ماذا ينقص المسلمين اليوم؟!
قد يكون هذا السؤال غريباً، فالمسلمون ينقصهم كل شيء، وهم الآن في ذيل القافلة، يدفعون الجزية ويتكفّفون الأمم!. لكن هذا الكلام ليس على إطلاقه، فإلى جانب مظاهر الضعف والتخلف هناك جوانب مشرقة، وآمال واعدة، بل هناك جذور للانطلاق والعلوّ والسيادة.
في النصف الأول من القرن الميلادي الماضي كانت العاطفة الإسلامية تكاد تعمّ المجتمع كله، لكن هذه العاطفة كانت مترافقة بالجهل وضعف الالتزام بأحكام الإسلام، فكان من المألوف ألا يصلّي أو يحجّ إلا المسنّون، وكان حجاب المرأة مجرد تقليد، فالمرأة المسلمة تلبس "الملحفة" أو "الملاية" وهي، في الغالب لا تصلي...
ثم أشرقت الصحوة الإسلامية، وتبلورت في المجتمعات إقبالاً على العبادات، والتزاماً بسلوك إسلامي طيّب، وانتشاراً للكتاب الإسلامي، التراثي منه والحديث، واستنارت حياة الشباب والشابات بمظاهر كثيرة من التقوى والصلاح، وارتفعت الدعوات بالعودة إلى دين الله وتحكيم الإسلام في شؤون المجتمع...
وبالمقابل برزت ضراوة الأعداء في حربهم على الإسلام والمسلمين، ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، بل عسكرياً كذلك.
ونتيجة لهذا كله حدثت في حياة المسلمين تقلّبات وتعثّرات وكبوات... اقتضت مراجعات في المسيرة للتعرف إلى أسباب الضعف والنكوص. إذ، بدلاً من إلقاء اللوم على "الآخر" يجب البدء بمحاسبة "الذات" لأن انتصار المسلمين لا يكون إلا باستمدادهم النصر من عند الله، ونصرُ الله لا يكون إلا بأن ينصر المسلمون ربّهم. فكم مرةً قرأنا قول الله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم). {سورة آل عمران: 126}، وقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصُرْكم ويثبّتْ أقدامَكم). {سورة محمد: 7}. فلننظر: لماذا لم ينتصر المسلمون، ولماذا لم يتحقق وعد الله باستخلافهم في الأرض، مصداقاً لقوله سبحانه: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض...). {سورة النور: 55} ؟.
وليس من شأن مقال كهذا أن يحيط بالمسألة من جوانبها كافّة، ولكن يمكننا أن نلقي أضواء تنير السبيل:
1- لا يكاد يخلو مجلس من مجالس تتناول أحوال المسلمين، من ذكر جوانب سلبية كثيرة في حياتهم. وهذا أمر طيب، إذ إن الاعتراف بالداء، والتعرف إليه، بدايةٌ ضرورية للعلاج، وإن الشعور بالتحديات مهمازٌ للانطلاق، وإن الإقرار بوجود افتراق بين ما نؤمن به، وبين ما نمارسه... كل هذا يدعو إلى رفض الواقع السلبي، ثم يدعو إلى الشعور بالمسؤولية والقيام بفعل إيجابي، والانتقال من التشكّي إلى العلاج، وإلى إشعال شمعة بدل الاكتفاء بلعن الظلام!.
2- إن تراكم أخطائنا، وتتابُعَ المصائب علينا لا يجوز أن تُشكّكنا بسلامة ديننا، ولا أن توقعنا باليأس (إنّه لا ييأس من رَوْحِ الله إلا القوم الكافرون). {سورة يوسف: 87}، ولا أن ننبهر بقوة العدو فنحسَبَ أنه على الحق والصواب لأنه يملك القوة، ولا أن نطوّع أحكام الإسلام لتوافق ما عليه الغرب، باسم الواقعية، أو باسم "لا ينكر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان"، ولا أن نلقي اللوم على القدر... وإنما أن نراجع سلوكنا ومواقفنا وخططنا لنكشف الخلل، فكما قال تعالى: (قل: هو من عند أنفسكم). {سورة آل عمران: 165}.
