هلاّ استغل أرباب العمل والعمال على حد سواء فرصة فاتح ماي لمحاسبة أنفسهم

هلاّ استغل أرباب العمل والعمال على حد سواء فرصة فاتح ماي لمحاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبوا بين يديّ رب العزة جل جلاله يوم الحساب ؟

من المعلوم أن المسلمين إنما هم تبع لغيرهم في الاحتفال بعيد الشغل أو عيد العمال من خلال التظاهر ، ورفع الشعارات الفاضحة لما يلحق العمال من ظلم أرباب العمل ، وللمطالبة بحقوقهم المهضومة . ولا عيب في أن يتابع المسلمون غيرهم في ذلك إن كان انتصارا لحق ضائع ، واستردادا له ، أو كان إنكارا لمنكر في مجال الشغل ،بل هو واجب ديني، وإن كان في الأصل عادة انتقلت إلى المسلمين بحكم احتكاكهم بغيرهم ، وما كان ينبغي أن يكون في تعاملهم أرباب عمل وعمال  مع بعضهم البعض ظلم .

ومعلوم أن وجهات النظر بخصوص العمل أو الشغل تختلف حسب  اختلاف المعتقدات والقناعات والثقافات ، فالمسلمون يعتقدون الاعتقاد الجازم أنهم محاسبون لا محالة عن كل سعي يسعونه في حياتهم الدنيا مهما كانت طبيعته ، وأنهم يجازون أو يعاقبون حسب طبيعة سعيهم في حياتهم الدنيا التي خلقوا من أجل أن يمتحنوا فيها من خلال ما يقومون به من أعمال . وغير المسلمين لا توجد لديهم هذه القناعة، بل يعملون وغايتهم هي الدنيا  لا غير ، ولا يعتقدون بمحاسبة بعد الرحيل عنها إلى حياة آخرى . ولقد بيّن القرآن الكريم الفرق بين من يعمل في الدنيا لأجلها فقط ، ومن يعمل فيها لأجل الآخرة في قوله تعالى : (( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا )) فبموجب هذا النص القرآني قد يبدو السعي في الدنيا إذا كان من نفس الجنس  سواء عند من يؤمن بالآخرة ، وعند من لا يؤمن بها ،والحقيقة  أنه مختلف عند الطرفين،  الفرق بينهما إنما يكون في موقف الله عز وجل من سعي كل منهما ، أما من كان هدف سعيه ينتهي في الدنيا ولا يتجاوزها ، وكان غاية لذاته، فإنه لا اعتبار له عند الله عز وجل ، ومن كان هدفه في  نفس السعي يراد به الآخرة ، وهو وسيلة في الدنيا ، وليس غاية ، فإن سعيه له اعتبار عند الله عز وجل.

وبناء على هذا لا يمكن الحكم على أن السعي من الجنس الواحد يكون اعتباره عند الله عز وجل واحدا في كلتا الحالتين . وقول الله عز وجل : (( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا )) يدل على أن نتائج السعي من جنس واحد تكون في الدنيا واحدة لما جعله الله عز وجل من نتائج وراء كل أسباب يؤخذ بها في هذا السعي  إلا أن عواقبه تكون مختلفة في الآخرة ، ذلك أن من سعى بسعي ما وأخذ بأسبابه، وهو لا يريد من ورائه سوى نتائجه في الدنيا مكّنه الله عز منها وفق مشيئته وإرادته سبحانه ، ولكنه يخسر المقابل عن ذلك في الآخرة، بل أكثر من ذلك  يعاقب ، ومن سعى بنفس السعي أخذا بأسبابه أيضا مكّنه سبحانه وتعالى من نفس النتائج ، و لكن يجعل له مقابلا آخر في الآخرة ، ويجازيه عن ذلك .

ولا يقيم الله عز وجل وزنا لسعي تراد به نتائج أو فوائد الدنيا فقط ، ولا تعتبر فيه الآخرة أيضا . ومن الأمور التي تجعل السعي مقبولا عند الله عز وجل شرط ضروري هو الإيمان بالله عز وجل ، وما يترتب عن ذلك من إيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره . ولا اعتبار لسعي لا إيمان لمن  يسعاه مصداقا لقوله عز من قائل : ((  وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثورا )) وقد قيل في سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا ينكرون البعث واليوم الآخر والحساب  ، وكانوا يقولون لئن كان البعث والحساب حقا لنجدنّ أعمالا من البر عملناها تكون سبب نجاتنا ، ففنّد الله زعمهم .

ولقد ميّز الله عز وجل بين السعي الذي تتحقق به نتائج في الدنيا والآخرة على حد سواء ، وبين السعي الذي تقتصر نتائجه على الدنيا فقط ،فقال جل شأنه : (( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن )) ويعتبر شرط  أن يكون السعي سعي الآخرة ثاني الشرطين بعد شرط الإيمان . وإذا قيل كيف يكون السعي واحدا ويختلف مصير من يسعونه في الآخرة عقابا وجزاء ، قلنا إن اختلاف القصد وراء نفس السعي هو السر في اختلاف الجزاء الأخروي ،ولنضرب مثالا على ذلك ، فإذا كان السعي على سبيل المثال هو تقديم خدمة للناس، فإن من يكون قصده فعل ذلك لا يتجاوز حدود الحياة الدنيا لأنه لا يؤمن بحياة بعدها يحاسب فيها الناس على ما عملوا في الدنيا ، فسيعاقب على ذلك لإنكاره البعث والحساب ، ومن ثم إنكار خالق البعث والحساب ، ومن يكون قصده فعل ذلك متجاوزا حدود الدنيا لأنه يؤمن بعدها بحياة أخرى يحاسب الناس على ما عملوا في الدنيا ،فإنه يجازى عن ذلك لإقراره بالبعث والحساب ، ومن ثم إقراره بخالق البعث والحساب .

