لماذا هاجم السيسي «الإسلام السياسي» من الصين؟

لو فعلها من قصر القبة أو من قصر عابدين، أو من مقر الكلية الحربية مثلا، أو من أي مكان آخر في مصر لبدت حركة روتينية غير جديرة بالاهتمام ولرآها الكثيرون مجرد بصمة شخصية لصقت بالجنرال المصري، ولم يعد قادرا على التخلي عنها، أوعلى تقديم بنفسه من دونها. 

لكن قذائف عبد الفتاح السيسي الكلامية لم تطلق هذه المرة من داخل مصر، بل من بلد آخر تفصله عنها آلاف الأميال ولم يتوجه بها لجمهوره الأثير من المدنيين والعسكريين الذين خبروا التصفيق له في الشاردة والواردة، بل لجمهور آخر قد لا يفهم كلماته، لكنه يعي الهدف المراد منها جيدا. ولعل ذلك ما جعل هجومه الاخير على ما وصفه بـ»الاسلام السياسي» أكثر من مجرد حدث عابر. فقد كان بمقدوره أن يكتفي في زيارته الرسمية للصين، أوائل الشهر الجاري بالحد الأدنى من العبارات التقليدية، التي يشكر بها الزوار عادة مستقبليهم في الدول الأجنبية، ويعبر مثلا عن امتنانه العميق وسعادته بوجوده فيها، وعزمه الراسخ على تعزيز العلاقات المشتركة معها. ولكنه فضل أن يسير أبعد من ذلك واختار عن قصد أن يتعدى حدود المجاملة الدبلوماسية التقليدية لمضيفيه، ليهاجم من قلب أكاديمية الحزب الشيوعي بالذات عدوا لدودا لا يزال يقض مضجعه، رغم كل القمع والبطش الذي سلطه عليه على مدى السنوات الأخيرة، ويقول نقلا عن مصادر إخبارية «إن الفراغ الذي أفرزته ثورات الربيع العربي تم ملؤه من قبل بعض التيارات الدينية المعروفة بالاسلام السياسي، سعت الى استغلال الفرصة للوصول الى الحكم وتولي السلطة، بدون اكتراث منها بأهمية الحفاظ على الدولة الوطنية أو سقوطها، وبفهم خاطئ لحقيقة الواقع الذي تعيشه المنطقة وشعوبها ولمفهوم الدولة». 

ولانه لم يكن هناك ادنى شك في ان يكون كلامه من وحي اللحظة، أو من محض الصدفة، أو ان يكون اختياره للمكان الذي القاه فيه، وهو مقر الاكاديمية الصينية للحزب الشيوعي، بالامر الاعتباطي، فإن الغاية من اطلاقه مثل تلك التصريحات من بكين، وليس من اي عاصمة اخرى في العالم ومخاطبة الصينيين بتلك اللغة بالذات، لم تكن خافية أيضا، رغم كل الحديث عن المشاريع التنموية العملاقة التي يعتزم الجانب الصيني القيام بها في مصر، بعد أن صارت بحسب ابواق النظام، بلدا آمنا ومستقرا ومناسبا للاستثمار.

ولكن تلك الوعود الاقتصادية الجذابة لم تكن في الواقع سوى واجهة أمامية لعلاقة استخباراتية وامنية مريبة، تقوت وتوسعت بين الطرفين، تحت قاسم مشترك هو، هوسهما وضيقهما بأي نفس أو صوت معارض، ورغبتهما في اسكات اي شكل من اشكال التنوع والاختلاف داخل بلديهما.ولعل ذلك هو الاساس الفعلي الذي تقوم عليه الروابط بين العاصمتين، عكس ما يقال دائما من ان المصالح التجارية والاقتصادية الصرفة هي وحدها التي تقود الصينيين نحو القاهرة، بدون أي غايات أو اهداف سياسية محددة. فكلا النظامين لا يحتملان الديمقراطية، ويشعران بخوف حقيقي من تأثير الدين على مستقبل سلالتهما الحاكمة الحزبية في الصين والعسكرية في مصر. 

