لن يتحسن مستوى التعبير الكتابي والشفهي للمتعلمين في مختلف المستويات الدراسية

لن يتحسن مستوى التعبير الكتابي والشفهي للمتعلمين في مختلف المستويات الدراسية عندنا إلا إذا احتكوا بنصوص أدبية راقية لكبار المبدعين

إن الضجة التي أثارها موضوع بعض الكتب المدرسية الجديدة الخاصة بالمتعلمين في السنتين الأولى والثانية من التعليم الابتدائي تلتها تداعيات كشفت عن وجهات نظر مختلفة  متعددة منها من اقتصر على إنكار تضمين بعض النصوص القرائية أسماء ألبسة أو أطعمة عدت عامية  غير مناسبة ضمن كلام باللغة العربية الفصحى ، ومنها من أثار موضوع خلفية صاحب أو بالأحرى أصحاب دعوة استبدال العربية الفصحى بالعربية العامية كلغة تدريس ، وهي دعوة تدخل ضمن مخطط يهدف إلى تغيير ملامح المجتمع المغربي ليصير حسب تعبير هؤلاء مجتمعا مدنيا حداثيا علمانيا  لا علاقة له بلغة دينه الناقلة لقيمه . وأصحاب هذه الدعوة لهم دعوات أخرى تتعلق باستهداف القيم الدينية والخلقية والتطبيع مع الإباحية والتهتك .. إلى غير ذلك من الدعوات الشاذة التي يجمعها هدف واحد ، ولا شك في وجود أياد أجنبية  خفية وراءها تستهدف بلدا مسلما عربيا كان عبر التاريخ صرحا لحماية الهوية العربية الإسلامية .

ولقد صار الشعب المغربي الأصيل  كما كان دائما على وعي تام بخلفيات هذه الدعوات الشاذة لهذا استفزه موضوع ركوب البعض  الكتب المدرسية والمقررات الدراسية لتمريرها واتخاذ الناشئة المتعلمة فئران تجارب .

وأريد في هذا المقال أن أثير قضية ذات علاقة بهذا الموضوع طالما نادى بها الغيورون على مستويات أبنائنا التعبيرية كتابة ومشافهة لأنني بحكم ممارستي لتدريس اللغة العربية لعقد من السنين ، وممارستي لمراقبة وتأطير تدريسها  لربع قرن، وكغيري من  المدرسين وأطر المراقبة لهذه المادة كنا دائما نقرع أجراس الإنذار لتنبيه الوزارة الوصية إلى تدني مستويات التعبير الكتابية والشفهية باللغة العربية  للمتعلمين في كل أسلاك التعليم سنة بعد أخرى  ، وحتى أطر التدريس في التعليم العالي كانت تشكو من نفس المشكل  وتشاطرنا نفس الانطباع .

 ولا حاجة لذكر الإجماع الوطني على إفلاس المنظومة التربية عندنا ، ومن ضمن إفلاسها تدني مستويات التعبير الكتابية والشفهية باللغة العربية الفصحى اللغة الأم  لدى المتعلمين من مختلف الأعمار . ولقد استغل أصحاب دعوة استبدال الفصحى بالعامية في التدريس هذا التدني لتحقيق هدفهم المكشوف .

ولقد كنا جميعا كمدرسين ومراقبين نطالب بالعودة إلى فكرة احتكاك المتعلمين بالنصوص الراقية لمشاهير الكتاب والشعراء العرب كما كان الحال في الكتب المدرسية في العقود الأولى من القرن الماضي التي كانت تتضمن نصوص كبار الكتاب والشعراء ،وكان احتكاك المتعلمين بها يفك عقد ألسنتهم ، ويصقل تعابيرهم  الكتابية والشفهية ، وكانوا بفعل هذا الاحتكاك والتأثر بأساليب أصحاب النصوص الأدبية النثرية منها والشعرية  يحرصون على محاكاتهم و التأنق في تعابيرهم . ولقد كان المتعلمون يتنافسون في هذا التأنق أيما تنافس ويطمحون إلى أن تختار مواضيعهم الإنشائية التي كانت بالفعل إنشائية لتقرأ في الفصول الدراسية أمام زملائهم للظفر بتقريظ المدرسين لها والثناء على أصحابها ، وكان يوم استعراض المواضيع الجيدة يوما مشهودا ،كما كان محفزا للمتعلمين على بذل الجهد للرقي بمستويات تعابيرهم الكتابية ، كما كان ثناء المدرسين على المتعلمين الذين يحسنون التعبير الشفوي مصدر تشجيع لغيرهم ، وسبب تنافس شديد بينهم .

