الربيع العربي تحتَ المَجْهر الحلقة التاسعة
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجة
هل كان الربيعُ العربي محنةً أم منحةً؟
ثانياً: الربيع العربي كمنحة:
تعرفنا في الحلقة الماضية على أهم مظاهر المحنة التي تسبّب فيها الربيع العربي، حتى لو كان الضرر الذي نال الشعوب من فعل الثورات المضادة، وفي هذه الحلقة سنحاول التعرف على أهم المظاهر التي تشير إلى أن هذه الثورات كانت منحة إلهية لهذه الشعوب، ويمكن تلخيص أهمها في النقاط الآتية: 1 - إعادة الحرية إلى صدارة القيَم المقدسة:
لقد نجحت عهود الاستعمار وعقود من حكم أنظمة الجور والاستبداد في ترويض الشعوب وتدجينها، وفي القضاء على أجهزة مناعتها الاجتماعية، حيث ظل الاستبداد يتربع على كواهل الشعوب العربية طيلة العقود الماضية، واستمر المفسدون يصولون ويجولون بدون رقيب أو حسيب، بل واستطاع حقن قطاعات عريضة من أبناء المجتمعات بمَصْل السلبية والأنانية، ونجح في جعلها تدور حول أفلاك عصبوية ضيقة، وتبحث عن الخلاص الفردي بعيدا عن الوعْي الجَمْعي والمصلحة العامة، وفي أحسن الأحوال وعندما تسوء الظروف فإنها تثور من أجل خبزها ولقمة عيشها بأفعال احتجاجية طائشة، كما حدث في مصر مثلاً سنة 1977 فيما سماها الرئيس السادات حينها بانتفاضة الحرامية، وذلك عندما ارتفعت أسعار الخبز، وكما حدث في اليمن في 1992 عندما رُفع جزء من الدعم الحكومي عن القمح والمشتقات النفطية، وحدث مثل ذلك أو قريب منه في كل من تونس والمغرب وموريتانيا والسودان والأردن والجزائر.
لقد أظهرت ثورات الربيع أن الإنسان العربي لا يحيا بالخبز وحده، وأنه لم يعد سلبياً وجباناً، حيث يمكنه أن يتحرك من أجل الحرية ويضحي من أجل الكرامة، وبدا للعيان أنه مستعد أن يموت دون حريته وحرية شعبه، وقد أبرز الربيع العربي نماذج مُشْرقة ومُشرِّفة ممن بذلوا الغالي والنفيس في سبيل هذه القيمة المقدسة، وفهم الملايين أن الحرية جزء أصيل من عقيدة المسلم وأنها تتقدم على الشريعة، ومهما فعلت الثورات المضادة فإن الوعي بهذه الحقيقة يتسع مع مرور الأيام، ولابد أنه سيكون له تفاعلات تُفضي في النهاية إلى انتزاع الجماهير لحرياتها واستعادتها لحقوقها كافة.
2 - كَسْر الجماهير لحاجز الخوف من أنظمة الرُّعب:
لقد عاشت الشعوب العربية عقودا من الخوف؛ نتيجة إرهاب أنظمة الحكم لها واستخدام إمكانات الدولة الهائلة وسطوتها الضخمة ومنظوماتها القانونية لقمع الحريات ومصادرة الكرامات، ولتكميم الأفواه وتأميم الحقوق. ولقد ارتكبت تلك العصابات التي تلبس أردية الأجهزة الأمنية من الموبقات والجرائم ما لا يخطر على بال، غير أن المجتمعات لم تجرؤ على الاعتراض، حيث تَعرّض المعترضون - وهم أقلية - لأبشع الجرائم التي جعلتهم أمثولة لكل من يفكر بالاعتراض.
وبحمد الله فقد كسرت ثورات الربيع العربي حاجز الخوف هذا، فقد تشجعت الجماهير على الصّدع بكلمة الحق وعلى الاعتراض على ما هو باطل، حيث زمجرت الشعوب وقالت كلمتها بدون تردد، وعندما كُسر حاجز الخوف دخلت كثير من الجماهير إلى مربع النضال السلمي بكل شجاعة رغم رؤيتها لقوافل متتابعة من الشهداء، ذلك أن الله يكافئ الناس الذين ينتصرون لقيمهم بنزع الوهن من قلوبهم ورفعه من بينهم، ولذلك رأينا شبابا يتنافسون على اقتحام مواطن الموت ويتنافسون على بلوغ مقامات الشهادة، دون أن يَرف لأحدهم جَفْن أو تهتز له شعرة، حيث انتقل الخوف إلى قلوب الحكام وبطاناتهم التي تضخمت بطونهم من أكل حقوق الناس، وهذا ينقلنا للنقطة التالية.
