من حكايات الزمن الجميل، رفيقنا الرمضللي الذي فقدناه
كنت في الصف الرابع الابتدائي ، دخلنا صباحا إلى المدرسة ؛ فإذا خبر فاجع يتناقله الطلاب همسا ، وبخوف واهتمام ومشاعر مختلطة : زميلنا ( الرمضللي) أصيب بالتهاب زائدة دودية ومات ..مات ؟! ..مات !! مات؟! ، كيف مات ؟! مات ..
كيف مات وأول أمس كان يجري معنا في باحة المدرسة ، وكنا ننادي على اسمه ليلقي لنا الكرة ، رمضللي ..رمضللي ..رمضللي ..
اليوم لم يأت ( رمضللي ) إلى المدرسة ، لم نلحظه بيننا ، دق جرس الصباح ، كانت العادة أن نجتمع في طابور الصباح ، وحفلة تفتيش على نظافة الوجه واليدين والثياب وعلى الأظافر و..و.. ثم ننشد :
فلسطين نادت فلبوا الندا ...هلموا بعزم يهيب الردى
أذيقوا العدو كؤوس المنون
فلسطين أنت المنى والطلب ..فلسطين جاءت جيوش العرب
إلى الأمام ..إلى الأمام .. إلى الأمام
هذا الصباح حركة المعلمين ، ومدير المدرسة غير طبيعية ، يقفون زمرا ..زمرا ويتناقشون ، طال زمن اصطفافنا في الباحة ، شيء من الروتين ينكسر، نلحظ أن تعاملهم معنا ، ولاسيما من كان نسميه المعلم المناوب أكثر لطفاً وشفقة ..
ثم تقدم المدير ، وجميع المعلمين يحفون به ، وبدأ يحدثنا حديثا أبويا غائما عن المرض والموت والقدر وعن الجنة .. وعن زميلنا الراحل الرمضللي ، وإذا المدير الوفي يعلم الكثير عن هذا الولد الذي كان كثير الشقاوة في الباحة وفي الصف ، سكت المدير وتقدم أستاذ ثان وثالث كلهم يحاول أن يشرح لنا ماذا حصل وأنه أمر طبيعي ، وأن الموت حقيقة يجب ألا تخيفنا ، مع ضرورة الحذر ، والذهاب إلى الطبيب عند الشكوى ..ويذكرنا بزميلنا ( الرمضللي ) وكم كان طيبا ولطيفا وجميلا ، وكم كان محبوبا و..و..
لينتهي هذا الموقف بضرورة الوفاء لزميلنا ، وأن نظل نذكره بخير ، وندعو له بخير ، ثم قر القرار بأن يقوم خمسة من طلاب شعبة الزميل المتوفى ليذهب مع مدير المدرسة وثلاثة من زملاء الفقيد لتعزية أسرة الفقيد ، وحدد طالب ليلقي كلمة في العزاء ، ورقة مكتوبة ، كان من بين عباراتها ، خطاب لوالد الفقيد : كلنا أبناؤك ..
ثم قرأنا الفاتحة على روح الرفيق الصغير ، والتحقنا بصفوفنا ..
ذاكرتي من خمسينات القرن العشرين من حي شعبي في حلب الشرقية اسمه تراب الغرباء في المدرسة الهاشمية التي كان مديرها الأستاذ سامي الرز رحمه الله تعالى ..
تسرح بي الذاكرة وأنا أعايش جيلا من الناس يزعمون أنهم أكثر لطفا وكياسة وأناقة وأرقى مكانة من ذلك الزمان البئيس ..
اليوم يتوفى مؤسس نذر عمره في خدمة مدرسة فلا يحفل به مديرها ، ولا يهتم لفقده أساتذتها وكأن كل من فيها أصغر من زميلنا الرمضللي ابن العشر سنين ..
يقولون : إنه في عصر ليديز جنتلمين ..
تتضخم الذات حتى تملأ الصورة المرآة
رحم الله رفيقنا الرمضللي ورحم الله المعلمين الذين علمونا ، أن للموت خصوصية ، ورحم الله مدير مدرستنا القديم سامي الرز كم ترك في نفوسنا من آثار ..
وسوم: العدد 769