العلمانية كبديل 1 (دلالة المفهوم)
مبتدأ:
ما الذي يمكن أن يضيفه الكاتب بعد قرن كامل من الجدل في بيئتنا العربية حول العلمانية، حيث يلتفت يمنة ويسرة وإذا بأكوام من الكتب والدراسات تتناثر على ضفتي الجدل القديم الحديث، وكنت أتصور أن الناس تجاوزوا هذا الجدل وتقدموا خطوة باتجاه تحقيق التحول الديمقراطي، وكسر احتكار الأقليات الفاسدة للحكم، غير أن الجدل المثار استلزم التذكير ببدهيات الفكرة العلمانية في ظل موجة جديدة تسعى لإعادة إنتاج المصطلح في قالب إسلامي؛ وهو تمرير متهافت لأن لكل مصطلح حقل دلالي وحمولة تاريخية تحددان ملامحه و معالمه، والقفز على مواضعاته الدلالية ليس من العلمية في شيء، ولا نعرف هذا القفز إلا عند الباطنية قديماً حيث اشتهرت بفصل العلاقة بين الدال والمدلول، أو بعض اتجاهات الهيرمينوطيقا حديثاً إذ دعت القارئ لتركيب المعنى الذي يريد، بدعوى موت الكاتب!
وسأحاول في حلقات متتابعة أن أجيب عن سؤالين، يبتغيا الأول: معرفة ماهية العلمانية والحد الأدنى للمصطلح في حقله التداولي. ويهتم الثاني بمقاربة تاريخية وفلسفية حول جدوى المنظور العلماني لمنطقتنا الإسلامية، وهي محاولة أرجو أن تسهم في تقديم خلاصة الجدل الدائر منذ قرن حول العلمانية في منطقتنا والذي لا يزال ينبعث من وقت لآخر.
سياق التراكم التاريخي:
كانت الكنيسة المسيحية في أوروبا تتحكم بكل الحقول الحياتية تقريباً، فهي التي تُفسّر تعاليم الرب كما جاءت في الكتب المقدسة، وهي التي تمنح الشرعية للحكام، وهي التي تعتمد التفسير العلمي للظواهر الطبيعية ومن يخرج عن تفسيرها يُرمى بالهرطقة، وهي التي ترسم خطوط الأخلاق التي يسير عليها الناس، ومن ثم فهي التي تمنحهم صكوك الغفران أو تضرب عليهم الحرمان الكنسي، لقد اتشحت رداء الرب وصارت الممثل الوحيد له في الأرض، وقد آل التحكم الكنسي بحياة الأوروبيين إلى جحيم لا يطاق، ففي حرب الثلاثين عاماً بين البروتستانت والكاثوليك (1618م - 1648م) أُبيد الملايين من سكان أوروبا، فألمانيا وحدها خسرت 60% من سكانها ([2])؛ وهذا بدوره شكّل نقطة تحوّل في المنظومة الأوروبية القائمة على هيمنة الكنسي على السياسي. ثم جاءت الإضافة النوعية للفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" (1650م) الذي قعّد لفصل النظر الديني عن النظر العلمي فساهم في سحب الحقل العلمي من تحت هيمنة الكنيسة([4]). وهي رؤية عارضها نيوتن نفسه، غير أن تأثير الفيزياء النيوتنية تجاوزت الحقل الفيزيائي لتلقي بظلالها على بقية الحقول المعرفية الأخرى ويمكن ملاحظة انعكاس هذا التفكير الآلي من زاويتين، الأولى: تعزيز حضور العلم على حساب المنظور الديني الذي فقد بريقه تحت سطوة الكشوف العلمية. والثانية: خصوصية فيزياء نيوتن التي رسّخت النظام الآلي الذاتي للطبيعة، مما أوحى إلى مثقفي أوروبا بحيوية الاستقلال الفكري عن الوحي؛ فالعقل
باتجاه الفصل التام بين الديني والحياتي بشكل كبير([6])، وأسست كتبه لنزع الصبغة الإلهية عن الحاكم، ودعا لفصل الدولة عن الكنيسة. فهو يؤسس للقطيعة مع الدين استناداً إلى الطبيعة الآلية للكون، ومن ثم جاءت نظريته السياسية متسقة مع هذا المنظور الذي يستغني عن الدين ويضع المرجعية العليا للعقل البشري، وتابعه بشكل أكثر حدية "جان جاك روسو" (1778م) إذ يرى أن الأديان شوشت على نقاء الإنسان، ودور العقد الاجتماعي أن يعيده لنقائه، وكان الهمّ الأول "لروسو" أن يعيد الدين إلى حالته الجوانية للفرد، ليحرر السلطة من قبضته في ظل النزاع الشديد بين المذاهب الدينية، فيقول: (لا يمتلك هذا الدين أي إحالة أو صلة بالمجتمع السياسي)([8]).
