إنها حقاً أغصان الزيتون
يقال أنه بعد انتهاء الطوفان العظيم، ونجاة نبي الله نوح ومن معه من أصحاب السفينة التي استقرت على الجودي، أرسل الرسول الكريم حمامة بيضاء تكشف نبأ المياه التي غمرت الأرض، فعادت وقد تلطخت رجلاها بالطين، وفي فمها غصن زيتون، فعلم أن الأرض أصبحت بسلام، ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت أغصان الزيتون رمزًا للسلام والأمن، وأُدرجت ضمن شعارات العديد من الدول والهيئات الدولية، والجامعات العربية والإسلامية.
جعلت تركيا من غصن الزيتون شعارا لعملياتها العسكرية التي تخوضها في الشمال السوري المتاخم لحدودها، لمواجهة خطر الإرهابيين والانفصاليين الأكراد الذين يهددون الأمن القومي التركي، وحسم الجيش التركي إلى جانب الجيش السوري الحر معركة عفرين بعد شهرين من انطلاق العمليات، واستطاع طرد وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبر فرعا لحزب العمال الكردستاني الإرهابي.
دعك من كون المعركة قد رسمت علامات خيبة الأمل على وجوه الشامتين الذين سخروا من قدرة الجيش التركي على تنفيذ العملية، وأشاعوا أن عفرين ستكون "فيتنام" الأتراك.
دعك من كون هذه المعركة تمثل انتصارا على الإمبريالية الأمريكية، وخروجا صريحا على التبعية المعهودة للبيت الأبيض، خاصة وأن أمريكا تدعم الأكراد الانفصاليين، حتى أن شحنات السلاح التي أمدتهم بها أصبحت غنيمة للأتراك.
ودعك من كون المعركة قد كشفت الدعم الإيراني أيضا للأكراد، حيث عُثر معهم على أسلحة ومعدات عسكرية إيرانية بعد فرارهم من عفرين.
ودعك من كون المعركة قد أثبتت تفوق العسكرية التركية، والتي أنجزت خلال شهرين في سوريا، ما لما تنجزه دول عربية مجتمعة في اليمن ضد الانقلابيين الحوثيين.
ودعك من كون المعركة تجربة حقيقية للجيش التركي تُكسبه مزيدا من الهيبة في ظل الأخطار المحدقة بالدولة في المنطقة.
ودعك من كون المعركة قد حشدت الداخل التركي على اختلاف المشارب والتوجهات خلف معركة مصيرية تتعلق بالأمن القومي التركي، ما يؤكد على الاستقرار الداخلي للدولة التركية.
ودعك من كون معركة غصن الزيتون تحافظ على أمن تركيا التي أرهقتها العمليات الإرهابية التي تورط فيها الإرهابيون والانفصاليون من الأكراد.
إنني أتكلم في هذا المقام عما حملته معركة غصن الزيتون من أخلاقيات الحروب التي باتت غريبة في عصر الدمار.
وكما قال الشاعر:
كلٌ يدّعي وصلًا بليلى....وليلى لا تُقرّ لهم بذاكا
فالجميع يرفع أغصان الزيتون، لكن ّأكثرهم يحرقونها، فعادة الغزاة إلحاق الخراب والدمار وترويع المدنيين وقتلهم، وصدقت ملكة سبأ التي قال القرآن عنها: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة}.
الولايات المتحدة دمرت العراق وهي ترفع أغصان الزيتون وتدعي أنها تحركت من أجل السلام وإنقاذ العالم من الإرهاب.
القوات الروسية والإيرانية إلى جانب قوات الأسد، دمرت الغوطة الشرقية وهجّرت أهلها، وقامت بإحداث تغيير ديموغرافي في نطاق المناطق التي عاثت فيها فسادا.
أمامنا نموذج راقٍ للحرب من أجل السلام، تمثّل في عملية غصن الزيتون التي حملت معها السلام.
حملت السلام لحدودها وشعبها عندما تحركت عسكريا بغطاء شرعي وفق قانون الضرورة والاضطرار، لمنع قيام كيان يُهدد أمنها القومي، وهو أمر لا يستطيع إنكاره إلا جاحد معاند، وليس كالدب الروسي الذي أتى من أقصى الشرق لتقاسم الكعكة بعد تدمير سوريا، وليس كمن أرسل حرسه الثوري لإبادة الشعب الثائر نصرة لحليفه الذي سمح لحكم الملالي بأن يدير له دولته، على اعتبار أن سوريا حلقة محورية أساسية في المشروع الإيراني.
حملت السلام بمنعها تمرير مخطط تقسيم سوريا، الذي تتطلع إليه وتعمل على إنجازه القوى الأمريكية والروسية والإيرانية، وليس بخافٍ على متابع حجم التنسيق الأمريكي مع القوات الكردية في سوريا لإقامة دولة كردية موالية لها في الشمال السوري تُحكم الخناق حول تركيا وتعرض قرارها السياسي للخضوع لرغبات البيت الأبيض.
حملت السلام إلى السوريين المنكوبين، فلم تتعرض للمدنيين، ولا للمنشآت المدنية، فبدت عفرين بعد دخول القوات التركية وقوات الجيش السوري الحر، خالية من آثار الحروب والدمار إلا من بعض الخسائر المدنية البسيطة التي تكبد الجيش التركي خسائر أكبر منها.
حملت السلام إلى السوريين الذين عانوا من وطأة الإرهابيين والفوضى التي أحدثوها، فوفرت القوات التركية الحماية للسوريين الذين سرعان ما عادوا إلى عفرين بعد فرار الإرهابيين، مستبشرين بالتواجد التركي في المنطقة.
حملت السلام إلى الشعب السوري حينما رفعت المعاناة عن أهل البلدة التي طهروها من الإرهابيين والانفصاليين، وقدموا لهم المساعدات الإنسانية والإغاثية.
لقد غيرت غصن الزيتون مفاهيم الحرب على الإرهاب، وكشفت عورات قوى الظلام التي تجعل من تدمير المنشآت المدنية والمساجد والمنازل حتمية للقضاء على الإرهابيين، وتنتهج سياسة الأرض المحروقة في كل مكان تمتد إليه يدها.
يشاء الله تعالى، أن يتزامن هذا الانتصار مع حلول الذكرى السنوية لمعركة جناق قلعة، التي انتصر فيها العثمانيون على الإنجليز وحلفائهم، وردوا كيدهم عن الوصول إلى اسطنبول، وهبّ إليهم إخوانهم العرب من كل حدب وصوب، خاصة من سوريا، فها هو التاريخ يعيد نفسه، تنطلق غصن الزيتون من ذات المبادئ والقضايا العادلة والحقوق المشروعة للدفاع عن الأرض، يدعمها الأشراف من العرب الذين ابتهجوا لهذا النصر ورفرفت دعواتهم بالتوفيق فوق رؤوس أشقائهم الأتراك.
قدم الأتراك في غصن الزيتون صورة مشرفة للأمة الإسلامية، وأعادوا إلى الأذهان أخلاقيات الحروب من حيث السبب والهدف والوسيلة، إنها حقا معركة من أجل السلام وتحمل السلام، إنها حقا أغصان الزيتون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
وسوم: العدد 765