3 - إعادة الاعتبار للشعوب وتَشرُّبها للحِسّ الثوري:
لقد كانت ثورات الربيع العربي دورات توعوية لمعرفة حقوقها وحرياتها، وكانت ورشاً تدريبية لمعرفة كيف تتنزع حقوقها وتُرابط في ثغور الحرية المقدسة، مما دفع بأعداد هائلة لرسم صور من الجسارة وتجسيد نماذج من البطولة التي أذهلت العالم وأدهشت الناس.
لقد أعاد الربيع العربي الاعتبار للشعوب المغلوبة على أمرها والمنطوية على أوجاعها وجروحها، حتى أن المسؤولين صاروا يَخطبون وُدَّها ويَخشون غضبها، ويتسابقون لنيل رضاها.
لقد تَشرّبت أعداد عريضة من الجماهير المستكينة الروح الثورية، واحتست من جديد شراب القوة والحرية والجسارة، مع تقديم نماذج رائعة في الانضبط الشديد والالتزام الصارم بالعمل السلمي في مختلف ساحات وميادين الثورة، لقد رفض عامة الثوار التوسُّل بالقوة والاندفاع نحو العنف لانتزاع حقوقهم، رغم العنف الحكومي المضاد الذي وصل إلى حد قتل الآلاف من الشباب السلميين بل ومن النساء والأطفال والشيوخ ومن المعوقين وأصحاب الاحتياجات الخاصة، وبطرق بشعة تستفز القلوب وتستجيش العواطف والانفعالات، ولذلك فقد ظلت هذه الثورات سلمية وظل الثوار يقبضون على الجمر ويضغطون بأسنانهم على مواجعهم دون أن يردوا على العنف بعنف مضاد، وبهذا فقد وضعت بدائل للانقلابات العسكرية وقضت على جزء من أسباب الحروب الأهلية!
4 - تعرية الأنظمة العربية في عدائها لشعوبها وعمالتها للغرب:
صحيح أن الأنظمة العربية في غالبها هي أنظمة قمع وقهر، وصحيح أن ظلمها لم يغادر صغيرة ولا كبيرة في الواقع إلا ووصلتها، ولكن كانت توجد مجاميع عريضة ممن نجحت أجهزة الإعلام والدعاية الحكومية والموالية لها في عمل غسيل مخ لهم من المواطنين، حيث ظل هؤلاء يحسنون الظن بهذه الأنظمة ولاسيما في ما يتعلق بعلاقاتها بالآخر، إذ كانت تتسابق على سَبّ الاستعمار في المواسم وعلى مهاجمة إسرائيل والتمسح بالقضية الفلسطينية في المناسبات، وعندما حانت ساعة الحقيقة انفضح المستور وبان المخبوء، فإذا هذه الأنظمة مجرد (أحجار على رقعة الشطرنج) يحركها الغربيون والصهاينة كيفما يريدون، ولقد أدّت أشعة شمس الثورات إلى إذابة مساحيق التجميل وإسقاط أوراق التوت، فبانت العمالة في أقبح صورها! ولا شك أن تعرّي هذه الأنظمة بهذه الصورة أمام عشرات الملايين من السُّذّج الطيبين سيكون له ما بعده، طال الزمن أو قصر.
