الربيع العربي تحت المجهر 7
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
الحلقة السابعة
كيف عَدَّل الربيعُ العربيّ الصورةَ النمطية عن المسلمين؟
من يقرأ بعض ما كتبه آلاف المستشرقين عن الإسلام والمسلمين منذ قرون خلت؛ سيجد أن أغلبهم قد تمالؤوا على رسم صورة نمطية بالغة البشاعة عن المسلمين، فإن المسلمين في ظل هذه الصورة مجاميع من السلبيين الذين رضخوا للقهر، واستناموا للظلم، واستمرؤوا الهوان، والذين تعايشوا مع الانحطاط وتكيفوا مع الفساد، حيث يصفونهم دوماً بأنهم بلا خيال عقلي ولا كرامة إنسانية، وأن كل ما في حوزتهم من أشواق روحية قد سخروها لصالح الصبر على القهر والرضى بالظلم، والتعايش مع الفساد، خوفاً من مخالب الطغاة وانتظارا للجزاء الأخروي.
ومن يتمعّن في هذا الجزء من الصورة سيجد أن المستشرقين قد مارسوا شيئاً من الإسقاط الذي يتحدث عنها علماء النفس، فإن التدين المسيحي الذي تسيد الناس في القرون الوسطى هو الذي تليق به هذه الصورة النكراء، وإن كنا لا ننكر أن أجزاء من هذه الصورة قد ظهرت في حياة المسلمين منذ عهود الانحطاط، كصورة من صور علل التدين التي ورثها بعض المسلمين عمن سبقهم!
▪ويصور المستشرقون المسلمين بأنهم مخلوقات فوضوية، تكره النظام وتعشق الانفلات، تستهويها الغرائب وتستفزها التفاهات، وتدفعها أمور بسيطة للثورة على قيم النظام والائتلاف، وتميد بها نحو التمرد على قيم الترتيب والتنسيق، وأنهم مخلوقات همجية تعشق العشوائية والارتجال، وتهوى الجنوح نحو الفوضى، وقد يرتكبون الكبائر والموبقات بدون قصد ويعاقرون الكثير من الحماقات بدون أدنى تفكير!
ويصفون المسلمين بأنهم لا ينقادون إلا للقوة ولا يسيرون إلا خلف ركب الطغيان، ولا يستكينون إلا للعنف، لدرجة أنهم يُقدسون الطواغيت ويَرتمون عند أقدام الفراعنة، ولا ينقادون إلا لكل عُتُلّ زنيم!
▪ويرى المستشرقون أن العرب كائنات تعاني من الانفصام الكامل، فمن ناحية فإنهم يتحدثون كثيرا عن الأخلاق لكنهم ينغمسون بكثافة في الانحلال الأخلاقي، حيث يجعلون من الكذب ديدنهم والخيانة دينهم ويَعُدّون الخداع مذهبهم والنكث سَمْتهم، وكثيرا ما يصفونهم بأنهم كائنات مسكونة بالشهوات ومفخّخة بالنزوات، وأنهم يغرقون في أوحال الجنس إلى الذقون، لدرجة أنهم يختزلون نظرتهم للمرأة في هذه الوظيفة، بل وينظرون إليها بسبب ذلك نظرة دونية سالبين إياها إنسانيتها وكرامتها فضلاً عن حريتها وحقوقها!
▪ لا نريد أن نسرد جوانب الصورة النمطية للإسلام والمسلمين في العقل الغربي، فهناك عشرات الكتب ومئات الأبحاث وآلاف المقالات التي كُتبت في هذا المضمار، وإنما نريد أن نوضح كيف كان الربيع العربي قد بدأ يهزّ بقوة هذه الصورة النمطية في أذهان كثير من الغربيين، مما شكّل تهديدا حقيقياً للبُعد الاستعماري في الغرب، والذي يتكئ إلى حد كبير على هذه الصورة في إثارة العداوات وتجييش الجماهير في بلدانه ضد المسلمين، وفي أضعف الأحوال يستخدم هذه الصورة لتبرير ممارساته الامبريالية ضد المسلمين والتي تصاعدت بقوة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبلغت الذروة بعد أحداث 11 سبتمبر 2011م الشهيرة، فإن صورة المسلم الإرهابي قد أعادت إلى الواجهة الصورة النمطية السيئة عن المسلم في كل نواحي التفكير وفي سائر القيم والتصرفات.
