لكل عصر أمثال الكلب اللاهث محمولا عليه أو متروكا
إذا كان الله عز وجل قد ذم في محكم التنزيل البشر الذين يعطلون تعطيلا تاما نعمة العقل التي بها يحصل تكريمهم وتفضيلهم على كثير ممن خلق ، وشبههم بالأنعام بل وصفهم بأنهم أضل منها ، فإن ذمه للذين لم يستفيدوا من تلك النعمة كان أشد وأقسى في موضعين من كتابه الكريم .
أما في الموضع الأول، فقد وصف علماء بني إسرائيل الذين لم يفيدوا شيئا مما كان معهم من علم بالحمير فقال جل شأنه : (( مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين )) ، فهذا الوصف بهذا التشبيه أقسى على الموصوفين به وهم علماء بلّغتهم عقولهم تلك المرتبة، لكنهم لم يفيدوا شيئا مما علموا شأنهم في ذلك شأن حمار يحمل الأسفار فينوء بحملها، ولا ينتفع بشيء مما فيها ونصيبه منها مشقة وزرها . وإذا أردنا أن ندرك قسوة هذا التشبيه ،وشدة وقعه على الموصوفين به ،فعلينا أن نتصور أشخاصا محسوبين على المجال العلمي والمعرفي لا يختلفون فيما يقولون أو ما يفعلون عمن لا علم ولا معرفة لهم، ذلك أنه إذا قيل لمن لا علم ولا معرفة، أنتم كالحمير قيل لمن لهم علم ومعرفة لا ينتفعون بهما أنتم كالحمير المحملة بما لا تنتفع به ، ونصيبها منه الجهد والمشقة ، فتكون حينئذ الحمير غير الحاملة أحسن حالا من الحمير الحاملة ، كما يكون من علم ولا معرفة له أفضل حالا ممن له علم ومعرفة، ولكنه لا يختلف حاله عن حال الجاهل بل يكون هذا الأخير أفضل منه حالا لأنه لم يشق ولم يتعب في تحصيل علم لا ينتفع به ، وهو أذكى منه لأنه تجنب المشقة والتعب بلا طائل أو بلا فائدة . وقد يرضى الجاهل إذا وصف بالحمار لجهله بهذا الوصف، ولكن يشق كثيرا على صاحب العلم أن يوصف بذلك. والكيس من أهل العلم من يجنب نفسه مذمة هذا الوصف المهين .
وأما في الموضع الثاني فقد وصف الشاعر العربي المعاصر للبعثة افسلامية أمية بن أبي الصلت الذي لم يفد شيئا مما هيأ له الله عز وجل من أسباب الهداية بالكلب، فقال جل شأنه : (( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون)) . فهذا الشاعر كان راغبا عن عبادة الأوثان لرجاحة عقله ، فانكب على الكتب السماوية المتقدمة يقرؤها ، ويضمن شعره حقائقها حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع شعره قال: " آمن لسانه وكفر قلبه ". ولقد كان يؤمل أن يكون هو النبي الذي بشرت به الكتب السابقة، لكنه حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كفربدعوته حسدا من عند نفسه بالرغم مما وفر له الله عز وجل من أسباب الإيمان من عقل منعه من عبادة الأوثان ، ومن اطلاع على الحقائق التي تضمنها الكتب السابقة ، وكان الأجدر به أن يكون بسبب ذلك مؤمنا ،ولكنه لم يفعل وتنكب الرفعة ، وأخلد إلى الضعة ،وكان شأنه كشأن الكلب المعروف بلهثه حالة يحمل عليه أي يطارد وحالة يترك ،فهو لاهث في الحالتين معا لأن ذلك من طبعه ومن أصل خلقته . وإذا كان الكلب يفهم إذا لهث حين يحمل عليه ، فلا مبرر للهثه ولما يحمل عليه ، فكذلك حال هذا الشاعر الضال الذي التمس الهداية قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحث عنها لاهثا وراءها في الكتب السابقة ، فلمّا جاءته بها الرسالة الخاتمة أعرض عما كان ينشده في سابقاتها ، وظل على حال الضلال لم يبارحه . وتشبيه بالكلب أقسى عليه، وهو الذي كان يحلم أن يكون صاحب وحامل الرسالة الخاتمة لفصاحة لسانه ، وجودة شعره، وحكمته ،وسعة اطلاعه ، فلما شبه بالكلب في لهثه محمولا عليه ومتروكا، اتضع ، وخسّ، وقد سنحت له فرصة ذهبية لإدراك الرفعة والشأن . وعلينا أن نتصور وقع هذا التشبيه في نفس من كان يحلم بمنزلة النبوة، وهي أعلى منازل الرفعة ، لكنه رضي أن ينحدر إلى منزلة الكلب ،وهي أخس منازل الضعة .