*5 - فضح زيف الغرب:
ظل الغرب يُقدّم نفسه كداعية مخلص للديمقراطية ونصير قوي للحرية، وما فتئ يُبرز وجهه الجميل ولا سيما للنخب العربية التي ربّاها على عينه، والذين جنّدهم لنشر ثقافته وتنفيذ أجنداته! وعندما هبّت رياح الربيع العربي ورغم دهاء الغرب؛ فقد بان لكثير من المعجبين بالغرب كم أن هذا الغرب يَعبُد مصالحه وكم يُمكنه خيانة مبادئه الإنسانية البَرّاقة من أجل هذه المصالح! لقد حاولت الأنظمة الغربية أن تظهر تأييدها الإعلامي لرغبات الشعوب في الانعتاق من أسْر العبودية ومن أغلال الديكتاتورية، لكن الأعمال على الأرض أظهرت كم هي مرتبطة بأنظمة الجور وكم هي مستفيدة من بقاء الطغاة وحكام الفساد، فقد وقفت وراء الثورات المضادة بكل ما تملك من معلومات غزيرة وخطط ماكرة، يتضح ذلك من المشاكل التي صنعتها للأنظمة التي خرجت من رحم الثورات والتي وصلت إلى حد الحصار غير المعلن، ويتضح من دعم الأنظمة الخانعة لها للدول العميقة ولكل من له ثأر مع ثورات الربيع العربي، بل لقد اتضح وجود علاقة طردية بين درجة عمالة بعض الأنظمة العربية لها وبين دعمها للثورات المضادة، ولأن النظام الإماراتي على سبيل المثال كان في الحضيض من العمالة للغرب فقد كان في ذروة التآمر ضد الربيع العربي، وقد رأينا أن من اشتد فناؤه في الغرب من أنظمة ومنظمات عربية هو الأكثر تفانياً في محاولات إفناء هذه الثورات !
6 - إبراز وحدة الأمة:
بعد عهود من تقطيع أوصال وأواصر هذه الأمة وبعد جهود جبارة في مجال إيقاظ كافة العصبيات التي فرقت شمل المسلمين وأظهرتهم كأنهم كواكب متباعدة أو جزر منعزلة، جاءت ثورات الشباب العربي لتظهر إمكانية وحدة الأمة من جديد، فقد كانت الثورات ذات أهداف عريضة واحدة، واتضح كيف ارتبطت مصائر العرب ببعضهم إذ كان الجميع يتابعون بتلهف كلما يدور في أي بلد من بلدان هذه الثورات، فعندما حدث الزلزال التونسي اهتزت أرجاء القاهرة وصنعاء وطرابلس ودمشق وغيرها من مدائن العرب! لقد تجاوزت المشاعر كل الحدود والفواصل، وتحولت المشاعر إلى مشاعل وعي جَمعي، وسرعان ما تحولت الانفعالات المشتركة إلى فاعليات انتشرت في كثير من الأرجاء كانتشار النار في الهشيم! ولقد أوضحت الأحداث أن نجاح ثورة الياسمين التونسية كان إيذانا باندلاع ثورة يناير المصرية، وفي ذات الليلة التي نجحت فيه الثورة المصرية في إسقاط حسني مبارك خرجت الجماهير اليمنية إلى الشوارع فرحا بما حدث (11فبراير)، وبعد بضعة أيام حدث مثل ذلك في شوارع المدن الليبية (17فبراير)، وسرعان ما تحول هذا الانفعال إلى فعاليات ثورية عمت كافة المدن اليمنية والليبية، ثم انتقل الربيع إلى سوريا في مارس، وظهرت في تلك الأثناء مجاميع ثورية في كل من العراق والبحرين وسلطنة عمان والجزائر والأردن والمغرب وموريتانيا، وظهرت بوادر تململ في بقية البلدان العربية، وقد قامت السلطات هناك بذات الدور الذي قام به الرئيس التونسي زين العابدين بن علي عندما قال: (أنا فهمتكم)، ولكن قبل أن تندلع الثورات ويفوت الأوان! ومهما يكن الأمر فقد اتضحت وحدة الأمة لدرجة أن الوجع الذي يحصل في القاهرة يتألم له أهل الخليج، والبرد الذي يصيب سكان المخيمات في حلب يصيب أهل اليمن بالزكام!
