نظرات في تفسير كتاب الله
في سياق الدعوة إلى "تجديد الدين" التي نبتت خلال العقود القليلة الماضية طلع علينا بعض أدعياء التجديد بقراءات للقرآن الكريم زعم فيها كل منهم أنها التفسير الجامع المانع الذي لم يسبق إليه !؟ وقد حق لهم هذا الادعاء فقد جاؤوا في هذه القراءات بكل ما هو شاذ وعجيب وغريب؛ لم يسبقوا إليه حقاً !
وقد أظهرت المراجعات العلمية لهذه القراءات تهافتها، وتعارضها مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يعرف عنه مثل هذا التفسير، وهو الذي نزل عليه قول الله تعالى : "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" سورة النحل 44 .
فهل تساءل هؤلاء الأدعياء عن الأسباب التي منعته - صلى الله عليه وسلم - من التفسير ؟ وهل غاب عن هؤلاء الأدعياء قول الله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) سورة ص 88 ، وغيرها من الآيات التي تدل على أن الله عز وجل قد جعل تفسير بعض آيات القرآن الكريم رهناً بالمستقبل الممتد إلى يوم القيامة، فقد شاءت حكمته تعالى أن يكون هذا الكتاب العظيم خاتم كتبه السماوية، فأودع فيه من الأسرار ما يجعله معجزة متجددة على مر العصور إلى آخر الزمان، ولهذا قدر أن لا يفتح كل أسرار هذا الكتاب العظيم دفعة واحدة، بل أراد لها أن تفتح شيئاً فشيئاً في قادم الأيام ليقيم بها الحجة على صدق هذا الكتاب وما فيه؛ عصراً بعد عصر، وجيلاً بعد جيل !
مقاربات للقرآن لا تفسير :
فإذا صحت هذه الرؤية – وهي في اعتقادنا صحيحة – فإنها تعني أن أحداً من المفسرين لن يستطيع تفسير القرآن الكريم تفسيراً نهائياً جامعاً، وربما لهذا السبب وجدنا بعض العلماء المعاصرين يتحفظون في إطلاق وصف التفسير على مقارباتهم للقرآن الكريم؛ من ذلك مثلاً أن "سيد قطب" رحمه الله تعالى قد أطلق على مقاربته عنوان ( في ظلال القرآن ) ولم يسمه تفسيراً، وكذلك فعل الشيخ "محمد متولي الشعراوي" رحمه الله تعالى الذي أطلق على مقاربته وصف "خواطر" ولم يسمه تفسيراً؛ اعتقاداً من هؤلاء العلماء أن لو كان بالإمكان تفسير القرآن الكريم تفسيراً قاطعاً مانعاً لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بهذا التفسير، لأن القرآن عليه نزل، وبه انفعل، لكنه - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بأن يبين للناس من مكنونات القرآن الكريم على قدر حاجتهم للبيان، فبين لهم الأحكام التكليفية التي تلزم المؤمن للقيام بما أمره ربه، أما ما يتعلق بظواهر الكون فلم يعرض النبي – صلى الله عليه وسلم - شيئاً مما علم منها، لأن العقول في عصر النبوة لم تكن مهيأة لتقبله، ولأن القرآن الكريم لم ينزل ليعلمنا كيف نكشف أسرار الوجود، واكتفى بإشارات عامة حولها، وترك بيانها إلى زمن تصبح فيه العقول على استعداد لتقبلها، كما هي حال العقول في عصرنا الراهن الذي باتت فيه العقول تتشوف إلى معرفة هذه الأسرار .
فقد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم – من بعض آيات القرآن الكريم؛ أن الله عز وجل أراد أن يترك للمستقبل كشف أسرار ما في القرآن الكريم من آيات كونية، ومن ذلك مثلاً قوله تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) سورة فصلت 53 ، فقد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم – من هذه الآية وأمثالها أن آيات الكون سوف تفسر آيات القرآن، وأن ما زاد عن الأحكام المطلوبة فالزمن كفيل بتفسيره .
هذا مع اعتقادنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم الكثير من أسرار الكون، لاسيما بعد معراجه إلى السماوات العلى حيث "رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ" سورة النجم 18 ، لكنه وجد من الحكمة عدم نشر ذلك؛ فلو أنه مثلاً تحدث هو أو تحدث القرآن الكريم عن "كروية الأرض" كلاماً صريحاً واضحاً، فلربما كان في هذا فتنة للناس لا زيادة إيمان ويقين، فقد يكون في كشف بعض أسرار الوجود إذا جاء في غير زمانه، أو عرض على عقول غير مهيأة لقبوله، قد يكون في هذا الكشف ضرر لا نفع!
