الطريق إلى المعرفة
في أول الكلام تساءلنا عن تركيب الذرة وعن هبوط الأمريكان على سطح القمر، وعن الانفجار الكوني العظيم، وعن الأرض وتخلق الحياة في المادة، وعن القضايا البيئية العالمية مثل الاحتباس الحراري، وذلك ضمن رحلة الشك العلمي التي بدأناها ضمن هذا المسار المعرفي... ومن أجل أن نسير خطوة على مسار الصحوة مما يمكن أن تمثل غفلة "علمية"، ولكشف أطروحات يمكن أن تكون من "الخزعبلات العلمية"، بعدما اكتسبت هالة وهيبة معرفية وعشعشت في أذهان البشرية! لا بد أن نمر في عجالة على موضوع الحصول على المعرفة.
وقبل ذلك، لا بد أن نفرّق بين مصادر المعرفة (ومراجعها) وبين كيفية الحصول على المعرفة: أي كيف نولّدها ونوجدها ونختبر صحتها... وفي هذا المقال لا نبحث المصادر ولا نناقش نقلَها للناس، ولكن نناقش كيفية الوصول إليها أساسا، وكيفية إنتاجها في ذهن الإنسان:
تبدأ العملية العقلية لدى الإنسان ببحثِه عن إجابات لأسئلة تُثار في ذهنه حول واقع معين يتعرض له... وذلك من أجل فهمه أو تفسيره، أو توقّع ما بعده أو تسخيره لخدمة الإنسان، أو اتخاذ موقف منه أو حَوْله. وهكذا يشتغل الذهن في عملية التفكير للإجابة على الأسئلة الملحّة، وتكون الإجابة هي نتيجة البحث... وثمة بواعث متعددة للأسئلة التي تتفجر في ذهن الإنسان، للحصول على نتائج معينة، في مجالات علمية وثقافية وحضارية وسياسية.. إلخ[i].
ومن أجل أن نتخذ موقفا من المعارف العلمية، لا بد أن نجيب على السؤال الأساس حول طريق المعرفة: هل يمكن أن يكون التفكير العلمي هو أساس المعارف البشرية؟ أم هل ثمة تفكيرٌ عام وتفكير علمي للوصول إلى المعرفة؟
قد كنت قد فصّلت هذه الجوانب في كتابي "منهجية البحث العلمي- عرض مهني من منظور حضاري": فلا شك أن التفكير (الإنساني) هو الذي يولد المعرفة، كل المعرفة، بغض النظر عن مجالاتها.. ولكن تنوع المعرفة وتعدد مجالاتها تَطَلّب تنوع أساليب التفكير: فهناك طريقة عامة لتفكير كل البشر، وهناك أساليب متفرعة عنها تخص أهل الفنون والمعارف الخاصة...
أما طريقة التفكير الأساسية العامة فهي تتم عبر الإحساس بالواقع الذي يتعرض له الإنسان ويبحث فيه، ومن ثم يتم نقل تلك الإحساسات إلى دماغ الإنسان، ومعالجتها فيه: تحليلا وربطا بما لديه من معارف ومعلومات سابقة، إلى أن يتم توليد نتيجة معرفية حول ذلك الواقع، وتكون تلك النتيجة هي الفكر الناشئ في ذهن الإنسان. أي إن عملية التفكير تتم بربط الإحساسات الواردة إلى دماغ الإنسان مع المعلومات المخزنة في ذهنه ربطا تحليليا... ثم الخروج بنتيجة أو فكرة معينة تمثل معرفة في عقل الإنسان تضاف إلى سجل معارفه.
وهذه الكيفية العامة للوصول للمعرفة كانت لدى الإنسان منذ بداية الخلق، منذ أن علّم الله سبحانه آدمَ الأسماءَ كلَها، ثم عرض عليه وقائع معينة فأجاب آدمُ حولها ربطا بما تعلمه من خالقه... ومنذ أن لاحظ قابيل كيف أن الغراب يبحث في الأرض، فولّد في عقله معرفة دفن الميّت.. وهي كذلك منذ أن يُولد الإنسان... فيلمس النار ثم يدرك أنها تحرق فتؤلم فيبتعد عنها
وهذه الطريقة العقلية مستمرة حتى يومنا هذا دون تغيير، وهي تسمّى "الطريقة العقلية"، لا "الأسلوب العقلي"... وما يتغير أو يتطور فيها هو أساليبها وتفريعاتها، لا أساسها القائم على ربط الإحساسات بالوقائع التي يواجهها الإنسان مع المعارف المخزنة في ذاكرته المعرفية. ومن هنا انبثق التفكير العلمي كأسلوب متفرع عنها.
والتفكير العلمي محصور في الوقائع المادية الملموسة التي تخضع للتجربة، وهو المسمّى بالمنهج العلمي، وهو يستخدم نفس طريقة التفكير العام القائمة على ربط الإحساسات بالوقائع مع المعلومات السابقة، ولكنّ ما يميّزه هو أن الوقائع هي تجارب علمية أو ملاحظات علمية للمحيط الطبيعي للإنسان.
ولذلك فالتفكير العلمي هو فرع عن أصل الطريقة العقلية في تحصيل المعرفة، ولا يمكن أن يكون أساس توليد المعرفة البشرية، لأنه محصور في التجربة والملاحظة العلمية، بينما النشاط العقلي مفتوح على كل صنوف الإحساسات التي يتلقها الإنسان... ولا شك إن الوقائع التي يصادفها الإنسان متعددة ومشعبة، منها ما يتعلق بالعلم المادي وتكون التجربة والملاحظة طريقة الوصول إليه، ومنها يتعلق بالثقافة أو الغيب أو بالمسائل العقلية والفكرية التي لا يكون العلم طريقا لها.
