العيد رؤية واقعية
العيد هو يوم ترتفع فيه ألفاظ الدعاء بألوان أجمل من ألوان قوس المطر لترسم لوحات من التهنئة، متوكلة على الله، مطمئنة إلى قوة الله وعدله، فوق منازعات ومنغصات وصعوبات وعقبات الحياة، لترسم لوحات من التفاؤل والبشارة والأمل والفرح والسرور، حامدة شاكرة رب العباد، فما كان من خير فلله الحمد والشكر، وما كان من ضر فلله الحمد والصبر ..
يوم ينظر الإنسان في العيد إلى الحياة بمنظار العمل وعدم التراخي، وإن كان على حافة الموت ووداع الدنيا، فهو مخلوق يعمل في هذه الحياة، والعمل مطلوب منه إلى آخر لحظة من لحظات عمره وإلى آخر نفس يتنفسه قبل قبض روحه،
يعمل وإن قامت الساعة أمامه، كما قال المربي حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" (البخاري في الأدب المفرد ، وأحمد في المسند) يعمل بجد ومثابرة، وتفاؤل وإن لم يرى ثمرة عمله، يزرع ويبني الحياة بالحب والأمل والطاعة وفعل الخير ولا ينتظر الثمرة، ولا يحتقر عمله مهما كان صغيرا، ولا يجادل لمن أبني ولمن أزرع ولماذا أكدح وأتعب "فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم" (سورة التغابن:16)
وينظر فيه الإنسان إلى الحياة بمنظار التفاؤل والسرور، فيفرح ويتفاءل رغم المنغصات ورغم المعوقات والمثبطات، فهذه كلها لا وزن لها، ولا تمنعه عن العمل في عمارة الأرض، ونشر العدل وإحقاق الحق وتشييد الحضارة.
يفرح ولكن بإحساس راق، وذوق رفيع، وتعبير جميل لمشاعره، فالفرح عبادة، والعبادة لا تكون إلا في لوحة مشرقة، يتحقق فها صلاح القلب، وتهذيب النفس، ولا تتعدى على الآخرين، ضمن ما يريده الله منا، لا ما يريده أهل الشهوات والأفكار الغربية، يفرح وليس معنى الفرح اظهار المعاصي، وفعل الفواحش، وارتكاب المنكرات.
يفرح حسيا ومعنويا، فيفرح بالطعام الحلال الطيب، والثياب الجديدة، واللقاءات والزيارات والألعاب، ومعنويا قلبيا يفرح بطاعة الله، وأن الله أنعم عليه بالقيام والصيام، يفرح أنه يزرع البسمة هنا وهناك ويخدم الناس، يفرح برضوان الله، وأنه يسير في حياته إلى الحياة الأخرى فلا يفصل بينهما، يفرح بسلامة قلبه من الحقد والحسد والكبر.
وينظر فيه إلى الحياة نظرة تدبر وشمول، فالحياة ليست مجرد صورة للمادة، وليست عمليات تخضع لعوامل كيميائية وفيزيائية، ورغم تقدم العلم وكثرة الافكار الفلسفية للحياة، ومعرفة العناصر والذرات المكونة للخلايا الحية، ومقدار نسبها، إلا أن الشيء غير المعروف لحد الآن هو نشوء الحياة، أو السر في تحول المادة إلى حياة والحياة إلى مادة، ولذا وقفت الفلسفة البشرية بكافة مدارسها ومذاهبها عاجزة عن تفسير حقيقي للتفريق بين الموت والحياة، إذ من أعمق الفلسفات وأعقد الأفكار حقيقة الموت والحياة، والعقل يحتار فيها أكثر كلما تمعن فيها أكثر.
ولكن الحياة لدى الإنسان المسلم، صاحب التصور الإيجابي والشمولي للحياة وللكون ولنفسه، يدرك حقيقتها وأبعادها، وأن الإنسان منذ أن خلق وجاء إلى الدنيا فهو في حياة مستمرة، حتى وإن مات فالموت نقلة إلى حياة أخرى.
ولذا كانت الحياة ميدان سباق ومسارعة الخير، وزرع الحب في كل مكان، وإفشاء السلام دون ملل أو كلل.
وهي ليست بديلا عن الحياة الآخرة، ولا العكس وإنما كلاهما، الحياة الدنيا والحياة الآخرة طريق واحد يسير عليه الإنسان فلا ينفصلان ..
وينظر فيه إلى الحياة نظرة سلام شامل متكامل متوازن فيعيش في سلام مع نفسه، وفي سلام مع من حوله، وفي سلام مع البشر، فلا إفراط ولا تفريط، فلا ينكر متطلبات روحه، أو يتجاهل طبيعة جسمه، أو يغالي في عقله، كما يفعل أصحاب الفلسفات بل يوازن بين حياته الروحية والعقلية والمادية، ويوازن بين طاقاته ومطالبها، ويوازن بين ما له وما عليه، ويوازن بين الدنيا والآخر.
قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه " (البخاري) ولذا لا يعتزل في العيد أو يتجهم بل يكون سعيدا متفائلا.
وينظر الإنسان في العيد إلى أهله وأحبابه نظرة ود وتراحم وإخاء، فلا حقد ولا كراهية ولا سوء ولا حسد ولا بغضاء ولا تنازع ولا تشرذم، فمكدرات الحياة كثيرة، ولا تخلو مخالطة الآخرين من تصرفات سخيفة، وإيذاء بغير حق سواء في نفسه أو أهله أو عمله، ولذا لا يمر يوم دون مخاصمة أو ظلم أو عدوان، والإنسان بطبيعته البشرية أمام حالتين من التعامل: إما الرد بالمثل، فيقابل السيئة بالسيئة، وبالثأر والقول الحاد، ولكنه لا يخلو من ردة فعل غير مضمونة النتائج، أو تخزين لأحقاد تظهر على السطح بعد شهور أو سنين.
