الجزائري من خلال الكاميرا الخفية
تعتبر "الكاميرا الخفية" من الوسائل التي يمكن من خلالها الوقوف وإلى أبعد الحدود على حقيقة المجتمع، باعتبارها تنقل سلوكات الأفراد على المباشر وبتلقائية ودون إعداد مسبق لها. فكم من شخصية كانت تظهر بمظهر بعينه ثمّ ظهرت على وجهها الحقيقي عبر "الكاميرا الخفية" وهي تمارس عنفها وضعفها على المباشر، وكم من اعتقادات حول مجتمع معيّن ظهرت على حقيقتها عبر هذا الزر وكان المرء يعتقد اعتقادا آخر قبل أن يقف على حقيقتها. وأعترف أنّي وقفت على بعض مظاهر المجتمع الأوروبي كالحماقة والغباوة والإيمان بالخرافات التي لم أكن أتصورها من خلال متابعتي المستمرة لـ "الكاميرا الخفية الصامتة" الأوربية، والرائعة جدا من حيث حسن الأداء، والإنفاق المالي، والحيل السينمائية العالية جدا، والمكلّفة جدا.
"الكاميرا الخفية" في الجزائر كغيرها من الدول الأوربية والإسلامية والأعجمية والعربية لا تخرج عن هذا السّياق وتعبّر عن حقيقة المجتمع الجزائري في أبعد الحدود، ومن بين المظاهر الخالدة التي لفتت الانتباه وتستحقّ الثناء ولأجلها كان هذا المقال، هي:
طفل جزائري يتظاهر بكونه يحمل "علبة مسح الأحذية" ويطلب من الجزائريين المارين حوله أن يأذنوا له ليمسح أحذيتهم، فما كان من الجزائريين إلاّ أن رفضوا جميعا ودون استثناء بما فيهم الكبار والصغار والرجال والنّساء أن يمسح لهم أحذيتهم، ولم يكتفوا بالرفض بل راحوا جميعا يمدونهم بالمال وبما جاد به الكرم الجزائري، ومنهم من منعه من مسح الأحذية ومنحه لعبا يبيعها بدل من مسح الأحذية وأخذ "علبة مسح الأحذية" حتّى لا يعود إليها الطفل البريء.
هذه العيّنة العشوائية غير المبرمجة التي نقلتها "الكاميرا الخفية" عن المجتمع الجزائري وعلى المباشر تعطي صورة واضحة وصادقة عن حقيقة الجزائري الرّافض وبشدّة لمهنة "مسح الأحذية"، لأنّها ببساطة تذكّر الجزائري بالاستدمار الفرنسي الذي فرض على الجزائري يومها "مسح الأحذية" من خلال سياسة التفقير والتجهيل والتّهجير والبطالة والأرض المحروقة والإذلال والسّطو على أراضي وممتلكات الجزائريين من جهة، ورفض الجزائري لمهنة "مسح الأحذية" ولو كان فقيرا محتاجا هو رفض لحقبة سوداء وظلم سلّطه الاستدمار الفرنسي على الجزائريين طيلة 132 سنة من جهة أخرى.
قرأت سنة 2015 أنّ الاستدمار الفرنسي كان يفرض على الأطفال الذين يمسحون الأحذية ضرائب لا يطيقونها، فيتعرّضون للضرب والمنع وهم الفقراء العراة.
حدّثني مجاهد شارك في الثورة الجزائرية، فقال: كان الاستدمار الفرنسي يستعمل بعض الذين يمسحون الأحذية كعيون له يمدّونه بالمعلومات المطلوبة حول جهة معيّنة أو شخص معيّن أو عرض حال لذلك اليوم وباستمرار، وكان في نفس الوقت قادة الثورة الجزائرية يستعملون الذين يمسحون الأحذية كعيون لهم يمدّونهم بالمعلومات المطلوبة حول تحرّك قوات الاستدمار الفرنسي، أو مستدمر، أو الخونة ليتّخذ على إثرها القرار المناسب والسّريع والآمن.
زرت مصر سنة 2006 والمغرب 2015سنة، وطلب مني الرجال من إخواننا المصريين وإخواننا المغاربة من الذين يمارسون مهنة "مسح الأحذية" أن يمسحوا حذائي فرفضت بشدّة وفي كلّ الحالات، ودون شعور منّي كنت أقدّم ما يجود به جيب الضيف والزائر لهؤلاء الذين كانت تظهر عليهم أمارات الفقر والحاجة، والسّبب في رفضي لمسح حذائي هو صورة الاستدمار الفرنسي التي ما زالت راسخة تراود ذاكرة الجزائري والتي لا يمكن بحال أن تغادر ذاكرته.
بقيت الإشارة أنّ الجزائر وعقب استرجاع السّيادة الوطنية سنة 1962، كان أوّل قرار اتّخذته أو من القرارات الأولى التي اتّخذتها الدولة الجزائرية يومها بقيادة بن بلة هي إلغاء مهنة "مسح الأحذية"، لأنّها تذكّر بالاستدمار الفرنسي، ما يعني أنّ قرار إلغاء مهنة "مسح الأحذية" كان بقرار رئاسي وجمهوري.
وسوم: العدد 776