الدكتاتورية المقلوبة

على ما أذكر في بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي كنت في زيارة لمدير تربية بغداد الكرخ "عبد الحميد الحمداني"، وفي أثناء وجودي حضر الشيخ عبد العزيز البدري رحمه الله، وكان يعرفني جيدًا ويعرف وظيفتي في المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون ويعرف انتمائي الفكري والسياسي، ودار حديث بيننا بشأن المشكلة الطائفية في العراق وما تركته هذه المشكلة على الأمة من تداعيات منذ أكثر من ألف عام، استعرض فيه الشيخ البدري جهوده للتقريب بين الشيعة والسنة في العراق، وقال بالحرف الواحد (هناك خلافات فقهية بين الشوافع والأحناف ليست أقل مما بين الشيعة والسنة، ولكن الموضوع السياسي المتعلق بموضوع الإمامة هو الذي يحول دون التقارب بين الشيعة والسنة)، وقال الشيخ البدري، إنه كان قبل وفاة السيد محسن الحكيم في زيارة له إلى النجف وتباحثا بشأن موضوع التقارب، واتفقنا على مواصلة الحوار الذي يحتاج إلى طول صبر وأناة، وقال البدري إنه طرح على الحكيم موضوع مواكب اللطم والتطبير والتشابيه رغبة في معرفة رأيه فيها، وقال إن الحكيم غير مقتنع بها ولا يؤيدها ويراها خروجا على الدين، ولكنه لا يستطيع المجاهرة بموقفه خوفا على نفسه أن يكفره بسطاء الشيعة في حال إعلانه موقف كهذا.

 وفي موقف آخر يقول الدكتور أحمد الوائلي عندما سؤل عن سبب تحوله للخطابة في المجالس الحسينية بدلا من الانشغال باختصاصه كأستاذ جامعي؟ قال هنا العيش أفضل والأموال أكثر وفي ذلك كسب لرضا الناس الذين تستهويهم البكائيات أو مما تجلبهم مجالس العلم.

 إن صدقت الروايتان فهذا يؤشر أن المرجعية هي التي تخضع لإرادة الناس في مواصلة طقوس اللطم والتطبير وغيرها من الممارسات المضافة إليها سنويا وأن المرجعية تابع لا متبوع.

 هذا في حال تطابقه مع الواقع فإنه يقود إلى اعتقاد يمكن أن ينسف التصورات السائدة على مستويات ثقافية وسياسية مختلفة، والتي كانت تروّج لفكرة أن المراجع هم المسيطرون على هذا الكم الهائل من الوسط الشعبي بحكم التخلف الثقافي الذي يعانون منه، أو لسذاجة الكثيرين الذين ينساقون انسياقا أعمى وراء مراجع التقليد بل وراء أي عمامة، وهذا الأمر يثير إشكالية كبيرة في موضوع زعامة المكون الشيعي.

 هل كان المتراكم من الموروث الديني المنغلق على أوهام ترسخت خلال سنوات الطفولة والتلقي الأولي من العائلة والشارع هي التي تفرض انقيادا من الزعامات الدينية لجمهورها كسبا لرضاها؟ وماذا يمكن أن يحصل فيما لو أصدر أحد المراجع فتوى دينية فيها قليل من الخروج عما نشأت عليه أجيال كثيرة وامتلكت عليها مشاعرها وقيدّت سلوكها على سكة بالغة الصرامة من التفكير المنطقي، نعم هذا انقياد من الزعامات الشيعية لجمهورها بصرف النظر عن مستواه الثقافي والفكري والسياسي، وهذه هي الدكتاتورية المقلوبة رأسا على عقب لأن الحوار الديمقراطي بين الطرفين معدوم، وهذه الحالة يمكن أن نطلق عليها بالدكتاتورية الساذجة بل وحتى الغبية، فمن المعروف أن الزعامات يمكن أن تستجيب لبعض الشعارات والمطالب الشعبية في كثير من الأحيان ذلك مجاراة لها، أو من أجل الارتقاء بها إلى مستوى أعلى، ولكن أن تتحول إلى ألعوبة بيد الخليط الهجين من مستويات معرفية وثقافية وقدرات سياسية متباينة من الوسط الشعبي والاستقرار في قاع المستنقع، فإن ذلك لا يعد خيارا سليمًا في أي تجربة حكم في العالم بل هو انتحار سياسي، فالنخب السياسية يجب عليها الإبقاء على عصا القيادة بيدها وعدم التنازل عنها لمجرد نزوع شعبي طائش أو فاقد للأهلية، يريد التحكم بالمسارات السياسية والفقهية لأي طرف كان ويخضع لأكبر صناعة للتجهيل عرفتها شعوب الأرض.

 إن ضخ اللاوعي الذي يتعرض له الفرد الشيعي سواء في العراق أو في غيره من البلدان الأخرى، يسلب الفرد الشيعي القدرة على التفكير السليم، حتى أولئك الذين يصلون بعد تقدمهم في العمر وارتقائهم المواقع أو حصولهم على أعلى الشهادات، إذ يكفي أن يجلس واحدهم في مجلس حسيني ويستمع إلى خطيب يكرر ما يسمى بالمقتل الذي يكرر منذ مئات السنين ليجهش ببكاء مرير وكأنه يستمع إليه لأول مرة، حتى تنهمر دموعه بغزارة تعكس حال التلقي الغريزي الأول وليس المستوى المعرفي الأخير.

 صحيح أن الأطر القيادية لأي بلد أو تجمع سياسي، يجب أن تخضع لمعايير راسخة التقاليد وواضحة المعالم، ويجب أن تنمو وتعركها التجربة الميدانية بعد أن تتسلح بالمعرفة النظرية، لكن الصحيح أيضا أن هناك "طفرات وراثية" لا يمكن القياس عليها، ولعل تجربة الزعامات السياسية المنزوعة السلاح الفكري والنظري والميداني ما يعزز هذا التصور، فبعض الزعامات الحالية لا تمتلك من الخبرة ما يؤهلها للجلوس حتى في المقاعد الخلفية، ولكن هناك رصيد غامض من تاريخ الآباء أو العوائل ما صار يغني عن أية مؤهلات مطلوبة لحكم بلد صعب مثل العراق، ولا يقتصر حكم العائلات على أسرة واحدة بل هناك أكثر من عائلة نجفية صارت على حين غفلة من أهلها تمتلك الثروة والسلطة معا، وتريد فرض رأيها على الشعب العراقي والتحكم بمصير أبنائه منطلقة في ذلك من منطق بابوي أو تخويل كنسي، وكأنها هي الوصية عليه بعد أن تأكد لها عدم وصوله سن الرشد، لتختزل بذلك آراء شركاء الوطن المفترضين والذين قدّموا من التنازلات المبدئية والأخلاقية -الانبطاحية- عن حقوق وسطهم الاجتماعي بزعم أنها تنوب عنهم وتعبّر عن مصالحهم، بعد أن صادرت حقوقهم بالمال السياسي أو بقوة السلطة أو بكليهما من خلال تخويل مؤقت لها من جانب الطرف الذي يريد مصادرة العراق بكامله.

 فما هي الحقيقة في كل ما يحصل؟ وهل هي دكتاتورية ملتبسة؟ والأهم من هذا كله من يقود من؟ ومن يستغفل من؟ وهل هي أدوار مصممة للانتفاع المتبادل بين الضحية والجلاد؟

وسوم: العدد 780