بعد هذه المقدمة التوضيحية لما يحصل للمحسوبين على العلم والمعرفة حين لا ينتفعون بعلمهم ومعرفتهم من ترد وانحدار يبلغ بهم مراتب أخس من مراتب الحيوان ، نود الإشارة إلى وجود أمثال هؤلاء في كل عصر . ولا يخلو عصرنا هذا وواقعنا من أمثال من يصح تشبيههم بما شبه به الشاعر أمية بن أبي الصلت صاحب اللسان المؤمن والقلب الكافر ، فكثير فينا الذين يحسبون على الفكر والثقافة ، ويكتبون وينشرون ،وقد آتاهم الله عز وجل من المؤهلات ما يرفع من أقدارهم بين الناس، لكنهم أخلدوا إلى الأرض، واتبعوا أهواءهم، وقد أضلهم الشيطان ، وجعلهم من أتباعه . فمثل هؤلاء عندنا يخوضون في مواضيع الدين ، ويبلغ بهم الأمر حد الاستدراك على أصحاب الأقدام الراسخة فيه من العلماء سلفا وخلفا ، وتعقبهم تصحيحا ،وتصويبا ،وقدحا، واتهاما ،وسخرية ،واستهزاء... فهؤلاء يشبهون الكلاب اللاهثة محمولا عليها ومتروكة، ذلك أنهم لا يفوتون فرصة دون النيل من الإسلام وأهله ، وأنا أشبههم دائما بالتلميذ الذي كان لا يحسن في كتابة المواضيع الإنشائية سوى موضوعا واحدا هو وصف حديقة بيته حتى أنه طلب منه يوما وصف رحلة على متن طائرة، فلم يجد بدا من إسقاطها في مرج من المروج ليصفه ثم يتخلص من وصفه إلى وصف حديقة بيته المعتاد ، فهؤلاء كل موضوع يطرقونه ،ينتهي بهم إلى النيل من الإسلام وأهله ،لأن هذا الدين في نظرهم يحول دون سيادة ما يعتقدونه أو يعتنقونه من توجهات لادينية لا ترى لها وجودا إلا بزواله وفناء أهله وأتباعه .
ومن أغرب ما قرأت لأحد هؤلاء هذا الصباح على صفحة موقع ألف نشر مقالاته مقالا تحت عنوان : " الجهاد الكروي " ويتضمن تعريضا بجهل وتخلف المسلمين ممن يسميهم الإسلامويين لأنهم قالوا حسب زعمه بأن نجم كرة القدم المصري المدعو صلاح ينتظر منه هؤلاء أن ينشر الإسلام في بلاد الغرب لأنه محط إعجاب الجمهور الكروي الإنجليزي بلعبه المتميز ، ولأنه حين يسجل الأهداف يسجد ، ويرفع سبابته إلى السماء . وهذا لعمري استخفاف بالإسلام وبأهله دأب عليه صاحب هذا المقال الذي يلهث بالنيل منهما بمناسبة وبغير مناسبة حتى أنه وجد في موضوع المونديال، وكرة القدم ،واللاعب المصري وهو موضوع أبعد ما يكون عن موضوع الإسلام ما يشفي غلته من الحقد على الإسلام وأهله ،لأنه ندب نفسه للدفاع عن توجه اللاديني الذي لا يرى له وجودا وسيادة إلا بزوال الإسلام وفناء أهله عن آخرهم.
ولن يعجز هذا اللاهث خلف تعقب الإسلام تجريحا أن يجد دائما صلة بين كل المواضيع مهما شطت عن موضوع الإسلام وبين هذا الأخير، لأنه لا هم له سوى الطعن في دين الله عز وجل ولو شاء الله لرفعه به ،ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ،ورضي بأن يكون تبيعا للشيطان ، وحاز بذلك حالا كحال الكلب اللاهث محمولا عليه أو متروكا ، وهو أسوأ حالا من أمية بن أبي الصلت الذي لن نبخسه حقه إذا ما شبهنا به من لا يتعلق بغبار شاعريتها ، وهو المزهو برطانة لسانه، ويفضله على اللسان العربي المبين الذي نزل به الذكر الحكيم فشرف بذلك وفضل على ألسنة العالمين .
وسوم: العدد 781