وخلف من بعد جيل التأنق في التعبير الشفوي والكتابي خلف أضاع التعبير ، ورانت على أساليبه الكتابية والشفوية الركاكة والعجمة ، وصار الواحد منهم لا ينطلق بكلمة أو كلمتين بالفصحى حتى ينزلق لسانه إلى العامية أو  يطلب من مدرسه أن يسمح له بإيصال ما يجول في ذهنه أو خاطره بالعامية لأنه لا يستطيع ذلك بالفصحى ، علما بأن التوجيهات التربوية الرسمية لتدريس اللغة العربية لم تكن تسمح باستعمال العامية في حصص هذه المادة بحيث لا يكاد لسان متعلم يزل بلفظة عامية حتى يوقفه المدرس تماما كما يوقفه حين يرتكب خطأ في النحو أو الصرف ، وقد يتعرض صاحب هذه العثرة إلى سخرية زملائه الذين يضج الفصل بضحكاتهم  حين لا يفصح بالفصحى .

 وسنة بعد أخرى بدأت الكلمات والتعابير العامية تزحف على الفصحى داخل الفصول الدراسية وتضايقها حتى بلغ الأمر حد حشوها في المواضيع الإنشائية للمتعلمين ، وصارت موضوع تندر المصححين حين يصححون  مواضيع امتحانات  المتعلمين حتى في أعلى المستويات الدراسية  بما في ذلك المستويات الإشهادية .ولعل هذا هو الذي أغرى دعاة إحلال العامية محل الفصحى في التدريس وصادف هوى نفوسهم ، واقترحوا أنفسهم  أمام خلو الساحة التربوية أو إخلاءها المتعمد من المصلحين الحقيقيين كدعاة إصلاح المنظومة التربوية وما ينبغي لهم ذلك وما يستطيعون إن هم إلا يظنون أو يحلمون .

وعلى الوزارة الوصية أن تكوّن على الفور لجنة لا يكون ضمنها إلا مشهود له بالباع الطويل في الفصحى وفي علوم آلتها وفنون أساليبها للإشراف على مراجعة شاملة لكل الكتب المدرسية الخاصة باللغة العربية في كل المستويات ، ولا يسمح إلا بنشر نصوص كبار الكتاب والشعراء القدامى والمحدثين لترويض ألسنة الناشئة المتعلمة على الأساليب العربية الراقية المهذبة لألسنتهم وأذواقهم .

وعوض أن تهدد الوزارة بمقاضاة من ينتقد الإسفاف في نصوص الكتب المدرسية يجدر بها أن تحاسب الذين كانوا وراء هذا الإسفاف المفسد لألسنة الناشئة ولتعابيرهم الكتابية والشفهية .

ولا يخفى على الوزارة أن العامية تتكلمها  هذه الناشئة بطلاقة ، وتستعملها في لغتها اليومية ، ولا حاجة لها بها في التعلم ، ولا داعي لمزاحمتها الفصحى إذا ما كان الهدف الذي وضعته الوزارة هو التدريس بالفصحى واعتمادها كلغة تدريس مختلف المواد الدراسية إلى جانب لغات أجنبية ناقلة للمعارف والعلوم  لتنقلها عناه الفصحى  ونصل إلى مرحلة التعريب الشامل الذي يكسبنا الاستقلال عن التبعية لغيرنا ، ويمهد السبل للاختراع والإبداع كما هو حال باقي الشعوب التي تعتمد لغاتها في التدريس والتي ارتقت بلغاتها إلى مستوى اللغات التي توصف بالعالمية ، وتستأثر بنقل العلوم والمعارف .

وعلى الدولة المغربية أن تحاسب أصحاب دعوات إدراج العامية في التعليم وقد أقاموا على أنفسهم ما يكفي من الحجج دامغة مصورة ومسموعة  والتي تكشف عن انحرافاتهم الصارخة أخلاقيا وفكريا عوض تهديد من يفضحهم عن طريق التلويح  بقوانين تحمي أصحاب تلك الانحرفات ، وتدين شرفاء هذه الأمة من مختلف الفئات .

وعلى الدولة ألا يغيب عنها أن دستور البلاد وهو أعلى قانون استفتي على إقراره الشعب  صاحب أعلى سلطة يضمن صيانة لغة الدولة الرسمية ويحميها من عبث العابثين من ذوي النوايا والطوايا السيئة .

وسوم: العدد 789