ولم تقف القطيعة مع الدين عند فهم الطبيعة كما قال "ديكارت" ولا عند السياسة كما نظّر "لوك"، بل امتدت إلى باب الأخلاق؛ فقد نشأ تيار ينادي برفض الأخلاق السائدة التي انبثقت من تراتيل الكنيسة واختيارات المجتمع آنذاك، وتصويرها كقيود لحركة الإنسان، فقد نادى دنيس ديدرو(1784م) برفض الأخلاق النابعة من الدين المنزّل، وآمن بالأخلاق النابعة من فيض القلب بعيداً عن المواضعات الاجتماعية([10])، صحيح أن التنظير للتفلّت الأخلاقي في حقل السياسة قد سبقهم إليه "مكيافيلي" (1527م)، إلا أن التنظير للحرية الأخلاقية الشاملة جاءت متأخرة وأعطت المنظور العلماني دفعة في التحرر من وصايا الدين حتى أثمر تفكك منظومة القيم الاجتماعية، فبلد مثل بريطانيا تصل فيه نسبة المواليد خارج إطار الزواج بحدود 47% في العام 2016م([12]).
وفي قاموس أكسفورد تعرّف العلمانية بأنها: (العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة الدنيا، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى)([14]).
وقد تابع العلمانيون العرب التعريف الغربي فالمفكر العلماني "فؤاد زكريا" (2010م) يرى أن العلمانية (الفصل بين الدين والسياسة)، ومثله "حسن حنفي" الذي يراها (الفصل بين الكنيسة والدولة)([16])، وعن سؤال المرجعية حال غياب المرجعية الدينية، يتفق جميعهم على مرجعية العقل والعقل وحده كما يردد نصر أبو زيد الشعار المعروف: ( لا سلطان على العقل إلا للعقل)([18])، صحيح أن آخرين توقفوا في منتصف الطريق ولم يتابعوا الخطى إلى حيث وصل نيتشه، غير أن التخلّص من مرجعية الوحي في الشأن العام، خطوة خطيرة قد تمهد للتخلص منه في الشأن الخاص.
النتيجة:
نخلص مما سبق إلى أن المذهب العلماني قد بدأ لإيجاد حل للتغول الكنسي ثم استقر على فصل الدين عن الحياة برمتها وليس عن السلطة السياسية فقط، في مسار تدرّجي عرضنا لمعالمه مطلع المقالة، وقد أكد هذه النتيجة جمهرة دارسي العلمانية أمثال عالم الاجتماع الأمريكي "دانيل بل" إذ يرى أن العلمانية قلصت الاقتدار المؤسساتي للدين ودوره باعتباره محوراً للمجتمع، وعلى المستوى الثقافي أضعفت الاعتقاد بالعدل الإلهي(
([2]) من الحركة البروتستانتية إلى العلمانية السياسية، صلاح سالم، صحيفة الحياة 2ديسمبر 2017م، بتصرف يسير. الدين والعلمانية، رفيق عبد السلام، ص33.
([4])العلمانية مذهبًا، محمد تقي سبحاني، ص340.
([6])http://www.al-sabeel.net/tag/%D9%81%D9%88%D9%84%D8%AA%D9%8A%D8%B1/
([8]) المرجع السابق.
([10]) المرجع السابق.
([12]) العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة، عبد الوهاب المسيري، (1/54).
([14]) الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص24وص271 وما بعدها.
([16]) المرجع السابق، ص85.
([18]) هكذا تكلم زرادشت، فريدريك نيتشه، ص309.
([19]) العلمانية مذهباً،ص35.
وسوم: العدد 789