ومن عدل الله عز وجل أن من أراد بسعيه العاجلة ،يعجل له فيها ما يشاء لمن يريد ،ذلك أنه قد لا يحصل مريد العاجلة كل ما يريده من وراء سعيه لإخلاله باتخاذ  الأسباب المناسبة للحصول على المراد من ذلك السعي  ، وهي أسباب من وضع وتقدير الله عز وجل . ويحصل مريد العاجلة على ما يريده في العاجلة عدلا من الله عز وجل ، ولا يستقيم منطقا أو عقلا أن يكون مراده  الحصول على نتيجة سعيه في العاجلة ، فيحصل فيها على  نتيجة  ، ثم يجازى عنها في آخرة لا يؤمن بها أصلا . ولو سوّى الله عز وجل  في الأجر الأخروي بين من لا يؤمن بحساب الآخرة وجزائها ، ومن يؤمن بذلك، لكان غير منصف في حق هذا الأخير ، وتعالى سبحانه عن الظلم، وقد حرمه على نفسه .

وقد يخوض البعض فيما يقدمه الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويقصرون سعيهم على نتائج العاجلة لا يتجاوزها  قصدهم من وراء أعمال لا تخلو من نفع ينتفع به الناس ، ويزعمون افتراء على الله عز وجل أن هؤلاء سيجازون عنها نفس جزاء من يؤمنون بالآخرة،  بل قد يزعمون أنهم يجازون بأفضل من جزائهم، الشيء الذي ينقض قوله تعالى في مصيرأعمال الذين لا يؤمنون بالآخرة  بغض النظر عن نفعها ، و التي يجعلها سبحانه هباء منثورا كناية عن عدم اعتبارها بالرغم مما كان فيها من نفع وفائدة للناس في العاجلة ،لأنه هو سبحانه من اشترط في الجزاء الخاص بالآخرة أن يكون السعي سعيا تراد به مع شرط الإيمان .

وبناء على ما تقدم يجدر بالمسلمين عمالا وأرباب عمل حين تحل بهم مناسبة عيد الشغل في الفاتح من ماي أن يجعلوا منها فرصة لمحاسبة ذواتهم قبل محاسبة بعضهم البعض في العاجلة ، وقبل أن يحاسبوا جميعا في الآخرة . فأرباب العمل يجب عليهم محاسبة أنفسهم عن عرق العمال ، وعن جهدهم ،فلا يبخسوا منه شيئا ، وأن تكون مراقبتهم لله عز وجل  وخوفهم من محاسبته أكثر من خوفهم من محاسبة ومطالب النقابات . والعمال بدورهم يجب عليهم مراقبة الله عز وجل وخوفهم منه أكثر من خوفهم من مراقبة أرباب العمل ، وإجراءاتهم العقابية في العاجلة . وعلى أرباب العمل بقدر ما يطالبون العمال بالزيادة في العمل والجهد أن يلزموا أنفسهم بتقدير عملهم وجهدهم ، وإعطائهم ما يقابل ذلك من أجور منصفة لا تبخسهم شيئا من عملهم وجهدهم . وعلى العمال في المقابل بقدر ما يطالبون أرباب العمل  بالزيادة في الأجور والتعويضات أن يلزموا أنفسهم بعمل وجهد في مستوى ما يحصلون عليه من أجر . والذي يكون حكما بين الطرفين هو وازع  مخافة الله عز وجل المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي يزن الأعمال بأدق ميزان وهو مثقال ذرة ،  والذي يضع الموازين القسط يوم القيامة .

وأخيرا نذكر بأن أرباب العمل والعمال المسلمين على حد سواء ،يجتهدون في شهر شعبان الذي تعرض فيه الأعمال على الله عز وجل ، وهي كل سعي يسعونه في حياتهم بالتقرب إليه بصيام أيام من هذا الشهر حتى تعرض أعمالهم عليه وهم صيام اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي رواه أسامة بن زيد رضي الله عنه ، والذي أخبر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يعرض عمله على ربه في شعبان وهو صائم . فإذا تقرب أرباب العمل إلى ربهم بصيام شعبان، وهم يبخسون عمالهم أعمالهم، فلا معنى ولا قيمة لتقربهم إذ كان الأجدر بهم تصحيح أعمالهم المعروضة على ربهم وعلى رأسها معاملتهم لعمالهم  وأنى يرضى الله عز وجل منهم بخسهم عمالهم  ويقبل صيامهم؟ وفي المقابل كيف يقبل الله عز وجل من العمال صيام شعبان ،وهم يقصرون في أعمالهم المعروضة عليه ؟ ألا يجدر بهم التقرب إليه بالإخلاص في أعمالهم وواجباتهم ؟ فكم من عامل  أو موظف أو مستخدم أو أجير يصوم التقرب إلى الله عز وجل في شعبان على حساب القيام بالواجب ، فيتمارض أو يدلي بشواهد طبية ليصوم شعبان ، بل قد يفعل ذلك حتى في رمضان ، ومثل هذا إنما يخدع ويخادع نفسه ، ولن يقبل منه الله عز وجل صيام فرض ، ولا صيام تطوع. وهو غاش لنفسه ولغيره .   

وسوم: العدد 770