الربيع العربي تَحت المَجهر الحلقة الثامنة
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
هل كان الربيعُ العربي محنةً أم منحةً؟
أولاً: الربيع العربي كمحنة:
▪ اختلف العرب في تقييم الربيع العربي اختلافاً جذرياً، وكعادة العاطفيين والانفعاليين منهم وهم كثيرون، فقد ذهبوا بعيدا جدا في طرفين نقيضين في سياق فهم حقيقة هذه الثورات والتنبوء بما ستؤول إليه، وقد وصل التناقض إلى مدى لا يقبله عقل ولا يستسيغه منطقه ولا تؤيده الواقع، فقد ذهب المتفاؤلون إلى حد رسم صورة وردية لما سيكون عليه الربيع بعيدا عن كثير من حقائق الواقع، وذهب التشاؤم بآخرين إلى حد تبني نظرية المؤامرة واتهام عشرات الملايين من الثوار بأنهم كانوا ضحية مؤامرة أجنبية شديدة الإحكام، مع التلويح بأن كثيرا من زعماء تلك الثورات كانوا ضالعين وضليعين في تلك المؤامرة، بما فيهم آلاف من العلماء في كل التخصصات والقادة والمصلحين والدعاة ومن عُرفوا بحدة الذكاء وكمال الوطنية!
▪ لقد بدا البون شاسعاً بين الفريقين، فقد رأى أنصار الربيع أن هذه الثورات غضب سماوي على أنظمة الجور والفساد وأنها تقدير إلهي لن يتوقف حتى تصنع هذه الثورات العجائب وتحقق آمال الشعوب، وأنها في سبيلها لتغيير خارطة العالم وإعادة الخلافة الراشدة التي ستقيم مجد الأمة في هذا الزمان وتعيد العصر الذهبي لأمة الإسلام، ولقد ظل صوت هؤلاء مرتفعاً بالآمال غير المبنية على حقائق ووقائع، حيث تجاهلوا كثيرا من التحديات والعقبات، معتقدين أن عالم الغيب سيتدخل لإصلاح عالم الشهادة ، وأن ما لم تُصلحه السُّنن الجارية ستحققه السُّنن الخارقة، وعامة هؤلاء من المظلومين خلال عقود من التسلط والاستبداد وممن مارس صورا من التدين الذي يمتلئ بالصدق والإخلاص لكنه يكاد أن يكون فارغا من الفهم العميق لهذا الدين، مع افتقار شديد للوعي بالواقع وضعف واضح في فقه السُّنن!
▪وفي الطرف الآخر كان أوتاد الأنظمة المتهاوية ورموز الدُّول العميقة، يتحدثون بتشاؤم شديد عن هذه الثورات، ووصل الحال بكثيرين إلى حد تسمية هذه الثورات بالربيع العبري، مستدلين بقرائن معظمها متصلة بالمآلات التي حدثت لهذه الثورات، وتَسبّبها في صنع تداعيات غير مرغوبة، والعجيب أن هذا الاتجاه تبنّاه بجانب بطانات النظم المتساقطة غلاةُ اليسار وبعض القوميين والليبراليين بل وبعض المحسوبين على الاتجاه الإسلامي ولا سيما من السلفيين والصوفيين وخريجي الجامعات التقليدية، بجانب كثير من الشيعة وبعض منتسبي الأقليات الطائفية والدينية والعرقية، كالنصيريين في سوريا والأقباط في مصر والأكراد في سوريا والعراق!
▪وبغَظّ النظر عن هذا الشطط سواء عند المتفائلين أو المتشائمين، فإننا سنحاول النظر إلى الأمر من زاوية المصالح والمفاسد، ومن خلال قراءة موضوعية تجمع بين ما أراده رواد هذه الثورات وما حصل بالفعل في الواقع، وتراعي ما يمكن أن يحصل في المستقبل بناء على هذه الخبرة الضخمة، ومن ثم فإننا نطرح السؤال بإلحاح: هل كان الربيع العربي منحة أم محنة؟!
