من دروسُ الربيع العربي الحلقة الأولى

ركوبُ الشعوب العربية لقوارب العواطف

▪ مقدمة:

 يمكن اعتبار الربيع العربي -بما اكتنفه من أحداث وما رافقه من مصائب، وبما أحدثَ من تحولات كبيرة وما صَنَع من تداعيات طويلة الأمد-مَنْجماً مليئاً بالدروس والعبر التي يجدر بنا استخراجها من بين ركام الأحداث الجسام ومن بين صخرات الثورات المضادة، وبدون هذا الاستخراج ستتبدّد نقاط القوّة في بيداء الأحداث وردود الأفعال وتستمرّ نقاط الضعف في التناسل والتكاثر، وستتكرر الأخطاء وتتسع مساحات الوهن، ومن ثم فإن النهوض الحضاري سيظل بعيد المنال.

 ولا شكّ أن من أهم الدروس والعبر المستنبطة من أحداث الربيع العربي:

هوعاطفية الشعوب العربية التي بدت بارزة للعيان:

 فمن المعلوم يقيناً أن الشعوب العربية شرقية الجغرافيا والتأريخ والثقافة، ومثل كل الشعوب الشرقية فإن القلوب تحتل مكانة مركزية في تركيباتها الفردية وتكويناتها الجَمعية، حيث تعطي للعواطف بالاً كبيرا وتقديراً منقطع النظير، ومع وجود كل أسباب الثورة فقد لعبت العواطف دورًا في بروز الربيع العربي بهذه القوة وبتلك السرعة، حيث استُفزَّت عواطف الجماهير التونسية عندما شاهدت بائعاً متجولاً يُدعى محمد البوعزيزي وهو يحرق نفسه من القهر الذي أصابه؛ نتيجة الإهانة التي تلقّاها من شرطية البلدية، وبسبب منعه من البيع في الشارع بعد أن سُدَّت أمامه كافة سبل العمل المناسب لما يحمل من شهادة جامعية!

 وقد بدأ الانفعال العاطفي يشتعل في مدينته، وهي مدينة سيدي بوزيد التي تقع في جنوب تونس، وسرعان ما امتد الحريق إلى كافة مدن الجنوب وبلداتها المُثقلَة بالفقر والمُثخنة بالظلم، ثم تمدّد إلى سائر المناطق التونسية.

 ولا نعني بقولنا إن العرب عاطفيون أن الأمر كان مجرد انفعال، فقد كانت هناك مظالم تُرتكب في حق الشعب التونسي، من كبت للحريات ومصادرة للحقوق، وهناك شُحٌّ في الوظائف وغزارة في أعداد العاطلين عن العمل مقابل اتساع للفساد والمحسوبية، وهناك مظالم اجتماعية واسعة أدّت إلى قلب الهرم الاجتماعي رأساً على عقب وإلى توسيع الهُوّة الناشئة بين المُقْتَدرين والمُدقعين، حيث تفرّق الناس عند مفترق الطرق، فذهبت الأغلبية نحو اعتلاء قمم الغنى الفاحش، بينما ذهبت الأغلبية نحو قيعان الفقر المدقع، وظلّت طبقة الذين نزلوا تحت خط الفقر تزداد، نتيجة جرّ كثير من شرفاء الطبقة الوسطى إليها رغم أنوفهم، بينما التحق الوضيعون بالأثرياء الذين امتصّ أكثرهم دماء المساكين، حتى كادت الطبقة الوسطى أن تنقرض وتصبح في خبر كان.