▪ وتخبرنا يوميات الربيع العربي بأن المسيرات قد خرجت بشكل أساسي من الجامعات والجوامع، وأن المساجد والمدارس كانت من معاقلها ومنطلقاتها الأساسية، وثبت بطرائق كثيرة أن الطبقة الوسطى كانت الرافعة الرئيسية لهذه الثورات، والتي تضم غالب الأطباء والمهندسين والمدرسين والحقوقيين وأساتذة الجامعات وأئمة الجوامع، فقد كان هؤلاء هم القادة الرئيسيون لها، وشكّل المتعلمون كتلتها الحَرجة، ومثّل الطلاب وقودها الأساسي، وقد تكون هذه الحقيقة غير واضحة تماماً بالنسبة لبعض الناس في بلداننا الإسلامية، لكنها كانت واضحة إلى حد كبير عند النُّخَب الغربية، مما أدى إلى تعاطف عدد مُقدّر من الجماهير البعيدة عن الأجندات الاستعمارية مع ثوار الربيع العربي، واندفعت لمراجعة الصورة النمطية التي انطبعت في أذهانها عن العرب والمسلمين، نتيجة التشويه الاستشراقي والشحن الصهيوني!
▪ ويحكي الواقع الذي سجلته وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي بأن ثورات الربيع العربي كانت أمثلة في النظام والانضباط ونماذج في النظافة والترتيب، حيث كانت المسيرات المليونية في القاهرة وتونس وصنعاء وطرابلس وتعز وإب والإسكندرية ودمشق وحلب تسير بكل سلاسة وانسياب، رغم تلقائيتها وحماسة شبابها إلى حد الفوران، حيث لم يتم اقتلاع شجرة من مكانها أو الإضرار بأي مبنى ومؤسسة كانت حكومية أو خاصة ما عدا حوادث نادرة تمت كرد فعل على عنف مفرط وبتأثير من خلايا استخبارية اخترقت صفوف الثوار، ولم يتم الاعتداء على أي أحد بمن فيهم من كانوا يحملون السلاح ويوجهون رصاصاتهم إلى الصدور العارية!
▪وفي ساحات الاعتصام ومنصّات المعتصمين انتظمت الفعاليات التي فجّرت الطاقات الفكرية والفنية والأدبي الكامنة عند الشباب، وظهرت أخلاق الاحترام والتعاون والإيثار في حُلل مبهرة، وبرزت مظاهر الترتيب والتنظيم والنظافة بصور مدهشة، حيث حَمَل العلماء والمفكرون والدعاة المكانس للتنظيف بجانب الشباب، وسارت البنات بجانب البنين بكل أدب وأخلاق كأن الجميع أشقاء في أسرة واحدة، رغم العدد الكبير من المعتصمين ورغم التعدد والتنوع، ونقلت كاميرات التليفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي مشاهد راقية من التعاون والتعاضد ومن التآزر والتضافر، ومن الانسجام والانسيابية، حيث تخلّت على سبيل المثال القبائل اليمنية عن أسلحتها وثاراتها وأعرافها العنيفة، عندما دخلت ساحة التغيير في صنعاء، وانخرطت في مساعي البحث السلمي عن الدولة المدنية التي تقيم دولة القانون وتحقق المواطنة المتساوية للجميع، ولم يشهد ميدان التحرير في القاهرة أي حالة تحرش بالبنات خلال ثمانية عشر يوما من التجمهر المختلط بين ملايين الذكور والإناث، أما في اليمن وهي البلد الأكثر محافظة من بين بلدان الربيع العربي فقد خرجت ملايين النساء بجانب أشقائهن في المدن اليمنية يطالبن بالحرية، وكان لهن حضورهن المميز والفاعل في سائر الفعاليات، ورغم أن تلك الفعاليات قد استمرت لأشهر كثيرة إلا أن الشباب من الجنسين قد ضربوا أروع الأمثلة في الأدب والتعاون الذي أبهر كثيرا من شعوب العالم.
▪ في ثورات الربيع العربي تَوارت ثقافة القَدَرية الجبرية التي يُدمغ بها المسلمون، وظهر الناس يرسمون مستقبلهم بدمائهم ويصنعون أقدارهم بأيديهم، متسلحين بالأسباب ومتدرعين بوسائل التكنولوجيا المتطورة، وكانوا في ذروة الإيجابية وهم ينشدون الحرية والكرامة لشعوبهم، وما فتؤوا يتسابقون على التضحية، وبدا بعضهم كأنهم قد قدَّموا أجسادهم لتشكل جسورا للشعوب حتى تعبر عليها نحو المستقبل المنشود !