7 - تحقيق بعض الأهداف المرحلية
: لا شك أن هناك أهداف عامة لهذه الثورات، ولكي تتحقق هذه الأهداف الضخمة تحتاج إلى أمور كثيرة والزمن عامل مهم فيها، لكن كل ثورة كان لها أهداف جزئية ومرحلية لا شك أن بعضها قد تحقق عند النظر في ما تحقق، ومنها:
- سقوط الطغاة الذين أذاقوا شعوبهم الويلات، فقد هرب زين العابدين بن علي من تونس لا يلوي على شيئ كما كان يطارد المعارضين خارج بلاده، وأُدْخِل حسني مبارك إلى السجن هو وابناه كما أدخلوا عشرات الآلاف من المصريين إلى السجون فقط لأنهم معارضون سياسيون، وقُتل القذافي بدون محاكمة كما كان يفعل عبر لجانه الثورية ومؤتمراته الشعبية التي كانت تقتل بأمره كل من تشك بمعارضته بدون أي محاكمة، وخُلع علي صالح من حكم اليمن دون أن يتم عقابه بسبب حكمة اليمنيين وتسامحهم، لكنه ظل يرقص على رؤوس الثعابين، فقُتل بطريقة غادرة من قبل الحوثيين الذين مَدّ لهم يد الصداقة نكايةبثوار فبراير، مثلما كان يفعل مع خصومه الذين كان يوهمهم أنه صار صديقاً لهم!
أما بشار الأسد ونظراً لأهميته في بقاء إسرائيل وخصوصيته الطائفية، ونظرا لتأخر الثورة السورية إلى أن استطاع الأعداء امتصاص الصدمة وتدبير خطط المواجهة، فقد تم إنقاذه من ذات المصير، وذلك عبر تدخل الغرب بطريقة ماكرة تحت ميمى محاربة داعش والإرهاب، وعبر تدخّل إيران وروسيا وعشرات المليشيات الشيعية التي جاءت من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان بصورة سافرة، بجانب مقاتلين من باكستان واليمن والبحرين ومرتزقة من روسيا وغيرها
! - إقامة انتخابات ديمقراطية في تونس ومصر واليمن وليبيا، تمكَّن الناس فيها من اشتمام أريج الحرية وعَبَق الكرامة، وحصد أنصار الربيع فيها الأغلبية، وشارك الإسلاميون بصفتهم اللاعب الأكبر في هذه الثورات، في حكومات بلدانهم التي فازوا في انتخاباتها، وشاركوا بفعالية في صياغة دساتير ديمقراطية وفي محاولة إرساء أنظمة عادلة تطلق الجماهير من أغلال العبودية وتحقق المواطنة المتساوية للجميع، قبل أن تنجح الثورة المضادة في استعادة مقاليد الأمور كلياً في مصر وجزئياً في تونس، وما زالت ثورتا اليمن وليبيا تناضلان ضد انقلابي الحوثي وحفتر، أما سوريا فلها مأساتها وخصوصياتها
! - وهناك أهداف جزئية كثيرة حققها ثوار تونس وأهمها منع تونس من الانزلاق في مهاوي العنف والمحافظة على الدولة التونسية، وفي اليمن ساهم الثوار في تجنيب البلد السقوط في دوامة العنف، من خلال الحوار الوطني الذي اشتركت فيه جميع القوى والتيارات وكان قد تم وضع تصورات حلول ومخارج لكافة أزمات اليمن بما في ذلك إرساء نظام ديمقراطي اتحادي يحقق مبدأ المواطنة ويراعي الخصوصيات المناطقية والمذهبية، لولا الانقلاب الدموي على الشرعية وانتزاع الحوثيين للسلطة بالقوة، وفي مصر حقق الثوار عبر سنة من الحكم الكثير من الأمور التي زادت من تسارع الجهود التي تَتوَّجت في الانقلاب على ثورة يناير وإيداع أكثر قياداتها السياسية والميدانية في السجون.
▪ونستطيع أن نقول إن ثورات الربيع العربي قد كانت هِبَةً ربّانية وهَبَّةً شعبية خالصة، لكن عوامل عديدة مكَّنت الثورة المضادة من إدخالها في نَفَق مظلم وأظهرها كأنها مسؤولة عما حاق بهذه البلدان من محن. وما زال السباق على أشدّه بين ثوار الحرية وبين جنود الظلام مع وجود فروق نسبية في هذه البلدان، ووفق سُنن الله فإن الزَّبَد لابد أن يذهب جُفاءً ولن يبقى إلا ما ينفع الناس في هذه الأرض التي اشتد عطشها للحرية واشتاقت كثيراً للأحرار الذين سيعيدون لها أمجادها الأثيلة بإذن الله تعالى.
وسوم: العدد 778