على أصحاب ما يسمى بالتيار الحداثي أن يريحوا أنفسهم بإعلان البراءة صراحة من الانتماء إلى الإسلام
على أصحاب ما يسمى بالتيار الحداثي أن يريحوا أنفسهم بإعلان البراءة صراحة من الانتماء إلى الإسلام ولا يتعبوا أنفسهم بالخوض في قضاياه
كثرت في الآونة الأخيرة الفقاقيع الإعلامية لما يسمى بالتيار الحداثي المستهدفة للإسلام بشكل أو بآخر. ويخوض أصحاب هذا التيار في بعض قضايا الإسلام عن جهل واضح بها ، ومع ذلك لا يدخرون جهدا في ادعاء امتلاك علم ومعرفة وخبرة بها لم يكن عند من كان قبلهم ، كما أنه لا دراية بها لمن يعاصرهم من الإسلاميين ، ويفعلون ذلك باستعلاء، وهم يركبون غرورهم . وقد صرنا اليوم أمام أصحاب تيار يدوسون بكل واقحة على تراث فكري إسلامي ضخم تمت مراكمته عبر قرون ، وهم يشككون فيه ، ويسخرون منه ، ويستنقصون من قيمته وشأنه عبر خرجات إعلامية متهافتة وتافهة .
وواضح أن أصحاب هذا التيار يريدون إثبات وجودهم بكل الطرق ، وهم من القلة بمكان في مجتمع متدين عبر قرون، وذلك عن طريق حشر أنوفهم في قضايا الدين التي لا يميزون فيها بين كوع وبوع ،لأنهم يحلمون بتغيير هذا المجتمع من خلال صرف أهله عن تدينهم انطلاقا من بعض الممارسات للوصول بهم في نهاية المطاف إلى نبذ الدين جملة وتفصيلا في حياتهم، وجعله ظهريا . ولا يمكن أن يحقق أصحاب هذا التيار الحداثي وجودهم إلا باتخاذ قضايا الإسلام مطايا يركبونها محاولين نسف مقوماته لخلق فراغا لتحل محله حداثتهم المستوردة من عالم غربي يريد تسويق وعولمة قيمه التي يضفي عليها صفة الكونية للتضخيم من شأنها ، لأنه عالم لم يعد يرضى بوجوده داخل حدوده الجغرافية بل صار يعتبر نفسه مالكا للكون برمته ، وصاحب الحق في تدبير شؤونه، والوصي على كل من فيه وما فيها .
وليس من قبيل الصدفة أن ينفخ أصحاب التيار الحداثي فقاقيعهم الإعلامية في هذا الظرف بالذات ،ومباشرة عقب ثورات الربيع العربي التي فاجأت الغرب الحداثي العلماني حين عبرت شعوب العالم العربي عن رغبتها وإرادتها في محاربة أنظمة فاسدة سلطها عليها هذا الغرب ليستحوذ على مقدراتها وثرواتها ، وليتحكم في رقابها ، وليواصل فرض وصايته عليها . ومما أفرزته هذا الثورات رهان الشعوب العربية المسلمة على الإسلام كبديل عن إيديولوجيات الأنظمة الفاسدة المنهارة ،و التي لم تعد بطائل على هذه الشعوب لعقود من السنين بعد استقلالها وتحررها من أشكال الاحتلال الغربي الذي غزا أراضيها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين . ومن مظاهر الرهان على الإسلام كحل للتخلص من وضعية ما بعد النكبة ،وما تلاها من نكسات فوز الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في بعض البلاد العربية بعد ثورات أو حراكات الربيع العربي . ولقد كان وصول بعض هذه الأحزاب إلى مراكز صنع القرار عبر صناديق الاقتراع مصدر قلق كبير في الغرب الذي يرى فيها تهديدا مباشرا لمصالحه في العالم العربي الذي يعتبر بمقدراته وثرواته بمثابة بقرة حلوب بالنسبة إليه . واختلق الغرب ما صار يسميه " الإسلام السياسي " واتخذه عدوا يحاربه بعدما مهد لتشويه الإسلام عن طريق تجنيد عصابات إجرامية تمارس الإرهاب والقتل باسمه ، وبثها في بعض بؤر التوتر في الوطن العربي لتبرير تدخله فيه تحت ذريعة محاربتها ، ولإيجاد صلة بيينها وبين ما يسميه الإسلام السياسي الذي هو في نظره تلك الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية التي وصلت إلى مراكز صنع القرار عن طريق اللعبة الديمقراطية التي يعتبر الغرب وصيا عليها ، ولا يقبل بغيرها وسيلة للوصول إلى مراكز صنع القرار . و هكذا تأتى للغرب الربط بين ما تقوم به العصابات الإجرامية التي صنعتها مخابراته، وبثتها في بؤر التوتر في العالم العربي ، وبين الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية بذريعة أنها وتلك العصابات تنهل من نفس المنهل الذي هو الإسلام . وتحرك الغرب من خلال أوعن طريق أنظمة عربية ممولة للإجهاز على كل التجارب الديمقراطية التي جاءت عقب ثورات الربيع العربي ، فكان الانقلاب العسكري على الشرعية والديمقراطية في مصر ، وكانت انقلابات انتخابية في غيرها من البلاد العربية ، وكان تحويل الثورات والحراكات إلى فوضى عارمة ، وإلى صراعات طائفية مدمرة للإنسان والبنيان. وموازاة مع تلك الانقلابات أعدت انقلابات فكرية يسوقها الإعلام الحداثي المأجور ،وقد وكّل بها أصحاب التيار الحداثي في الوطن العربي الذين انبروا لقضايا الإسلام يخوضون فيها عن جهل وعن سبق إصرار لزعزعة ثقة الشعوب العربية المسلمة في دينها ،ولتشكيكها في قدرة هذا الدين على إخراجها من وضعية ما بعد النكبة والنكسات المزرية سياسيا واجتماعيا واقتصاديا . ولم يكن مجيء الإدارة الأمريكية الحالية صدفة بل كان الأمر مدروسا ومحسوبا سلقا ، ومخططا له للإجهاز على ثورات الربيع العربي وما أفرزته من تداعيات مقلقة بالنسبة للغرب ، وللعودة بالشعوب العربية إلى وضعية أسوأ مما كانت عليه قبل ربيعها عن طريق دعم الأنظمة الفاسدة بقوة ، والتي كانت مهددة بالسقوط إبان ثورات الربيع العربي. ولم تجد الإدارة الأمريكية حرجا في إعلان القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، كما أنها فرضت على الأنظمة العربية التطبيع مع هذا الكيان ، وقبول احتلاله كأمر واقع لإنهاء القضية الفلسطينية نهاية سعيدة بالنسبة لهذا الكيان على حساب حق الشعب الفلسطيني في الوجود والاستقلال.