 وخلاصة القول إن كل بذور الثورة ومبررات الانفجار كانت موجودة في الأوساط التونسية منذ زمن، ولم تكن حادثة البوعزيزي سوى الشرارة التي أشعلت الغضب المكبوت منذ عقود من الطغيان والفساد، بل كانت القَشَّة التي قصمت ظهر النظام الرسمي التونسي، فقد خرجت الجماهير بمئات الآلاف في كل المدن لا تلوي على شيء، لكن خارطتها ظلّت أوسع وفاعليتها أكبر في المناطق الأشد قهراً والأكثر فقرًا، وكانت تنحو منحى العنف أحياناً نتيجة شدة القهر وطول الكَبت، والتحقت بها الأحزاب السياسية ذات الخلفيات الإسلامية واليسارية والقومية والليبرالية بعد أن بدأت بها الاتحادات العمالية والمهنية، وانخرطت في فعالياتها سائر الطبقات والمهن والمناطق بدون استثناء، مع وجود بعض الفروق النسبية بالطبع، ومن ثم فقد استحقت بجدارة اسم الثورة (ثورة الياسمين)، إذ نجحت في إسقاط صنم زين العابدين الذي كانت بطانته قد غيَّبته عن الشعب تماماً وأوهمته أن الناس يغرقون في السمن والعسل وأنهم يأكلون المَنّ والسّلوى بفضل عبقريته الفَذّة، وأنهم يُسبِّحون باسمه ليلاً ونهاراً جزاء ما صنع لهم من منجزات وما اجترح من أجلهم من معجزات، وقد عبّر عن تلك الصحوة من غيبوبة الوعي عندما قال في خطابه قبل الأخير (فهمتُكم.. فهمتُكم)، وهو أمر محمود له بالمقارنة مع الزعماء الذين لم يفهموا ما حدث بتاتاً أو لم يفهموا إلا عندما رأوا أرواحهم تخرج من بين أضلاعهم بعد أن تسببوا في مقتل عشرات الآلاف من مواطنيهم!

 وعند هروب زين العابدين إلى السعودية وانحياز الجيش والأمن إلى الشعب، تم الإعلان عن نجاح ثورة الياسمين، وبعد بضعة أيام اندلعت ثورة 25 يناير في مصر يؤجّجها سيل عرمرم من العواطف والانفعالات المتأجّجة، وما هي إلا 18 يوماً حتى خَرّ الفرعون حسني مبارك من عليائه وتنازل عن كبريائه الذي ظّل يبنيه طيلة عقود من الاستكبار والعنجهية، فخرجت في تلك الأثناء مجاميع من اليمنيين للاحتفاء بالنصر المصري، وكان هذا الحفل في الحقيقة تدشيناً لثورة 11 فبراير التي انتشرت في أوساط البلدات اليمنية انتشار النار في الهشيم، وشاركت كافة الطبقات والمناطق والقطاعات اليمنية في الثورة، وشاركت المرأة اليمنية في فعاليات الثورة بكثافة فاقت كل ما حدث في تونس ومصر، ربما لأنها مظلومة أكثر من شقيقاتها في تونس ومصر، وربما لأن الرافعة الأساسية للثورة لعبت دورا في هذا الثراء النسوي والتي تمثلت في حزب التجمع اليمني للإصلاح كممثل للحركة الإسلامية الوسطية في اليمن، مما شجع سائر التيارات على إخراج نسائها في أغلب فعاليات الثورة، وربما لأن اليمنيين يمتلكون رصيدا تاريخيا مشَرِّفاً في مشاركة المرأة في الشأن العام، وما الملكة بلقيس السّبئية قبل الإسلام والملكة أروى الصليحية بعده إلا النموذج الأكثر بروزا وشهرة.

 ثم انتقلت عدوى الثورة بعد ستة أيام من اندلاع ثورة اليمن إلى ليبيا (17 فبراير)، حيث ركب الليبيون بُراق عواطفهم بعد أن رأوا جيرانهم عن يمين وشمال في تونس ومصر ينجحون في إسقاط طغاتهم بينما القذافي يجثم على صدورهم منذ ما يزيد عن أربعة عقود، وفي مارس انتقلت الثورة إلى سوريا وسلطنة عُمان، وبدأت من جنوب سوريا (مدينة درعا) كما حدث في تونس حيث نسبة الفقر هي الأعلى، بينما تأخرت بلدات الشمال لبضعة أشهر وعلى رأسها مدينة حلب وهي العاصمة الاقتصادية لسوريا، مما يشير إلى البعد الاقتصادي لهذه الثورات بجانب الأبعاد الأخرى!