▪وصفوةُ القَولِ إن من ثمرات الربيع العربي أنها هزّت الصورة النمطية عن الشعوب العربية في الذهن الغربي، فقد بدا بوضوح أن الجماهير الثائرة تعشق المستقبل ولا تتعلق بالماضي، وأنها تُؤْثر العطاء على الأخذ وتُقدّم الإيثار على الأثرة، وأنها تتسلح بالوعي وتحارب مظاهر الجهل، وأنها تنزع نحو التآلف وتنبذ نزعات التخالف، وأنوا تتحلى بقيم التعاون وتتخلى عن مفردات التباين، ولاسيما عند اشتداد ساعات العسرة واشتعال خطوط المواجهات، حيث كانت تقوى العلائق وتشتد الأواصر أكثر من الأوقات الطبيعية، مما أظهر صورا بَهَرت العالم وأذهلت المتابعين، حتى أن الاستطلاعات في الغرب قد سجلت أعلى نسبة إيجابية بالنسبة لصورة العرب في الذهنية الغربية خلال فترة الربيع العربي وإن كانت الثورات المضادة قد أثرت سلبا عليها، وأبدى كثير من المفكرين والمثقفين والساسة الغربيين إعجابهم الشديد بتلك الثورات التي رفعت بيارق الحرية وهتفت للحياة الكريمة، وبالمناسبة فإن هذه النماذج الرائعة هي التي دفعت الإعلام الغربي إلى تسمية هذه الانتفاضات بثورات الربيع العربي!
▪ وبقدر ما هزّت رياحُ الثورات أنظمةَ الجور والفساد والتسلُّط في عدد من البلدان حتى أسقطت بعض الجاثمين على صدور الشعوب المغلوبة على أمرها، فقد هزّت أشجار الزقوم التي صنعها المستشرقون والمنصرون والساسة الغربيون طيلة قرون من الغزو الفكري والحرب الثقافية، والمتمثلة بالصورة النمطية السيئة عن العرب والمسلمين، حيث سقطت من هذه الشجرة بعض الصور القبيحة، بعد أن ظهر المتدينون في مقدمة المتشيعين للحرية والمطالبين بالحقوق، وظهر الثوار مُنظَّمين ومُنْتظمين في إطار مساعي سلمية لإسقاط أنظمة وأوضاع الظلم، حيث انسجام الحركة بين العامة والصفوة، وامتزاج الأخوة بين الذكور والإناث، والتعاون بين كافة المكونات الدينية والطائفية والسياسية والاجتماعية تحت سقف الوطن، في سعي موحد لتحقيق الحرية والمواطنة المتساوية للجميع.
▪ لقد نجح النموذج الرائع الذي قدمه ثوار الربيع العربي في أسابيعهم الأولى، قبل أن تطرأ عليه تلك العوامل، في هزّ ثقة بعض جماهير الغرب في الصورة النمطية القاتمة التي ورثوها عن أسلافهم، بل وفي تغيير قناعات بعضهم بالفعل بعد أن عزّزوا مشاهداتهم بقراءات معمقة عن الإسلام وتأريخ المسلمين، غير أن هذه الصورة المضيئة كانت للأسف عاملاً إضافياً بجانب مجموعة من العوامل التي دفعت التيار الامبريالي في الغرب للتدخل بقوة ومكر شديدين، وللتسريع بالثورة المضادة عبر مخالبه المحلية، فقد كان واضحاً أن الأمور لو تُركت لإرادة الشعوب فإن أنظمة الجور ستسقط مثل أوراق الخريف، وأن الصورة التي ظلت تُغرَس طيلة قرون في طريقها إلى التبعثر والزوال، ولابد أن هذا سيكون له تداعياته العميقة على المصالح غير المشروعة للغرب في بلداننا العربية.
ولا شك أن هذه الأمور تستدعي من المفكرين والباحثين دراسة تلك الأحداث لاستخراج الدروس والعبر، وهذا ما سنحاول أن ندلي بدلونا فيه إن شاء الله في وقت قادم بإذن الله.
أ.د. فؤاد البنّا،رئيس منتدى الفكر الإسلامي،أستاذ العلوم السياسية جامعة تعز.
وسوم: العدد 776