3- نعم، لقد تداعت علينا الأمم كما تداعى الأكَلَةُ إلى قصعتها، ولكن ليس هذا هو سبب ضعفنا، بل هو نتيجةٌ له. ضعفنا هو الذي أغرى الأمم بنا عندما أصابنا الوهن: حبُّ الدنيا وكراهية الموت (كما هو في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود).
نعم، هناك تداخلات وتناذرات، فالضعف يستجرّ العدوان، و"القابليةُ للاستعمار" أي شيوع روح الهزيمة، وضعف الثقة بالمبدأ، والتعلّق بمتاع الحياة الدنيا، والقعود عن البذل... تستدعي الاستعمار لملء الفراغ... كما أن وجود العدوان والاستعمار (المباشر وغير المباشر) يزيد الضعف أو يستنهض القوى ويشحذ العزائم.
4- كم تغنَّينا بأمجاد تاريخنا العطر، وكم ذكرنا أن شعوباً كاملة في جنوب شرقي آسيا دخلت الإسلام إعجاباً منها بالسلوك النظيف الراقي الذي كان عليه التجار المسلمون الذين وصلوا إلى تلك البقاع. وهذا كله صواب. ولكن لماذا نجد بعضنا يأكلون المال الحرام، أو يمارسون الغش والكذب، وقد لا يلتزمون بوعد ولا عهد؟!. أليست هذه المسالك مدعاة لغضب الله، وسبباً في ضعف المجتمع؟!.
5- نقرأ في كتب السيرة والتاريخ والفقه... عن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، ونعجب من بطولة خالد والقعقاع، وصلاح الدين وقطز والعز بن عبد السلام... فلماذا لا يقوم علماؤنا الذين يدرّسوننا هذا التاريخ المشرق، وهذه المناقب، بالاقتداء بأولئك العظماء، أم لعلّهم اكتفوا من علمهم بالجهاد وأحكامه، ليبحثوا عن عذر في القعود، وعن مثالب في جهاد من يجاهد؟!. وهنا نتذكر كلمة العالم المجاهد صاحب مجلة "الفتح" محبّ الدين الخطيب: "المسلمون إلى خير، ولكن الضعف في القيادة".
6- من القيم الإسلامية الكبيرة العظيمة وحدة الصفّ والاعتصام بحبل الله وتأكيد أخوّة الإيمان... ومع ذلك ننزلق بين فينة وأخرى، انتصاراً لفئة أو حزب، أو حرصاً على مكاسب سياسية، أو انسياقاً ساذجاً وراء تحريضات خارجية... فنجعل من المسلم الذي اختلفنا معه في اجتهاد فقهي أو سياسي، عدوّاً لنا، نستهلك في عداوته جهودنا وأوقاتنا وأموالنا، وقد نستهلك في ذلك من إيماننا... والعدوّ يضحك. أفلا تجاوزنا أسباب الشقاق والخلاف والتقينا على ما يجمعنا من إيمان وخير، وهو كثير؟!.
7- نتعلم كثيراً من أحكام القرآن والسنّة، لكننا نتخيّر منها ما لا يتطلب منا جهداً وبذلاً. ولقد عاتب القرآن الكريم قوماً بقوله: (هأنتم هؤلاء تُدعَون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم مَن يبخل). {سورة محمّد: 38}. ولعلّ بعضنا يبذل الجهد لتحسين تلاوة القرآن الكريم وأخذ إجازة في بعض قراءاته، وهذا بذاته جيد، لكنه لا يكاد يهتمّ بتمثّل أحكامه في الحياة.
وهنا نتذكر كلمة المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز: "أسوأ المواقف وأضرُّها بشريعةٍ ما: هو أن نتظاهر في مواجهتها بمظهر الورع، محترمين حروفها بكل عناية، وإن كنا نضيع هدفها وروحها، وذلك هو ما أطلق عليه القرآن الكريم: اتخاذ آيات الله هزواً".
نعم في المسلمين خير كبير يتمثل بمقدار ما في حياتهم من هدي القرآن، فليستزيدوا منه، أفراداً وجماعات ودولاً، وفيهم خلل كبير يتمثل بقدر ما أهملوه من هذا الهدي، فليستدركوا أمرهم، واللهُ يعينهم.
وسوم: العدد 776