مظاهر المحنة في الربيع العربي:
1 - فقدان الأمن والسلام:
بالنظر المجرد إلى النتائج البارزة للعيان في بلدان الربيع العربي، نستطيع أن نقول إن سوريا واليمن وليبيا قد فقدت أمنها ودخلت في دوامات حروب مدمرة مهما كانت طبيعة وشكل هذه الحروب، ومهما كان من تسببوا فيها وأشعلوا أوارها ومنعوا عودة السلام إلى ربوعها، ومن المعلوم أن للحروب الطويلة خسارتها المادية الباهضة وآثارها التدميرية على البنية التحتية، وعودتها بالحياة إلى الخلف.
2 - سقوط الدولة الوطنية وبروز أشكال من الاحتراب الأهلي:
وتسببت هذه الثورات في تدمير النسيج الاجتماعي، أو هكذا تُتهم على الأقل، وخرجت كثير من الآفات الكارثية من رحِمها، وليس أقلها انتشار المليشيات العسكرية التي تسعى لتحقيق أهدافها الفئوية والعصبوية على حساب تدمير النسيج الاجتماعي والقضاء على الحس الوطني الجامع والذي قد تستغرق عودته عقودا من الزمن، وفي هذه البلدان استيقظت الدوائر العصبوية الضيقة على حساب الدائرة الوطنية الواسعة، حتى أن ليبيا صارت اثنتين واليمن يمنين، وسوريا صارت قاب قوسين أو أدنى من أن تصير ثلاث دول إحداها للنصيريين والثانية للأكراد والثالثة للسُّنّة.
3 - حدوث شروخ قوية في النسيج الاجتماعي:
وفي تونس ومصر كانت تداعيات الثورتين أقل سوءا في مجال المظهرين السابقين، نتيجة عوامل ذكرناها من قبل، لكن لا يستطيع أي متابع أن ينكر حدوث هزات قوية للنسيج الاجتماعي في البلدين، حيث شكلت الثورة المضادة تحالفا عريضاً تمكّن من استعادة مقاليد النظامين، وما زال التحالف ضد أنصار الثورتين قائماً، مما تسبّب في إحداث شرخ عميق وسط المجتمع ولاسيما في مصر، حيث اقتيد إلى السجون عشرات الآلاف من قادة وأنصار ثورة يناير، وتعرّض أغلبهم لأقسى أنواع التعذيب، وتعرضت ممتلكاتهم الفردية والجمعية للمصادرة والسلب والنهب، وتعرضوا لعملية اغتيال معنوية، من خلال حملات ضخمة غير مسبوقة لشيطنتهم كأفراد وجماعات، وهذا سيترك جروحاً غائرة في المجتمع المصري ولسنوات طويلة، حيث استمر مشجب الإرهاب يُستخدم في تبرير كل عمليات القمع التي تنال الملايين من المعارضين بطرق مختلفة تتراوح بين السجن والاغتيال والقتل والنفي والمطاردة والإذلال والفصل من الأعمال ومن المعاهد والجامعات.
4 - حدوث هزات اقتصادية قوية أثّرت بعمق على معايش الناس:
وبجانب ذلك تعرّض الاقتصادان المصري والتونسي لآثار سيئة ما تزال تداعياتها تتحكم بمساري هذين الاقتصادين إلى الآن، حيث تراجع الإنتاج وتراجعت السياحة وهي مصدر رئيسي للدخل الوطني في كلا البلدين، وتوقفت الاستثمارات وضعفت عملية التنمية؛ مما أثر سلباً على معيشة المواطنين فزادت أعداد العاطلين عن العمل والداخلين تحت خط الفقر وتردّت الخدمات وزادت الأسعار، أما في سوريا واليمن وليبيا فالأمر أدهى وأمر، حيث عادت هذه البلدان عقودا إلى الخلف مقاييس الدمار الذي حدث للإنتاج والاقتصاد، والآثار الكارثية التي تعرضت لها معايش الناس، إلى حد جعل من تُسمّى بالفئة الصامتة تجأر بالشكوى وتجاهر بالندم على الأمس، بل وقام بعض الذين ساهموا في الثورة بعَضّ أصابع الندم على تجاوبهم مع دعوات الثوار، حتى أصبح بعضهم يُصغون أسماعهم لمن يعتبرون أن الربيع العربي مؤامرة غربية ضد العرب، وأنه أقرب إلى أن يكون ربيعا عبرياً، ولا سيما بعد أن شكلت الثورات المضادة خارطة جديدة أزالت الكثير من العوائق أمام التمدد الذي تخطط له إسرائيل في المنطقة التي تعتبرها أرض الميعاد !
