أن تكون مريضا.. في شبه دولة!
إذا كنت مريضا في شبه دولة فأنت واحد من اثنين. من المرضيّ عنهم أو المغضوب عليهم. المرضيّ عنهم هم أتباع النظام وأحباؤه، والمغضوب عليهم بقية فئات المجتمع من الأساتذة والكتاب والفلاحين والعمال والموظفين ومن يعيشون في قاع المجتمع ماديا ومعنويا. المرضيّ عنهم من الأتباع والأحباء، يعالجون في أفضل المستشفيات في الداخل والخارج بمجرد الإشارة وأسرع ما يمكن. المغضوب عليهم- وعادة ما يكونون فوق السبعين- يجب أن تكون لديهم قوة مائة حصان حتى يدوخوا السبع دوخات بين الطلبات والموافقات والتوقيعات واللجان والخطابات. ويا ويله من المستشفيات العامة- التي لم تعد مجانية- والتأمين الصحي وما أدراك ما التأمين الصحي؟ والرعاية الصحية التي تنظمها عمليات التعاقد بين الجهات الحكومية والمستشفيات الخاصة..
عليك أن تملك قوة مائة حصان لتقف في الطوابير، وتنتظر السادة والسيدات من الأطباء وهيئة التمريض والفنيين حتى تراهم في مكتب الكشف أو التحليل أو الأشعة أو غرف العلاج. ولا بأس أحيانا أن يلقى بك على عتبة المستشفى حين يضيقون بك ذرعا، فالسرير يحتاجه مريض آخر قد يكون من المحظوظين لأن له قريبا أو حسيبا أو نسيبا!
وإذا ذهبت إلى الأطباء غير الحفاة (الحفاة موجودون في الصين ويقومون بواجبهم على خير وجه) فعليك أن تدفع في عياداتهم مبلغا محترما في الأرياف وليس في العاصمة والمدن الكبرى؛ نظير أن يتعطف عليك حضرة الطبيب المتغطرس بخمس دقائق يفحصك فيها ويحمّلك ألوانا من التحاليل والأشعّات وبعضها أو كثير منها أو كلها لا لزوم له، وإن كانت أصول البيزنس مع أصحاب المعامل تفرض ذلك. وفقا لقانون النسبة والتناسب، وكله على حساب البائس أو مائة حصان!
في طفولتي قبل ستين عاما أو يزيد رأيت امرأة تبكي وهي تعطي الطبيب في عيادته خمسة عشر قرشا وتحلف له أن هذا المبلغ هو كل ما لديها وكان قد كشف على ولديها، وقيمة الكشف على الولدين نصف جنيه بأكمله، فإذا بالرجل الصالح ولا أزكيه على الله يأخذ منها المبلغ ويعطيها ورقة من فئة الخمسين قرشا ويقول لها: هات زوجين من الفراخ واسق ولديك من الشوربة، وإذا بالمرأة المسكينة تزداد بكاء وتدعو له، والرجل يطيب خاطرها ويودعها بقلب رحيم ولفظ لطيف!
تجار الطب في المدن والأرياف اليوم، يتخذون مظاهر الأبهة، ويضعون فتيات بائسات في مداخل العيادات مهمتهن تحصيل ثمن الكشف الفنكوش المتعجرف، وفي الإعادة يحصلن على ربع قيمة الكشف، حيث ينظر التاجر- عفوا الطبيب- في التذكرة التي كتبها ويضيف إليها في دقيقتين صنفا أو صنفين جديدين، ومع السلامة. وإذا كان العلاج يحتاج إلى نوع خاص من العناية الدقيقة، فإنه يوجه إلى طبيب آخر، لأنه مشغول بالعمليات الجراحية المربحة جدا، وتبدأ أسعارها بالآلاف ولو كانت استئصال الزائدة الدودية، أو توليد سيدة!
هناك بلا ريب نماذج قليلة تملك شرف الالتزام بقسم أبي قراط، ولكن هذه النماذج القليلة تثبت القاعدة التي جعلت الطب تجارة، والدواء تجارة والتحاليل تجارة، ويا ويل المرضى الذين لا يملكون قوة مائة حصان ليتحملوا عذاب العلاج الحكومي أو الخاص!
