قدوة القيادة في الإسلام 15
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الخامسة عشرة : الهجرة إلى الطائف 3
د. فوّاز القاسم / سوريا
لقد ذكرنا في الفصول السابقة أن جوهر الخطة في مرحلة الاستضعاف ، هي الدعوة إلى الله ، والصبر وتحمل الأذى المترتب على هذه الدعوة ..
فإذا نفد الصبر ، ولم يعد للداعية طاقة على المزيد من التحمل .
فعليه أن يبحث عن مخرج مشرِّف ، سواء كان بالتفاوض مع السلطة للالتقاء على حل وسط ، بحيث تحافظ الدعوة على ثوابتها ، حتى لو اضطرت للتنازل عن بعض الشكليات والمظاهر .
أو بالهجرة ، والبحث عن قاعدة أخرى آمنة للدعوة .
والهجرة هي ليست عملية هروب إلى الأمام كما يسمونها .!
بل هي بحث دائب عن مخرج مشرِّف ..
ولقد كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، واحدة من هذه المحاولات ، التي لم تفتر لحظة طيلة مرحلة الاستضعاف المكية …
ولقد جاءت هذه المحاولة منه صلى الله عليه وسلم ، في مرحلة من أشد المراحل حراجة وتعقيداً على الدعوة .
فلقد توفيت زوجته خديجة رضي الله عنها ، التي كانت تمثل جناحه المعنوي . ثم تبعها عمه أبو طالب ، الذي كان يمثل جناحه المادي ، في عام واحد ، سمي بعام الحزن .!
فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم بعدهما مهيض الجناحين .
ونالت قريش منه ما لم تكن تطمع به قبل ذلك.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل .
ولما انتهى إلى الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف ، هم يومئذ سادات القوم وأشرافهم ، فجلس إليهم ، ودعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم به من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه .. فردوا عليه رداً منكراً .
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم ، وقد يئس منهم .
وقال لهم : إذا فعلتم ما فعلتم ، فاكتموا عني . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يبلغ قومه عنه ، فيذئرهم (أي يثيرهم ) ذلك عليه. فلم يفعلوا كذلك ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، يسبُّونه، ويسخرون منه ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ، فجلس تحتها ، فلما اطمأن صلى الله عليه وسلم ، رفع يديه إلى الله بدعائه المشهور، والذي كنا قد أثبتناه في صفحات سابقة .
ثم قدّم إليه الغلام النصراني طبقاً من عنب ، فأكل منه .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة . حتى إذا كان بنخلة ، قام من جوف الليل يصلي ، فمر به النفر من الجنّ الذين ذكرهم الله في سورة الجن ، فاستمعوا إليه وأنصتوا ، فلما فرغ من صلاته، ولّوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا .!
ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم –ومعه زيد بن حارثة –يريد دخول مكة ، فقال له زيد : كيف تدخل عليهم يا رسول الله ، وهم أخرجوك .!؟ فقال : ((يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصرٌ دينَه ، ومظهرٌ نبيَّه )) .
ثم أرسل رجلاً من خزاعة إلى المطعم بن عدي يخبره أنه داخل مكة في جواره، فاستجاب المطعم لذلك ، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة … بوطي ص(136).
الدروس التربوية من الهجرة .
أولاً _ البحث عن مخرج ..
لقد كان قرار النبي صلى الله عليه وسلم ، بالسماح لإخوانه بالهجرة إلى الحبشة ، خطوة في طريق البحث عن مخرج مشرّف للدعوة .
لكن الموقف يومها كان مقبولاً ، بالنسبة له شخصياً ، إلى حد ما ، لأنه كان محمياً ، كما ذكرنا ، بحفظ الله له ، ثم بسيوف بني هاشم ، وعلى رأسهم عمه أبو طالب .
ولما توفي أبو طالب ، تغير هذا الموقف .
فقد ضغط المشركون باتجاهه شخصيّاً هذه المرة ، بالإضافة إلى إخوانه . ودخلت الدعوة في طور جديد ، وصارت تحتاج فيه إلى بديل لأبي طالب . ولماذا الطائف وثقيف بالذات .!؟
لا يوجد ، في الحقيقة ، جواب على وجه القطع و اليقين .
ولكن قد يكون عامل القرب إلى مكة ، والندية لقريش ، هي من أهم الأسباب لهذا الاختيار . ولا نستبعد ، أن تكون هناك زيارات استطلاعية سابقة لهذه الرحلة المتعثرة .!