ففي هذا الظرف بالذات انبرى أصحاب ما يسمى بالتيار الحداثي لإثارة نقاشات بيزنطية لقضايا الإسلام ، وفي ظنهم واعتقادهم أن الأمة العربية المسلمة قد صارت مؤهلة لقبول الوضع الجديد الذي أراده لها الغرب بقيادة الإدارة الأمريكية التي تحرص على ضرب الحديد مادام ساخنا كما يقول المثل المغربي . ومعلوم أن الغرب يقف وراء هذه الفقاقيع الإعلامية الحداثية المستهدفة للإسلام طمعا في استئصاله من الوطن العربي لأنه في نظره هو حجر العثرة الذي يحول دون تحقيق ما يصبو إليه الكيان الصهيوني من ترسيخ وجوده في قلب العالم العربي ، ومن توسع وتمدد لخدمة مصالح الغرب الذي يتباه ويؤيده ويدافع عنه ، ويضع كل إمكانياته رهن إشارته لدعمه .
ويعتبر الخوض الإعلامي الحداثي المغرض في قضايا الإسلام لزعزعة ثقة أهله فيه سلاحا فكريا يوظف لخدمة الأجندة الغربية التي باتت مكشوفة . ومن المتوقع أن تعقب هذه الحملة الإعلامية ردود فعل مضادة قوية في الوطن العربي بعدما تجاوز التيار الحداثي خطوطا حمراء من خلال المطالبة بالمساس بثوابت الأمة المنصوص عليها في دستورها ،وعلى رأسها الدين الإسلامي التي يعتبر القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة المتحدثين الرسميين باسمه ، ولا حق لغيرهما في الحديث باسمه ، ولا حق للحداثيين في تأويلهما وفق أهوائهم لخدمة الأجندة الغربية . وعلى هؤلاء الحداثيين أن يريحوا أنفسهم بإعلان براءتهم من الإسلام صراحة لأنه لا وجود لإسلام آخر يكون على مقاسهم ووفق أهوائهم وأمزجتهم .
إن منطق الحداثيين اليوم كمنطق قوم نبي الله شعيب عليه السلام الذي سجله القرآن الكريم في قوله تعالى : (( قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء )) ،فلسان حال الحداثيين ومقالهم أيضا اليوم هو : " أصلاتك يا محمد تأمرك أن نترك القيم الغربية الكونية أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " . ومع أنه لا أحد يجبرهم على ارتياد المساجد للصلاة ، أو يمنعهم من الإفطار في رمضان داخل بيوتهم ، أو يكشف عن أرصدتهم المالية ليقدر ما يجب فيها من زكاة ، أو يحضر قسمة أنصبتهم في الميراث ، أو يبحث في صحة عقود نكاحهم ، أو يبحث في علاقاتهم الجنسية الرضائية أو المثلية ...أو غير ذلك مما ينادون به ، فهم يتمتعون بكامل حريتهم ، ولا تنقصهم سوى الشجاعة لإعلان ردتهم بشكل صريح لا غبار عليه ، وهو ما سيخلصهم من وجع الرؤوس الذي يسببه لهم الخوض في قضايا الإسلام لتطويعها فتصير مسايرة لأهوائهم الحداثية العلمانية .
ولا أحد يواجههم بضرورة انتمائهم إلى لإسلام بل هم من يحاولون فرض إرادتهم على الذين يدينون بدين الإسلام ، ويسفهون فهم للدين بكل استعلاء ووقاحة .
وأخيرا على الجهات الرسمية المعنية بأمر هذا الدين أن توقف هؤلاء عند حدهم ، وتمنعهم باللعب بالنار ،وأن تقدر العواقب الوخيمة لتجاسرهم عليه قبل فوات الأوان ، و قبل الندم على ذلك، ولات حين مندم .
وسوم: العدد 765