلة الأمد، بالإضافة إلى تمكين وجودها الوحيد في المياه الدافئة في المتوسط عبر قاعدتين عسكريتين في كل من طرطوس وحميميم، واللتان تشكلان خط دفاع روسي متقدم ضد أوروبا.

بناء على هذا ومع انخماد نار الثورة في ريف دمشق والمناطق القريبة من العاصمة، عبر الهدن والمصالات أوالترحيل إلى إدلب، لم يبق أممام النظام ومن وَراءه إلا الغوطة الشرقية التي تحوي آلاف المقاتلين، حجر العثرة الأكبر في سبيل تحقيق المصالح التي تحدثنا عنها آنفاً.

التغيير الديمواغرافي :

ما قبل الثورة، كانت داريا مدينة تعج بالحياة لما يزيد عن ثلاثمائة ألف من المواطنين، غالبيتهم العظمى من العرب السنة، بالإضافة إلى المسيحيين، أما الآن فهي مدينة خاوية على عروشها إلا من بقايا أبنية محطمة، بعد أن شهدت أخطر عملية تهجير جماعي في سورية.

أما الغوطة الشرقية فقد كانت تقترب من المليون نسمة من السكان، فمدينة دوما لوحدها يزيد سكانها على الخمسمائة ألف نسمة، ناهيك عن السكان المتواجدين في العشرات من المدن والقرى والبلدات، بقى منهم الآن حوالي أربعمائة ألف نسمة، يتناقصون يومياً بالتزامن مع ارتفاع عدد الشهداء إما قصفاً أو جوعاً.

فالتغغير الديمواغرافي جار على قدم وساق منذ بدايات الثورة، خاصة في محيط دمشق وريفها وحمص، أي "سوريةالمفيدة"، والخطر المحدق الآن هو تلك الدعوة – وبحجة حماية المدنيين – إلى إفراغ الغوطة من سكانها، في أكبر عملية تهجير عرقي وتغيير ديمواغرفي في المنطقة والعالم منذ عقود.

ماذا لو سقطت الغوطة :

إن إسقاط الغوطة الشرقية عبر إخضاعها للنظام السوري وتسليم السلاح أومغادرة الثوار وعائلاتهم، كما جرى في الكثير من المناطق، يعدّ إسقاطاً للثورة السورية التي لا تزال تأمل خيراً في الإبقاء على واحد من أهم حصون الثورة على مقربة من معقل النظام في العاصمة.وذلك لما للغوطة من أهمية تكاد تنفرد فيها لموقعها الجغرافي عن باقي مناطق سورية.

فإسقاط النظام وانتصار الثورة لن يكون إلا عبر بوابة الغوطة التي تشكل خزاناً ثورياً جاهزاً مدرباً، كما إن بقاء الثوار في الغوطة يشكل ورقة ضغط قوية حتى على صعيد الدفع لحل سياسي.

وعلى هذا فمسؤولية دعم الغوطة الشرقية تقع على جميع كتائب الثوار في مختلف المناطق داخل سورية، وأيضاً تقع على من يريد من القوى الاقليمية أو الدولية فرض حلّ ينهي المأساة الإنسانية المستمرة منذ سبع سنوات.

وسوم: العدد 763