ثانياً _ الدعوة و النصرة :
لقد برز عنصر جديد في هذه الرحلة بالإضافة إلى الدعوة ، هو عنصر طلب الحماية والنصرة .
وذلك لسد الفراغ الذي خلفه أبو طالب كما ذكرنا ، ولهذا فقد أجمع الرواة على ذكر العبارة التالية: ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل ) .
ورواية الوصول إلى ثقيف تقول :
( فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرة الإسلام ) .
ويلحظ من تفاصيل الأحداث التي درسناها حتى الآن في هذه المرحلة، جواز أي شكل من أشكال الاستعانة بالكافرين ، سواء كانوا مشركين ، أو نصارى ، أو يهود .!
فالمرحلة مرحلة ضعف ، وفقه هذه المرحلة يجيز التشبث بأية خشبة طافية على سطح الماء ، إذا كانت تساعد في الوصول ، أو على الأقل ، التقرب من الشاطئ .
اللهم إلا خشبة واحدة ، هي قبضة السيف ..!
فهي الوحيدة المرفوضة في هذه المرحلة .
لا عن جبن وخور _ كما ذكرنا سابقاً _ ولكن عن خطة ومنهج ، مدروسين إلى أبعد حدود الدراسة.
ولما كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، هو قدوة الدعاة ، وسيرته العطرة هي تشريع الدعوات .
ولكي لا يأتي من بعده من يفهم الصبر ، وعدم المواجهة ، على أنه ذلة ، وخنوع ، وسلبية ، وتسليم رقاب المسلمين والدعاة ، لسيوف الجزارين والطغاة .!
لذلك فقد كان يبحث لإخوانه ليل نهار، عن مخرج مشرّف ، بالمفاوضات تارة ، وبالهجرة وطلب النصرة ، تارة أخرى …
المهم أن يخرج بإخوانه ودعوته من عنق الزجاجة ، ويغير معادلة القوى ، ويمسك بزمام المبادرة ، ويمتلك ناصية القوة ، وتصبح جماعته مؤهلة للمواجهة ، عندها لكل حادث حديث .!
وهذا الذي حدث فعلاً ..
ففي اللحظة التي حدث فيها هذا التحول ، أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بالقتال والجهاد . (( أُذِنَ للذين يُقَاتَلون بأنهم ظُلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ))الحج (39).
وامتثل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر .
فقاد جنوده الميامين ، ودك بهم عروش الطغاة في مكة .
وحطم الأصنام واقتلع الشرك من الجزيرة العربية بأسرها .
ثم خرج إخوانه وخلفاؤه من بعده ، من جزيرتهم العربية ، فحطموا عروش الأكاسرة الفرس ، وأزالوا دولتهم من الوجود ..
واقتلعوا تيجان الأباطرة الرومان ، وأزاحوا حدود دولة بيزنطة ، إلى الشمال مئات الكيلو مترات ..!
ثالثاً_ عدم اليأس من إخفاق المحاولة المخلصة :
إن إخفاق المحاولة المخلصة ، بعد التخطيط الجيد لها ، وتهيئة أسباب نجاحها كاملة ، ليس عيباً ، ويجب أن لا يدعو أصحابها إلى اليأس والإحباط ، فلقد كانت محاولات الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى هذه اللحظة كلها غير ناجحة ..!
لكنه بذل وسعه ، واستنفذ جهده ، واجتهد رأيه ، ومحض نصحه، وقام بكل ما يجب على أمثاله من الدعاة والقادة القيام به .
أما الفشل الناتج عن قصور الخطة ، وغياب القيادة ، وانعدام القدوة، وموت القرار، وشرذمة الصف ، والتخبط ذات اليمين وذات الشمال ، فهذا الذي يؤاخذ عليه التاريخ ، وتحاسب عليه الأجيال ، ويعاقب عليه القهار الجبار : (( وقفوهم إنهم مسؤولون)).الصافات (24)
لأن أرواح الدعاة ، ودماء المجاهدين ، وأعراض المؤمنين ، ليست رخيصة إلى الحد الذي يحق فيه لكل مغامر ، أو صاحب هوى ، وحظوظ نفس ، أن يعبث بها ، فيزهقها ، ويسفحها ، باسم الجهاد، والجماعات المجاهدة ..!!!