ومن الخطأ الفاحش أن يدّعي بعض الكتّاب أن البحث العلمي هو أساس التفكير لكل إنسان! وخصوصا أن البحث العلمي هو نشاط معرفي لفئة علماء الطبيعة دون غيرهم من البشر. وهو لا ينطبق إلا على المحسوسات المادية التي تخضع للتجربة والملاحظة العلمية ضمن منهجية خاصة (وما ألحق بها من معارف ملموسة)... أما عقل الإنسان فهو يشتغل في أمور لا تخضع للتجربة ولا الملاحظة إيمانا بها أو إنكارا، كالموقف من التصديق بكتاب سماوي أو حدث تاريخي، أو صلاحية قانون معين.
وقد بدأ الخلط بين المجال العقلي والمجال العلمي عندما اعتبر العلماء الغربيون أن التفكير العلمي هو أساس كل معرفة، مما يمكن أن يكون قد فتح بابا لدخول الخزعبلات العلمية إلى المعرفة البشرية تحت سلطان الهيمنة المعرفية للعلم، خصوصا عندما مدّ العلم مجالَه خارج البحث في المحسوسات المادية وصار يضع الفرضيات لأصل الوجود الغائب عن إحساسنا مثل نشأة الكون... وذلك بعدما أغلق (أو أنكر) باب بحث العقائد على أساس عقلي مجرد، حيث لا تخضع للتجريب والمنهج العلمي.
من هنا كان لزاما على الباحث في تمييز العلم وفرز مخرجاته ما بين الحقائق والأباطيل أن يميّز أولا العلم الطبيعي عن غيره من المجالات المعرفية، وأن يميز التفكير العلمي عن التفكير العام للبشر.
إن مفهوم العلم (science)، انبثق في مسيرة المعرفة البشرية لتميِّز أولئك الذين يبحثون عن قوانين تجريبية في الطبيعة عن الفلاسفة والمفكرين، وذلك بعدما "انفصل مفهوم العِلم تدريجيا عن مفهوم الفلسفة، التي تعتمد أساسا على التفكير والتأمل والتدبر في الكون والوجود عن طريق العقل، ليتميّز في منهجه باتخاذ الملاحظة والتجربة والقياسات الكمية والبراهين الرياضية وسيلة لدراسة الطبيعة، وصياغة فرضيات وتأسيس قوانين ونظريات لوصفها"، كما يُنقل عن دومينيك لوكورت في كتابه فلسفة العلوم.
إذن فإن انبثاق العلم والتفكير العلمي كان للتمايز عن الفكر (العقلي أو الفلسفي) عند المفكرين، ولا يصح أن يكون للهيمنة عليه والإحلال محله... وهذا هو التعريف الصحيح للعلم، الذي يحصر العلم في العلوم الطبيعية، ويحدده بما يُبنى على المنهج الذي يقوم على الملاحظة والتجربة، رغم محاولة بعض التعريفات أن تتجاوز هذا الاتجاه الصارم إلى الاتجاه الفضفاض الذي يطلق العلم على كل معرفة مترابطة وذات نسق منظّم ومنهج خاص في البحث، وهذا التعريف الفضفاض أدّى إلى الإدخال الخاطئ لكثير من "العلوم" الإنسانية (مثل التاريخ والسياسة والاقتصاد وعلم النفس والتربية) ضمن "العلم".
ومن هنا، لا بد من دحض التصور الخاطئ الذي يدّعي أن العلم هو مصدر المعلومات الصحيحة، وأن العلم وما ينتج عنه هو الصواب وما عداه هو الخطأ، وهذا خطأ محض، لأن كثيرا من المعلومات العلمية يتبين خطؤها، وفي هذا السياق، يُنقل عن كارل بوبر أحد أهم فلاسفة القرن العشرين قوله إن "العلم هو تاريخ من الأخطاء المصحَّحة".
وخلاصة التمييز بين العلم والفكر الإنساني أن التعريفات الصحيحة للعلم (الاتجاه الصارم في التعريف) تقضي أن مجـال العلم محصورٌ في المادة ولا يتعدّاها إلى ما لا يمكن قياسه أو ملاحظته، ولذلك تخرج من العلم كل المعارف الغائبة عن الإحساس بها أو بآثارها، وينحصر المجهود العلمي في فهم الطبيعة المادية عن طريق "ملاحظة" الظواهر الطبيعية، أو إجراء "التجربة" عليها من خلال تقليدها بتركيب أنظمـة ممثلة لها في المختبرات تحت ظروف معيـنة، تتم فيها دراسة الأنظمة الطبيعية على مستوى مصغّر وقابل للقياس في المختبرات، مع إمكانية التحكم بشروط التجارب، لدراسة تأثير مختلف العوامل، ولذلك تخرج من العلم المعارف التي يكتسبها الإنسان بأساليب أخرى، مثل العقائد والتشريعات والتاريخ والآداب... ولا يمكن أن يكون العلم طريقا للمعرفة فيها، أو حكما على مخرجاتها.
هذا من حيث توليد المعرفة العلمية عبر التفكير العلمي، أما من حيث انتشارها بين الناس فهو موضوع المقال اللاحق ضمن هذا المسار المعرفي.
[i] ماهر الجعبري، "مناهج البحث العلمي عرض مهني من منظور حضاري" مكتبة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، مصر، 2012
وسوم: العدد 784