غرفة تعذيب اسمها سوريا… وحياد أممي فاضح
استعاد نظام بشار الأسد، ذكرى انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية السلميّة ضدّه في آذار/مارس من عام 2011 بمنهجيته المعتادة: تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي بوقف فوري لإطلاق النار عبر اجتياح الغوطة الشرقية لدمشق، وكانت آخر أفعاله قصف سوق شعبي في الغوطة الشرقية المحاصرة والمجوّعة والمتعرضة للاجتياح حالياً، مما خلّف عددا كبيراً من جثامين الأبرياء المحترقة، وإعدامات ميدانية لمئة شخص في بلدة حموريّة التي احتلها قبل أيام، ثم استخدم أهاليها دروعاً بشريّة لصدّ هجوم معاكس للمعارضة، فيما تعرض وسائل إعلامه صور آلاف المدنيين الجوعى يخرجون من أراضيهم وبيوتهم مهزومين، في متابعة حثيثة لمقتلته الكبرى التي بدأها في درعا وانتقلت إلى بانياس وحماه وحمص، ثم تمدّدت إلى كافّة أنحاء سوريا.
الأمم المتحدة، التي تراقب، عبر مبعوثيها ومنظماتها والناطقين باسمها، تفاصيل الكارثة السورية، تابعت بدورها تقاريرها المخيفة عن أحوال تلك البلاد: قوات «الحكومة» السورية والميليشيات المتحالفة معها تستخدم الاغتصاب والاعتداء الجنسي على النساء والفتيات والرجال لمعاقبة المناطق المعارضة، والأطفال خصوصاً هم ضحايا «جرائم حرب»، وأن البلاد صارت كلها «غرفة تعذيب ومكانا للرعب الوحشي والظلم المطلق»، وأن النظام السوري يخطط لما يشبه «نهاية العالم»، وتنهي كل ذلك بتبشير السوريين بأن المحنة السورية في عامها الثامن ستشهد «معارك طاحنة».
لكن باستثناء هذه التصريحات المرعبة للمنظمات التي تمثل الشرعية الدولية فإن العالم، وأدواته الفاعلة، كمجلس الأمن الدولي، والمنظومة الدولية عموما، مستنكف تماماً عن أي محاولة للتدخّل لوقف المجازر، فيما يطلق أقطابه كل فترة تحذيرات للنظام من استخدام النظام للأسلحة الكيميائية (التي لم يكفّ طبعا عن استخدامها) في خذلان عجيب لملايين السوريين الذين تُركوا ليواجهوا نظاماً وحشيّاً، مدعوماً بآلة القتل الروسية التي جعلت سوريا ميدانا لتجريب أسلحتها والتفاخر بفاعليتها وتسويقها تجارياً، وبميليشيات إيران المتعددة الجنسيات، التي تعتبر ما يحصل تكريساً لنفوذها الكبير في المنطقة العربية.
استدعت هذه المحنة المستمرة أسئلة ممضّة للسوريين، وخصوصاً بعد انتشارهم الكبير في المنافي وتنامي التيارات العنصرية الكارهة للمهاجرين والمسلمين منهم خصوصا، عن سبب تكاثر السكاكين عليهم، وإذا غضضنا طرفاً عن الموالين الذين نزعوا عن المدنيين إنسانيتهم ورحّبوا بأعمال الإبادة، لوجدنا حلفاً عجيباً يجمع بين أيديولوجيات متخاصمة نظريا، فيجتمع في تأييد نظام الأسد وإبادة شعبه بعض مدّعي المقاومة والممانعة العرب، مع ميليشيات تابعة لإيران، مع تيارات العنصريّة الفاشية الغربية الكارهة للإسلام، مع اليسار الستاليني.
بعض أنصار الثورة أعادوا، في هذه المناسبة، تأكيد وفائهم لفكرة الثورة رغم الكارثة المديدة على الجغرافيا السورية، والهزائم الكبيرة التي تعرّضت لها، وتحوّل بلادهم إلى مركز صراع إقليمي ودولي بالوكالة، وتراجع التيارات الديمقراطية والمدنية أمام مدّ السلفيّة والجهادية المسلّحة، التي ضيّقت بدورها على سكان المناطق المحررة من النظام، وكثيرون منهم انهمكوا في لوم العالم، والعرب، وبعضهم البعض، فانهمر اللوم على التيارات الإسلامية، وعلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة وعلى المثقفين، بل إن البعض انشغلوا بلوم الشعب نفسه، وذمّ هويتهم العربية والإسلامية وثقافتهم ودينهم، في حالة تدمير ذاتي ناتج عن الإحباط أو الألم والمرارة.
البعض الآخر طالب بمراجعة لمفاهيم متجذّرة، كالوطنيّة السورية نفسها، التي انقسمت شر انقسام على أسس طائفية وإثنية، بعد أن امتهنها النظام شرّ امتهان، بتحوّله إلى مطيّة للقوى الأجنبية ضد شعبه، وهو ما حوّله، بالنسبة للسكان أنفسهم، وللعالم، إلى جيش احتلال أجنبيّ وحشيّ يدافع عن طغمة كاسرة دمّرت البلاد وباعت مستقبل الشعب وأراضيه للحفاظ على السلطة.
لقد فتحت المحنة أبواب الجحيم على السوريين، لكنّها فتحت أيضاً نافذة الوعي الحادّ بإشكاليات العالم كله، والوعي هو جزء من حلّ المشكلة.
غرفة تعذيب اسمها سوريا… وحياد أممي فاضح
رأي القدس
وسوم: العدد 764