لا شك أن منظومة العلاج والدواء- واسمحوا لي أن أعلن كراهيتي لمصطلح منظومة فهو لا يعبر عن فكر مستقيم، ولكنه يعبر عن خلل فظيع، وأعجب للذين يستخدمونه، ويتصورون أن مجرد استخدامه يحقق المراد من رب العباد. فهذا الخلل الذي يحكم حياتنا عموما والصحة خصوصا يبدأ من البدهيات التي لا يريد بعضهم أن يعترف بها. مثلا كيف تخبرني أننا بسبيل القضاء على فيروس سي، بينما الواقع يشير إلى أن الإصابات القادمة أفدح وأشد من الإصابات السابقة؟ النيل يتم تلويثه على مدار الساعة، بالصرف والكيماويات والمزارع السمكية الملوثة وورد النيل، وإلقاء الحيوانات النافقة وغير ذلك مما يجعل مياه الشرب غير صالحة، ولا تحدثني عن المعالجات والكلور والعناصر التي تحمل سموما بدرجة ما.
الحبوب والخضراوات والفاكهة بما فيها المستورد تحمل درجات من التسمم تفتك بأكباد المصريين وكلاهم وأمعائهم، وتجعل من العلاج من فيروس سي أو الفشل الكلوي أو غيرهما حرثا في البحر، حيث علاج هنا، وإصابات جديدة هناك، ويا ويلنا بعد إقامة سد النهضة والتوجه لشرب مياه الصرف المعالجة. إن علاج فيروسي يوجب القضاء على مسبباته. إن منظومة العلاج غير المنتظمة، تعود إلى افتقاد الرؤية الشاملة، فضلا عن امتهان قيمة الإنسان المصري الذي لا ينتسب للسلطة، فهو لا قيمة له، ولا يعترف به أحد مهما كان دوره العلمي أو الإنساني. يمكن أن تجد راقصة أو مشخصاتيا أو مهرجا أو طبالا أو كاتب سلطة أكثر أهمية من عالم كبير يعدّ من العلماء البارزين على مستوى العالم في مجال تخصصه، أو فلاح يزرع ويحصد ويخدم الوطن أكثر من غيره، أو عامل محترف في مجال صناعته ويمثل عملة نادرة. القيمة اليوم للشخص المتسلق الانتهازي الملتحق بذيل النظام، والمسألة موجودة في واقعنا منذ ستين عاما أو يزيد. في عهد الإقطاع كان هناك ما يسمى ب "المجانة"- أي المستشفى المجانية. أما اليوم فالحجز على جثة المريض الذي توفي داخل المستشفى أمر عادي لا يثير استغرابا.
في تركيا التي يشتمها صباح مساء أبواق النظام، لا يوجد طبيب يعمل في الحكومة، ويملك عيادة خاصة يتم الحجز فيها على امتداد ستة شهور أو أكثر. العمل هناك في العيادة أو الوظيفة، وفي كل من العملين أجر كاف ومنصف لصاحبه.. ثم هناك الجهود الأهلية والأوقاف الخيرية التي تنشئ مستشفياتها وعياداتها للعلاج المجاني، وتستقطب أطباء متخصصين متفرغين لها.
نحن في المنظومة المصرية المختلة نعيش إنفاقا ضخما، وكتائب تسد عين الشمس من الأطباء وهيئة التمريض والفنيين والعمال، ومؤسسات ومعامل وأجهزة، ولكن النتيجة صفر كبير بالنسبة للمواطن المصري المغضوب عليه. لأن المنظومة الصحية المصرية مختلة.
الاتجاه الآن مركز على "الدفع"! أي إن المواطن المغضوب عليه يجب أن يدفع في كل الأحوال وقد لا يجد مقابلا، وعليه أن يتحمل، وأن يحتفظ بقوة مائة حصان حتى يتم علاجه إن كتب له أن يشفى! لست في مجال الحديث عن المستوى الطبي الآن ومقارنته بما كان عليه قبل سنوات العبودية التي بدأت في الخمسينيات. ويكفي أن أورد ما قاله طبيب كبير تجاوز التسعين: ”إن أطباء إنجلترا كانوا يترقبون أطباء مصر الذي يقضون إجازاتهم الصيفية في بريطانيا، فيصرون على أن يمارسوا المهنة عندهم فترة الإجازة مع تقديم الإغراءات والاحترام والإشادة، والحصول على وعد بتكرار العمل في الإجازات القادمة".
الله مولانا. اللهم فرّج كرب الظالمين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 776