وهل انتفاع البشر بالأرض مرهون بمعرفتنا كرويتها؟ الجواب قطعاً : لا، فقد ظل البشر يستفيدون من الأرض قبل معرفتهم بكرويتها، ومازالوا، فالاستفادة من الشيء لا تتوقف بالضرورة على معرفة كنهه، فقد سخر الله لنا الكون ولم يجعل هذا التسخير رهناً بمعرفة أسراره، فقال تعالى : "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" سورة الجاثية 13 .
أضف إلى هذا .. أن معرفتنا بكروية الأرض لا ينبني عليه أحكام، ولهذا اكتفى القرآن الكريم بإشارات عامة إلى ما في الكون وما في الأرض من نعم وآيات لتعميق الإيمان في القلوب، ولم يذكر التفاصيل التي قد تصرف السامعين عن المنهج التشريعي في القرآن، ولهذا اكتفى بذكر إشارات عامة إلى بعض حقائق الكون دون كشف أسرارها أو تفاصيلها، وبهذا جعل من هذه الإشارات حافزاً لأصحاب العقول لفك هذه الأسرار ! وبهذا كان القرآن الكريم حافزاً للعلم، ونبعاً لا ينفد لحقائق الكون؛
ولو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر القرآن الكريم تفسيراً شاملاً لجمد القرآن، فمن ذا الذي يجرؤ أن يفسر القرآن الكريم بعد أن يفسره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو أنه فعل ذلك لقطع الطريق على العلم؛ وبهذا يكون عدم تفسير النبي للكونيات تعبيراً عن احترامه للعقل والعلم والعلماء .
فرادة القرآن الكريم :
ويصدق في القرآن الكريم ما جاء في الأثر : " لا تنقضي عجائبه" فقد تميز القرآن الكريم عن الكتب السماوية التي سبقته بصيغة فريدة؛ فقد اقتصرت تلك الكتب على المنهج التشريعي وحده، أما القرآن الكريم فقد اشتمل – في آن واحد - على المنهج والمعجزة الدالة على صدق الرسالة والرسول، فالتوراة التي أنزلت على نبي الله موسى عليه السلام تضمنت المنهج، أما المعجزة فكانت العصا، وكذلك الإنجيل الذي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام تضمن المنهج فقط، أما المعجزة فكانت تلك الآيات التي أجراها الله عز وجل على يدي عيسى عليه السلام .
وهكذا نجد أن الكتب السماوية السابقة على القرآن قد حملت المنهج دون المعجزة، أما القرآن الكريم فقد امتاز بجمع المنهج والمعجزة معاً .
وبما أن القرآن الكريم قد نزل ليكون الرسالة السماوية الباقية إلى قيام الساعة، فقد شاء الله عز وجل أن يودع فيه من الآيات ما يدل على إعجازه المتجدد إلى آخر الزمان، وكأنه يقول إن محمداً رسول الله وهذه هي معجزته .
وبهذا تميزت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم بأن كانت عين المنهج وكان المنهج عين المعجزة، وتميزت بأنها أمر موجود يمكن أن يشار لها في أي وقت من الأوقات؛ أما المعجزات السابقة فقد كانت مرهونة بزمانها، وانتهت في الماضي، فمن كان يدين بصدق الخبر عنها فقد صدقها، ومن لا؛ فليس حجة تلزمه التصديق !
أما إن قلنا لأحد هذه هي معجزة محمد وما فيها من دلائل الإعجاز لم يسعه أن ينكرها، وهذا ما شهدته شخصياً في العديد من مؤتمرات "الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" إذ رأيت أساطين العلم يعلنون إسلامهم على الملأ عندما يطلعون على بعض آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن ظواهر كونية لم تكن معلومة في زمن النبي، ولم تكشف إلا في العصور الحديثة !
القرآن عطاء متجدد :
وهكذا .. شاء الله عز وجل أن يكون عطاء القرآن الكريم متجدداً حتى آخر الزمان؛ ففي كل عصر يكشف الله عز وجل من آياته وأسراره ما شاء كما أخبر تعالى فقال : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سورة فصلت 53 ، ونستشف في هذه الآية الكريمة ما يوحي بأن الذين سيكشفون هذه الآيات الكونية لن يكونوا في الغالب من المؤمنين؛ وهو ما نراه في عصرنا الحاضر، فكما أعجز اللهُ العربَ أهل البيان والبلاغة ببيان القرآن وبلاغته، فها هو اليوم يعجز غير العرب بما فيه من إشارات كونية بينة، حتى ظهر اليوم باب جديد في تفسير القرآن الكريم تحت عنوان "الإعجاز العلمي في القرآن" فتبارك الله الذي أنزل هذا الكتاب في أكمل مثال، وأعظم بيان .
فهل أدرك أدعياء التجديد، أن ما بين مقارباتهم لكتاب الله وبين هذا الكتاب العظيم بُعدَ المشرقين " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" سورة محمد 24
وسوم: العدد 778