 وما أردتُ أن ألفت النظر إليه في هذا الدرس هو أن الشعوب رغم أنها تعاني من القهر والظلم منذ عقود طوال إلا أنها لم تنفجر بهذه الصورة إلا عندما استفزَّت عواطفَها صورةُ البوعزيزي وهو يحترق والدموع تتساقط من عينيه الذّابلتين، وكأن تلك الدموع تحاول أن تطفئ النار التي أحرقت قلبه من شدة الشعور بالقهر وانعدام آفاق الأمل وانسداد طرق التغيير قبل أن تحرق جسده النحيل من شدة الفقر والفاقة!

دروس على طريق العاطفية:

ومن هذا الدرس الكبير نستنبط ونشتق دروساً عديدة، أهمها:

1 -أن المظالم لا تكفي وحدها لحدوث الانفجار المنشود ضد أنظمة الجور وسلطات القهر، ولابد من استخدام الأساليب التي تُهيِّج العواطف وتستثير الانفعالات عندما تدُقّ ساعة الصِّفر وتحين أوقات الثورة، مع الاستعداد بالخطط الكاملة للتغيير وامتلاك الكوابح الضرورية؛ حتى لا تتحول الانفعالات إلى عواصف هوجاء وفوضى عارمة، وحتى لا تطول المحنة ولا تصبح الفتنة حالة مزمنة على النمط الصومالي أو الأفغاني.

2 -أن الجماهير التي تُقاد من خطام عواطفها ينبغي أن يتم التعامل معها بحذر شديد، إذ يمكن أن تنقلب على من تسير معه إذا وجدت من يكتشف شفرة عواطفها ومضغة ثورتها، ومن يعرف كيف يدغدغ مشاعرها ويداعب آمالها في الحياة الحرة والعيش الكريم، كما حدث من قبل الثورات المضادة ولا سيما في مصر حيث يشتهر المصريون بالانقياد لعواطفهم أكثر من غيرهم، وهذا يعطيهم استعدادا للجندية ويجعلهم جنودا لمن يملكون الصوت الأعلى ومن ينجحون في دغدغة مشاعرهم.

3 -لابد من طَرْق حديد الأحداث وهو ساخن، بمعنى استغلال العواطف التي تعتري الجماهير واستثمار انفعالاتها ضد عدوها، وذلك بإظهار عدوّها كتحدٍّ يدفعها نحو التفكير المنطقي والرؤية العقلية قبل أن ترتد إلى ما كانت عليه من سلبية وبرود، وهذا يتطلب من الأحرار التسلح بإمكانات عقلية ضخمة والاستعداد بمشاريع تربوية فاعلة؛ من أجل ضمان تحويل الانفعالات المؤقتة إلى فاعليات مستمرة تساهم في عمارة الأرض وصناعة الحياة.

4 -تحتاج الشعوب العاطفية إلى جرعات أكبر من الفكر الموضوعي والتربية الفكرية التي تُعلي من شأن الأفكار على حساب الأشخاص، وتُربّي الناس على العدل مع الأقارب والأباعد وعلى الاعتدال في الحُبّ والكُرْه، بحيث يمتلك الناس عزائم التحكم بالذات ومهارات ضبط الانفعالات، ويتحَلّون بمَلَكات التمييز بين الولاء المفروض والتعصب المبغوض.

5 -أن العمل التربوي رغم أهميته البالغة لن يؤتي أكله كما ينبغي ما لم يرافقه العمل التعبوي الذي يُحرِّض المظلومين على الثورة ويحث المقهورين على التمرد، وهذا يقودنا إلى الدرس الثاني من دروس الربيع العربي وهو الخطورة التي يمثلها الإعلام المَرئي، مما سنتطرق له في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.

وسوم: العدد 780