5 - استفزاز بعض دول الخليج ودفعها إلى رمي كل قدراتها في طريق قطار الأمة:
ومن أضرار الربيع العربي الملموسة أنه استفز أكثر دول الخليج ذات الوفورات المالية الضخمة، ولاسيما السعودية والإمارات، ودفعهما لجعل القضية الأمنية هي الأولوية الأولى والثانية والثالثة، حتى أن أكثر الميزانيات، الحقيقية وليست المعلنة، لهذه البلدان صارت تُكرَّس لصالح الأمن، وزاد من تصاعد الجهود الإدارية والمعنوية التي تجعل من الجيوش مؤسسات أمنية خالصة بكل ما تمتلكه من أسلحة تسببت في إتخام خزائن الدول الغربية وخاصة أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، ثم إنه قد جعل هذه الدول تندفع لمحاربة الحركات الإسلامية في كل بلد، بكل ما أوتيت من أموال ومن حماقة، دون أي تبصُّر بالعواقب، حتى أن الإمارات وقفت ضد شعوب وأقليات إسلامية عديدة نكايةً بالإسلاميين.
6 - المساهمة في عودة المنطقة إلى الحرب الباردة:
ورغم أن الربيع العربي قد أظهر كم أن الغربيين متفقون على وأد أحلام الحرية والكرامة والوحدة والاستقلال كلما ظهرت في أي مكان من بلدان العرب والمسلمين، ولكن ردود الفعل أعادت إلى الواجهة ما يشبه حلف وارسو والحرب الباردة بين كتلتي الغرب والشرق، ولكن هذه المرة بأموال ودماء عربية خالصة، إذ تنحصر الحرب في الرقعة العربية، فقد كان الغربيون من الذكاء بمكان، بحيث أظهروا روسيا كنصير لكل نظام مهدَّد بالسقوط من قبل الشعوب أو لا يحظى برضى الغرب، ولو على مستوى الجانب الإعلامي كأنظمة إيران وسوريا والعراق، بل ألجأوا أنظمة تعتز باستقلالها الوطني إلى إقامة تحالفات اضطرارية مع روسيا وعلى رأسها تركيا وقطر والسودان التي تشعر بأخطار وجودية على أنظمتها من قبل الغرب!
7 - محاولة تصفية القضية الفلسطينية وتسويق ما يسمى بصفقة القرن:
وعندما رأى الغرب وإسرائيل حجم التغيير الذي أحدثه الربيع العربي في ميزان القوى لصالح القضية الفلسطينية، وحجم الدعم المادي والمعنوي الذي لقيته حركات المقاومة رغم قصر المدة التي حكم فيها الإخوان المسلمون مصر على سبيل المثال؛ فقد تسارعت المؤامرة على حركة المقاومة وقاعدتها في غزة، حيث تم إطباق الحصار تماماً، وتم تجفيف منابع التمويل بقوانين وقرارات بل وبفتاوي صارمة تُجرِّم التبرع لحماس؛ مما دفع حماس للظهور لأول مرة كأنها ترتمي في أحضان إيران، وتم تفجير الأنفاق التي كانت تتنفس من خلالها غزة أيام حسني مبارك، وثالثة الأثافي هي ما تسمى بصفقة القرن التي تسارع الخطى من أجل اجتثاث القضية الفلسطينية من جذورها، وتوطين إسرائيل كسيدة للمنطقة وتطبيع كافة العلاقات بين المسلمين والصهاينة!
ولكن ما هي المنجزات والعطايا التي تجعلنا نقول إن للربيع العربي منحاً قد تفوق ما تسبّب به من محن؟
هذا ما سنحاول معرفته في الحلقة القادمة.
وسوم: العدد 777