وإذا كان السيسي قد انقلب على رئيس شرعي منتخب، وسفك الدماء في رابعة والنهضة وغيرهما، وزج بالآلاف في المعتقلات، وحوّل مصر الى سجن كبير ومخيف، فإن سجل بكين يحفل ايضا بالقمع الوحشي للمعارضين، أو لمن يشتبه في معارضتهم للحزب الشيوعي، ولعل ما فعلته السلطات قبل ما يناهز الثلاثين عاما من الآن للرد على مظاهرات ساحة تيانانمان والتي عرفت حينها بالربيع الصيني ما يزال ماثلا في الاذهان، فضلا عما الحقته بالتيبت من خراب واستعمار ومحاولة اخضاع بالقوة، لمجرد أنها أرادت الحفاظ على خصوصيتها وما تستمر في شنه على المسلمين من حرب استئصال فاشستية، وصلت حد إقرار حظر رسمي على إعفاء اللحى ومنع الحجاب ومصادرة المصاحف، وإصدار قرارات بمنع الصلاة والصوم، ووضع السكان داخل معسكرات اعتقال تحت مسمى اعادة التأهيل. 

إن كل ذلك لم يكن غائبا عن ذهن السيسي وهو يزور بكين ثم وهو يدخل مقر الاكاديمية الشيوعية. ولاجل ذلك فقد كان حديثه عن الربيع العربي، ثم عن التيارات الدينية، إشارة قوية الى ما يجمعه بالنظام الصيني. فهو ومن ورائه المؤسسة العسكرية في مصر لم يكونا قادرين على العيش مع الربيع، بوجود تيارات دينية، أو حتى من دون وجودها مثلما لم يكن قادة الحزب الشيوعي قادرين على العيش مع ربيعهم، سواء ببقاء حزبهم في السلطة أو تراجعه وتقلص قبضته الحديدية، ولكن تلك التيارات أو ما وصفها السيسي بجماعات الاسلام السياسي، لم تكن سوى الحجة والمبرر لافتكاك السلطة، والبطش بالمعارضين، بدعوى الحفاظ على الدولة الوطنية من الانهيار، وهو التفسير ذاته الذي يقدمه الصينيون كلما سألوا عن القمع الذي يمارسونه على سكان التيبت، أو على المسلمين في تركستان الشرقية، ومناطق اخرى. ولكن هل يعني ذلك أن الأمر يتعلق فقط بحالة من التجانس الشكلي والظرفي بين الجانبين المصري والصيني في طرق التعامل مع خصومهما السياسيين؟ أم أننا أمام تحالف وتنسيق حقيقي بين نظامين لا يحترمان ارادة شعبيهما ولا يكترثان بتاتا لاي حقوق آدمية؟ 

إن نظرنا سريعا للموقف الصيني من انقلاب السيسي فسوف نلاحظ بسهولة كيف ان الصينيين لم يترددوا في الوقوف معه منذ اليوم الاول لإطاحته الرئيس الشرعي، تحت مبرر أن ما جرى في مصر كان شأنا داخليا ينبغي عدم التدخل فيه، ولم يكن من الوارد بالطبع ان يصدر عن بكين لاحقا، أي تعبير عن القلق أو الانشغال لما آلت إليه أوضاع الحريات وحقوق الانسان في عهد الجنرال. وهذا أمر قد يكون مفهوما بالنظر لطبيعة النظام الصيني الذي لم يسبق له ان تعامل مع مثل ذلك الملف، بدون الكثير من الحذر والتحفظ، ربما وفاء للحكمة التي تقول من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجر، ولكن مثل ذلك الدعم لم يكن صكا على بياض، ولم يعكس نوعا من العداء الاعمى للاخوان، الذين حرصوا في عهد الرئيس مرسي على دعم الروابط الاقتصادية بالصين، بل كان لغاية الحصول فضلا عن المكاسب التجارية والاقتصادية على مكاسب سياسية وأمنية. ولان البلدين يضربان ستارا حديديا على الاعلام، فليس باستطاعة احد ان يفهم سر تواتر زيارة الوفود الامنية والعسكرية الصينية الى القاهرة في السنوات الاخيرة، بنسق ماراثوني. غير ان حملة الاعتقالات التي شنتها السلطات المصرية العام الماضي في حق عشرات الطلبة المسلمين الايغور الذين جاؤوا لمتابعة تعليمهم في الازهر، قد تكون واحدة من ثمرات تعاونهما الذي لا مكان فيه لأي اعتبارات اخرى غير مصلحتهما في سحق أي نفس مخالف، حفاظا على حكميهما الشمولي، وهي تعطي الدليل ايضا على ان الجنرال المصري مستعد لأن يفعل أي شيء في سبيل الحفاظ على كرسيه، حتى لو تطلب الامر منه أن يشعل من مقر الاكاديمية الشيوعية بالذات حربا مزلزلة على طواحين الهواء. 

وسوم: العدد 789