أو الرد بأحسن منها فيقابل السيئة بالحسنة، فيطير إلى آفاق عالية، فالمسلم لا يحمل فوق ظهره وهو يسير في حياته اليومية الكراهية والبغضاء وسموم الغضب وطلب الانتقام، فالمسلم لم يخلق لأجل هذا، بل يجعل قلبه سليما، فيعفو ويصفح ويسامح "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"(سورة فصلت: 34) والعيد محطة لفتح القلب نحو الصفاء والنقاء ليفيض بالحب والمودة.
وينظر فيه الإنسان إلى الناس نظرة احترام وتقدير فلا يعتدي على أحد ولا يسب أو يشتم شعاره "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " (سورة فصلت: 33) فينشر العدل ويدعو إلى الله على بصيرة، فلا يتخذ من فلسفة العنف طريقا، ولا يتخذ من عنف الفلسفة منهاجا، وإنما طريقه واضح وضوح الشمس طريق السلام والحب.
فهذا الطريق سار عليه ديننا الحنيف، فالحب والسلام والتسامح لغة إسلامية فريدة وسلوك قويم وأخلاق عالية واقعية ممتدة عبر الزمن لأنها تستمد قيمتها من الله سبحانه، قبل أن تولد فلسفة الحب والتسامح الغربي القائمة على المصلحة والبراغماتية.
وليس معنى التسامح أن يكون ذليلا بل قويا، وليس معنى السلام أن يكون مستسلما بل عزيزا، وليس معنى الحب أن يكون طائشا شهوانيا بل عاقلا واعيا، وليس معنى الانفتاح على الآخر أن يكون متنازلا عن مبادئه بل حريصا عليها.
وينظر الإنسان في العيد إلى الكون إلى أنه أمر عظيم فلس معرفة الكون والتعامل معه شأن دنيوي بحت، والاشتغال به محتكر على أهل الغرب، وإنما هو شأن ديني دنيوي، عبادة لله وزيادة في الوعي والمعرفة والرقي الإنساني.
فالكون ليس مجرد مادة كما يطلق عليه البعض، أو التراب أو الطبيعة وإنما كل ما في هذا الوجود من سماء وأرض وما فيهما من مجرات وكواكب ونجوم ويابسة وجبال وصحراء وماء وبحار وأنهار وكائنات حية وإنسان ونبات وحيوان وحشرات وغيرها، فهي خلق من مخلوقات الله وأمم لها معيشتها وتنظيماتها وعلاقاتها مع بعضها البعض.
وبالتالي هي ليست في الاتجاه المضاد والمعاكس للإنسان فإما أن يخاف منها ويعبدها ويخضع لها ويقدم لها القرابين.
أو يصارعها ويتحداها ويسيطر عليها ويقهرها، كما تزعم الفلسفة اليونانية والاغريقية والعلم الغربي فيستخدمون ألفاظ ومصطلحات (ظلم الطبيعة) (قهر الطبيعة) (التمرد ضد الطبيعة) (غزو الفضاء)، وهي عبارات تدل على العدوانية وتوجس الخطر والمصارعة والسيطرة والقهر والتمرد ضد كل ما في هذا الكون المتناسق في بنائه، الجميل في نظامه، المنظور منه وغير المنظور، الموجود من أجل الإنسان، ليكون عونا له في حياته ومعاشه، ورفاهيته في جو من الأنس والصداقة والحب، وكأنه كائن حي، له إحساس وشعور ومشاعر، فلا يفسد، ولا يظلم حيوانا، ولا يلوث بيئة، ولا يدمر نبات، ولا يتذمر منه، فيتأمله وينظر له بعين البصر والبصيرة، متفكرا فيه، فهو كتاب مفتوح يقرأ فيه آيات الربوبية والألوهية، ويجد فيه دلائل القدرة والعظمة والمعرفة، ويستخرج خيراته، ويستلهم جماله، وبهذا يجد الإنسان نفسه جزء من هذا الكون الكبير المسخر له، وهما معا من خلق الله الواحد فيتجهان له بالعبودية.
ومن كل هذه النظرات البصرية والبصيرية، ومن كل هذا التعايش الجواني والبراني، ينظر النظرة الجميلة إلى العيد، فتنعكس بالتالي نظرته إلى الحياة وإلى العالم وإلى الكون، رغم المآسي والآلام التي تغرق فيها الأمة الإسلامية ..
فالإسلام دين التفاؤل والفرح والسرور، وليس دين الحزن، فرغم المصائب الكبيرة التي نزلت بالمسلمين بعد معركة أحد، جاء قوله تعالى " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"(سورة آل عمران: 139).
فالعيد لا يجتمع معه الحزن، بل يتم تحويل الحزن إلى قوة إيجابية للتغيير، فهو يوم الشعور الواحد للجميع، والتكبير الواحد للجميع، والنظرة التفاؤلية الواحدة للجميع، واليقين الواحد من الجميع بنصر الله، فدين الله باق "ولو كره المشركون"، والله متم نوره "ولو كره الكافرون "، فعمر الإسلام أطول من أعمار البشر، وحياة البلاد والمدن أطول من حياتنا، ذهب المغول وبقيت خوارزم وبغداد، وذهبت الحملات الصليبية وبقيت بلاد الشام، وبلاد المسلمين لا تحتاج إلى من يتباكى عليها بل تحتاج إلى من يعمل لها.
والعيد سيأتي كل عام مرتين بفرحه وبهجته مادام يأتي شهر رمضان، والحج ، مادام دين الله باق فأهلا بالعيد ..
وسوم: العدد 777