أولئك رجال .. وهؤلاء رجال !

كنت أدرّسه مادّة اللغة العربية، في كليّة متوسطة، ليحصل على شهادة الدبلوم، في العلوم الشرعية! وكان عريض الدعوى ، كثير التبجّح ، يطيل لسانه ، في سير العلماء ، القدماء والمعاصرين، ويقول،  بثقة زائدة بالنفس ، عن الفقهاء الأربعة الكبار، الأعلام : هم رجال ، ونحن رجال !

 وسألني ، في أثناء درس النحو: أستاذ ، لمَ ندرُس النحو؟ فقلت ، ببساطة : تدرسه ، لتتعلّم القراءة والكتابة !

 فقال ، بثقة زائفة : أنا أعرف القراءة والكتابة ! فقلت : لاتعرف ! فأصرّ على انه يعرف ! فطلبت منه ، أن يُخرج، من درج طاولته ، أيّ كتاب يختاره ، من كتبه، ويقرأ فيه صفحة واحدة، بلا أخطاء ، وأنا أعطيه درجة تامّة ، في مادّة اللغة العربية ، وأعفيه من دراسة النحو! فأخرج كتاباً ، وبدأ يقرأ ، في أوّل صفجة منه ، فما أتمّ السطر الأوّل ، حتى وقع في أخطاء عدّة ! وقرأ السطر الثاني ، ثمّ الثالث ، فتبيّن أنه لايستطيع ، أن يقرأ، جملة واحدة ، بلا أخطاء ! فأحسّ بالخجل ، أمامي، وأمام زملائه ! وداعبته ، قائلاً : يارجل ، هل الأئمّة الكبار: الشافعي وأبو حنيفة ، ومالك وابن حنبل، هل هؤلاء رجال ، وأنتم رجال!؟ فقال ، خجِلاً: أستاذ، لاتؤاخذني ، أنا مضى عليّ ثلاثة أشهر، فقط ، ملتزماً ، بالمنهج السلفي ، ولم أتمكّن ، بَعدُ ، من استيعاب مقتضياته العلمية ، من لغة ، وعلوم شرعية !

قلت : لاعليك ، يابنيّ ، لكن ، أذكّرك بفضيلة التواضع ، واحترام النفس ، واحترام الآخرين !

 لمْ أورد هذه الحكاية ، على سبيل القصّ ، أو حديث الذكريات ؛ بل لأنها تدخل ، في لبّ الفلسفة السياسية ، ولبّ علم الاجتماع السياسي ، في الظروف العادية ! وهي ، اليوم ، في ظروف الأمّة الراهنة ، تدخل في لبّ السياسة! لأن هذا الشابّ ، وأمثاله ، هم ، اليوم ، أصحاب الصولة والجولة، في الميادين كلّها : الشرعي والعلمي ، والسياسي والعسكري .. من طنجة إلى جاكرتا ! وقد جمَعوا المنكَر، من أطرافه : الجهلَ والكِبرَ، وإطالة اللسان ، على علماء الأمّة (السفاهة)!     

 ولا أعمّم هذا ، على طلبة العلم ، الذين من طراز هذا الشابّ ، لكني أزعم - على ضوء ما أراه ، كلّ يوم ، بل كلّ ساعة - أن أمثال هذا ، بلاء حقيقي ، على الأمّة ؛ فمِن بينِهم تصطادُ أجهزة الاستخبارات ، زبائنَها الاسلاميين ( الجهاديين!) ، الذين نراهم ، في سورية ، وفي العراق ، وفي نيجيريا ، وفي سائر بقاع الأرض ! وأوّل تكليف لهم ، من قبل الأجهزة العربية والأجنبية ، هو تكفير المسلمين ، عامّة ، واستباحة دمائهم ، بشعارات إسلامية برّاقة ، وتحت رايات إسلامية خفاقة ! ومِن بين هؤلاء، يَبرزالعلماء الشرعيون ، الذين يُفتون للفصائل المقاتلة ، فيُحِلون لها ، ويُحرّمون عليها! وتسقط الأمّة ، بين نارهؤلاء ، ونار الإجرام السلطوي ، وتذهب دماءُ أبنائها، هدراً، في فِتن مدلهمّة، لايَعرف القاتلُ ، فيها ، فيمَ قَتلَ ، ولا القتيل فيمَ قُتِل !

وحسبنا الله ونعم الوكيل !

وسوم: العدد 769