الإسلام والجنس
لقد خلق اللهُ عز وجل الإنسانَ من تراب الأرض ونفخ فيه من روحه، وكرمه فأسجد له الملائكة المقربين (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) سورة الحجر 28 و29 ، وبهذا التكوين الإلهي المعجز كان الإنسان أكرم المخلوقات على الإطلاق (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) سورة الإسراء 70 ، ونستشف من هذا البيان الإلهي الكريم أن التراب المهين قد سما وارتفع بامتزاجه بالروح، وفي المقابل تواضعت الروح العُلوية بامتزاجها بالتراب، وصارت تتفهم حاجات التراب الأرضية، ومنها نزعته إلى الجنس الذي هو السبيل إلى استمرار النوع، لا الخلد الذي أغوى الشيطان به آدم وزوجه (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ) سورة طه 120 و121 ، فكانت العقوبة الإلهية إخراجهما من الجنة ليمارسا الجنس الحلال في الأرض ويكونا من أسباب الخلود الحلال في الأرض .
هكذا نفهم غريزة الجنس في الإسلام وعلاقتها بالجسد والروح، على النقيض من نظرة الفلاسفة الماديين الذين اعتقدوا أن هذه العلاقة، تقوم على الصراع والتنافر بين هذه المكونات، فمثلاً يرى الفيلسوف الإغريقي أفلاطون (427 ق.م - 347 ق.م) أن الجسد ظلام لا نور فيه، وأن الروح هي مصدر الانفعالات والفكر والوعي، وهي عند الموت تعود إلى عالم المُثل، لهذا دعا أفلاطون إلى الانعتاق من سجن الجسد، والإقبال على الموت للالتحاق بعالم الروحانيات الخالص !
وقد انتقلت عدوى هذه النظرة الأفلاطونية إلى المسيحية فصارت تحتقر الجسد وتدعو إلى رهبانية تخالف الفطرة الإلهية (.. وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ .. الآية) سورة الحديد 27 ، أما الإسلام فهو ينظر إلى ثنائية (الجسد/الروح) نظرة تكامل كما قدمنا، لا نظرة تنافر، كما ذهب الفلاسفة وكما تبعتهم المسيحية والكثير من الأديان الوثنية التي تحتقر الجسد، وإنما دعا الإسلام إلى تزكية النفس أو الروح، صوناً للجسد من السقوط في حمأة الرذيلة، وفي هذا يقول تعالى:"وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" سورة الشمس 7 – 10 ،
وتحت تأثير الفلاسفة نجد رجال الدين في معظم الأديان ينظرون إلى الجنس باعتباره من المحرمات، أو أنه دنس، على العكس من علماء الإسلام؛ ومنهم على سبيل المثال الإمام جلال الدين السيوطي (911هـ/1505م) الذي لم يكتف بإفراد بعض كتبه للحديث عن الجنس العادي، وإنما تحدث بالتفصيل عن "الحركات الجنسية" أي الوضعيات المختلفة في ممارسة الجنس، وقد عرضها بصراحة أكثر أكثر جرأة مما ينشر في وسائل الإعلام هذه الأيام؛ ومما ذكره السيوطي كذلك أن في اللغة العربية نحو (900 مصطلح) للتعبير عن الممارسة الجنسية، ذكرها صراحة دونما حرج؛ انطلاقاً من ثقافته الإسلامية التي تنظر إلى الجنس نظرة واقعية باعتبار الجنس فطرة إلهية مباحة .
ويأتي حديثي اليوم عن الجنس رداً على باحثين مغرضين قد انغمسوا مؤخراً في الهجمة على الإسلام وتشويهه من خلال تشويه موقف الإسلام من الجنس، وقد وجدت أن هؤلاء الباحثين يضعون الديانات كلها في سّلة واحدة، متجاهلين عن سوء نية تفرد موقف الإسلام في هذا الموضوع، زاعمين أن موقف الإسلام منه لا يختلف عن موقف المسيحية التي تحتقر الغريزة الجنسية !
فقد وجدت هؤلاء الباحثين يتجاهلون الحياة الشخصية للنبي صلى الله عليه وسلم، وسلوكه مع زوجاته، ويتجاهلون أن القرآن الكريم حافل بالكثير من المفردات ذات البعد الجنسي من قبيل (النكاح، الزنا، الفاحشة، الفرج، المني، المباشرة، اللمس، الرفث، البغاء، المعاشرة، البكارة...) ولابد أن نقف وقفة تأمل عند هذه المفردات فنجد أنها وردت في كتاب الله الكريم في سياقات مختلفة، منها :
السياق العلمي : فالقرآن الكريم يتناول الحديث عن الجنس من خلال آيات الخلق والنشأة، كما في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ) سورة النجم 45 و46 ، وكذلك ما جاء على لسان مريم عليها السلام: (قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) سورة مريم 20 ، فالحديث هنا عن الجنس حديث علمي خالص، لا أثر فيه للشهوة أو الغواية أو الإثارة . السياق اللغوي : حيث نجد في آيات الله عفة في اللفظ، وانتقائية بالغة، وتكثيفاً للمصطلح، كما في قوله تعالى : (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) سورة البقرة 223 ، فقد جمعت هذه الآية الكريمة كل فنون الجنس بأسلوب الكناية والمجاز، في سياق تعبدي؛ فشبهت عملية الجنس بالحرث الذي يتطلب من الزارع مهارة وعلماً وتعهداً، وارتباطاً عاطفياً وجدانياً، كما يرتبط الفلاح بالأرض، ونلاحظ أيضاً أن الآية الكريمة جعلت العملية الجنسية، غير محددة بزمان ولا مكان ولا وضعيات محددة، كما هو واضح في قوله تعالى : "أنى شئتم" أي : متى وكيف شئتم، ونلمح في قوله تعالى : "وقدموا لأنفسكم" حرص الشارع الحكيم على العامل النفسي العاطفي الذي إذا انعدم من الممارسة الجنسية جعلها عملية باهتة باردة تبعث على الملل والنفور !
ولا يفوتنا في الحديث عن الجنس في الإسلام أن نشير إلى ما حفلت به السنة النبوية من المعاني التي تسمو بالجنس، وتنظر إليه نظرة فطرية واقعية، وتعرضه في إطار من الطهر والعفاف الذي يجمع بين الجانب الدنيوي (المتعة الجسدية) وبين الجانب الديني (التعبدي) ,
وهذه هي فلسفة الجنس في الإسلام، وخلاصتها : إشباع اللذة الجنسية واعتبارها – في الوقت نفسه - عملاً تعبدياً يرجى منه الجزاء الرباني، كما ورد في الحديث الطويل الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه وجاء فيه : " ... وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" رواه مسلم ( 1674 ) .
وسوم: العدد 787