في جمهورية الخوف: مَن الذي يخاف؟!

جمهورية الخوف هذه جمهورية وراثية، يحدّها من الشمال إدارة المخابرات العامة، ومن الشرق إدارة المخابرات العسكرية، ومن الجنوب الشرقي المخابرات الجوية (الآمرية)، ومن الغرب سجن كفر سوسة، ومن الجنوب: الشعبة السياسية وفرع فلسطين... وتنغرس في شوارعها وأحيائها وضواحيها المؤسسات الأمنية والعسكرية والميليشيات الرسمية! من سرايا الدفاع وسرايا الصراع وفرسان الجبل وجمعية المرتضى وشبيبة الثورة والمظليات الثوريّات ومختلف الحثالات.

وعاصمتها الرسمية دمشق، وعاصمتها الطائفية القرداحة، لكن العاصمة الرسمية فيها قد تحوّلت، في سنوات الثورة، إلى شظايا، فشظية في موسكو، وأخرى في طهران، وثالثة في تل أبيب، فضلاً عن شظايا فرعية في أماكن أخرى، ولم يعد في دمشق إلا مكاتب ارتباط لتلك الشظايا، يقوم على خدمتها، ويتلقى منها الأوامر دميةٌ يسمُّونه رئيساً للجمهورية، وهو لا يملك قرار شراء جوربين.

تعوَّد أبناء الشعب منذ ستة عقود، أن يكيّفوا أنفسهم على قبول الذل والسجن والاضطهاد والقتل وانتهاك الحرمات والتمييز الطائفي، في الجيش والمخابرات والبعثات التعليمية ومنح الرُّخَص للمشروعات الاقتصادية، واستباحة عقيدة الشعب وممتلكاته... كما تعوّدوا أن يروا صور الطاغية في كل شارع وحديقة ودورة مياه... فيمرّون أمامها، وينظرون إليها من طرف خفيّ، ويلعنونها بقلوبهم.

وكان يرافق هذا مشاعرُ مكبوتة متنامية، أذِنَ الله أن تنفجر في آذار 2011م بشكل عفوي شعبي، ثم بدا لأفراد وهيئات من هذا الشعب ومن غيره، من مخلصين وغيرهم، أن يفوّضوا أنفسهم بالتكلم باسم الثورة. ولقد كانت لغة الثوار، وما زالت، في معظمها، لغة إسلامية، بدءاً من انطلاقها على أبواب المساجد، ووصولاً إلى أبطال الغوطة الذين يرسلون كل يوم تسجيلات تؤكد أنهم يقاتلون في سبيل الله، وينتظرون منه الفرج والنصر، ويبغُون إعلاء كلمته... وقد حدث ما لم يكن له بدّ أن يحدث، وذلك أنْ وُجد متطرفون أو غُلاة في طروحاتهم الإسلامية، يمثلون ردة الفعل على الكفر البواح وإهانة المقدّسات على ألسنة دهاقنة النظام وأجرائه. وتمكّنت جهات محلية وإقليمية وعالمية من دسّ عناصرها بين هؤلاء الغلاة لتزيدهم غلوّاً، ولترتكب الجرائم باسم الإسلام والثورة، فتنفّر الحاضنة الشعبية، وتجعل الضعفاء يحنّون إلى ظلم آل أسد، وتعطي ذريعة للعلمانيين الذين ساءهم أن يَرَوا الشعب يرفع لواء الإسلام بعد عقود التجهيل والتضليل والتفسيق والإذلال، فيَعُدّوا الشذوذات المتطرفة مسوّغاً لرفض أي مطلب إسلامي، لأنه "أدلجة" للثورة، وهذه الأدلجة مرفوضة، والبديل عندهم أن تعمم الطروحات العلمانية، فهي المنقذ للثورة، وكأن طروحات العلمانية ذاتها ليست إيديولوجية!.

إن شعبنا متديّن بفطرته وبقيمه، وإن وجود فئة متطرفة منه، أو مزروعة فيه، ليس مسوّغاً لتجريده من هويّته الإسلامية، وانظروا أسماء الشهداء، وقد قاربوا المليون، وأسماء المصابين والمعتقلين والمفقودين، وهم كذلك يقاربون المليون، والنازحين والمهجّرين، وقد تجاوزوا الخمسة ملايين... انظروا هؤلاء جميعاً لتجدوا أن اللون الإسلامي هو الغالب عليهم، وأما الذين فوّضُوا أنفسهم ليصفوا الثورة بالعلمانية فقد ارتضوا لأنفسهم النضال من وراء الميكرفون، أو من وراء اللابتوب، في مواقع آمنة، في أحضان دول صديقة وأخرى تدّعي الصداقة...

نعم لقد تحطمت جدران الخوف في جمهورية الخوف، وتذوّق أبناء الشعب طعم الحرية، سواء في أيام المظاهرات السلمية التي مزّقوا فيها اللافتات والأيقونات التي تمجّد الصنم، وداسوا بنعالهم صوره وتماثيله... أو في المساحات الواسعة التي تنسّمت رياح الحرية شهوراً وسنين، وأثبتوا أنهم شعب عظيم لا يبخل بتقديم التضحيات مهما عظمت، فداء لدينه وحريّته.

ولئن تمكّنت دول كروسيا، بعشرات الآلاف من صواريخها، وإيران بعشرات الآلاف من المرتزقة الذين جلبتهم من هنا وهناك، من تدمير كثير من المناطق المحررة، وتسميمها وإحراقها، وإعادتها إلى إدارة بشار، بعد أن سلبته أي سلطة، وجعلته موظّفاً عندها... فإن الشعب الذي ثار على الظلم، وتنسّم عبق الحرية لن يعود إلى بيت الطاعة. بل إنه قد زاد وعيه، وعظُم إصراره على التخلص من الطاغوت، وتعلم درساً بليغاً أن يوحّد صفوفه، ويترفع على أسباب التفرق والتشرذم، وأن لا يراهن على تأييد دول تتغنّى بالحريات وحقوق الإنسان.

وإذا تحرر الشعب من الخوف فإن الفئات التي كشفت عن دخائل نفوسها وجعلت بلداتها منطلقاً لعصابات النظام، وأمدَّته بالأزلام والقَتَلة... هذه الفئات هي التي باتت تخاف من نقمة الشعب.

وإذا كشفت الثورة حقائق المواقف، لم يعد أحد من أبناء الشعب ينخدع بجهاد نصر اللات، وبصداقة حاخامات إيران وتأييد موسكو.

لقد عرف الشعبُ الصديقَ من العدو، والصادق من الكاذب، والأصيل من الدخيل. (والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

وسوم: العدد 768