من دروس الربيع العربي 7
الحلقة السابعة
اعتلاءُ بُراق الأمل وإشاعة ثقافة التفاؤل
▪ قبل اندلاع ثورات الربيع العربي كانت الشعوب العربية تعيش كالخُشُب المُسنّدة في دياجير الإحباط الذي وصل ببعض تياراتها إلى حد التلفّع بثياب اليأس والتردّي في خنادق القنوط، حيث تكثر مستنقعات السلبية واللامبالاة، وتصبح البيئة صالحة لنمو وتكاثر سائر الطفيليات والحشرات الضارة، فقد كانت الأوضاع السيئة على كل الصعد تدفع بالناس نحو هذه المنزلقات الخطيرة والتي قد تتسبب في هلاك الناس عندما يصابون بتجلط القنوط، ومن غَزاهُ اليأسُ فقد أصيب بالسّكتة القلبية، وما ينطبق على الأفراد هنا ينطبق على المجتمعات!
▪وعندما اندلعت ثورات الربيع العربي ودخل الشباب إلى ساحات الحرية أفواجاً؛ طرح كثيرون ثياب اليأس وخلعوا جلابيب الذل، وارتدوا بدلا عنها ثياب الأمل والعزة وأردية القوة والإيجابية، فانطمرت الكثير من مظاهر السلبية وظهرت تلك الفعاليات الجماهيرية المنظمة بتلك الصور الانسيابية وبذلك الانسجام الإيجابي الذي لفت الأنظار واستعى الإعجاب من كثير من شعوب العالم، رغم التعدد الوفير والاتساع العريض للمشاركين ورغم ميراث الاختلاف الكبير إلى حد التناقض وتسيّد قيم الصراع.
▪لقد كان الأمل الذي تفتحت أزهاره في قلوب الناس هو الذي منحهم مشاعر القوة، ووهبهم القدرة على اجتراح العجائب وتسطير الصحائف بالبطولات، وبهذه المشاعر المفعمة بالأمل انطلقت الجماهير إلى ساحات العمل النضالي البَنّاء والجهاد السلمي الأبيض، فاتَّجَهَ الشباب نحو ركوب الأخطار بدون مبالاة، وذهبوا إلى مواجهة الخطوب بصدور عارية، وظهرت نماذج رائعة في الشجاعة والإقدام وبرزت أمثلة باذخة في التضحية والبسالة، فلقد كان الأمل هو حادي الشباب في مواجهة مشاريع الموت وأسلحة الفَتْك بكل ثبات ورباطة جأش، وكان دافعاً للأمهات اللاتي بذلن فلذات أكبادهن دون أن تهتز لكثير منهن شعرة، حتى أن بعضهن كُنّ يستقبلن جثث أولادهن بالتهليل والتكبير، وبفضل الأمل بغد أفضل حوّلت النساء مآتم الموت إلى أعراس شهادة، عبر الزغاريد وتوزيع الحلويات ورفض قبول التعازي!
▪إن الأمل هو الذي ينفخ في جثث اليائسين الروح فتدبّ فيها الحياة من جديد، ليعيدها غضّة طرية تكتنز دماء العافية وتمتلئ بمشاعر الحيوية، وكأن الأمل هو (قميص يوسف) الذي ترتد به الأعينُ العمياء بصيرةً، وكأنه (عصا موسى) التي تُضرب بها القلوب الصخرية الصماء فتنبجس منها إرادة الحياة وتسيل من شغافها طاقة المرابطة والمجاهدة والمصابرة، وتروي شتائل القوة والإباء وتسقي فسائل العزائم الصلبة والإرادات التي لا تُقهر!
▪لقد نجحت الثورات المضادة في الانقلاب على نجوم الحرية وفي إعادة الكثير من أوضاع الاستبداد والفساد كما كانت قبل انطلاق شرارة الربيع، بل وأعادت بعض البلدان إلى أسوأ مما كانت عليه من قبل، حتى أن بعض الناس صاروا يترحمون على تلك الأوضاع التي ثاروا ضدها، بعد أن رأوا أصنام الاستبداد تعود إلى أماكنها وبجانبها أوثان جديدة وتَحفُّها طقوس عبودية لم تُعهد من قبل!
▪وإذا كانت خلايا الفتن ومجاميع المؤامرة قد نجحت في تسويد حياة الشعوب، بمصادرة حرياتها وتكميم أفواهها، وبتأميم أموالها واغتصاب حقوقها، فإنها لا ينبغي أن تنجح بتاتاً في مصادرة الأمل بالغد الأجمل ولا يصح أن تستلب التفاؤل بالقادم المنشود، فإن الأيام دُوَل والبقاء دوماً للأصلح والأفضل، بهذا نطقت آيات الكتاب المبين وبه شهدت آيات الأنفس والآفاق، وإليه انحازت سنن الله التي لا تحابي أحدا ولا تتخلف أو تتبدل في زمن.
▪لقد أظهر الربيع العربي أن أنظمة الضيم والجور ليست سوى ممالك عنكبوتية، فقد صُنعت إمارات من ورق وجمهوريات من صفيح، وأن زعماء القهر ليسوا أكثر من أسُود في مفرشة، وأثبتت أن رياح الحرية عندما تهب من سفوح الشعوب فإنها تستطيع اقتلاع قلاع الظلم، والعصف بحصون الفساد، وأن لا أحد يمكنه الوقوف في طريق الجماهير أو السير عكس تيار الكرامة الهادر، وأن طيور الأحرار عندما ترتدي جَناحَي الحرية والإرادة فإنها تصير طيراً أبابيل سرعان ما تحيل الطغاة البغاة إلى عصف مأكول، وأثبت هذا الربيع بجلاء أن الدنيا كلها لا تستطيع وقف كتائب الأحرار وأنه لا يمكن لأحد أن يأتيهم إلا من داخلهم!!
▪لقد أصيبت بعض الجماهير بالإحباط نتيجة مآلات الثورات التي جاء بها الربيع العربي، وذلك بعد تكالب الأعداء عليها من كل جهة واتجاه، مما يستدعي تحصين الشعوب بالوعي وتسليحها بالأمل، وإشاعة ثقافة التفاؤل في أوساطها، فإن اليأس موتٌ أسوَد، والقنوط رياح صرصر يمكن أن تأتي على فاعليات الناس من جذورها وترميهم كالأشجار المقلوعة في قارعة الطريق!
▪إن المتدبر لآيات الكتاب المسطور سيجد أن الفرج يعقب الشدة، وأن اليُسر يتبع العُسر، وأن المنح تولد من أرحام المحن، وأن النعم تخرج من بطون النقم، وأن الكثير من المزايا قد تكمن في دواخل الرزايا، فإن يوسف عليه السلام قد انطلق إلى أنوار القصر من ظلمات السجن، وبعد أن كان يُؤوّل للناس رؤاهم صار يصنع لهم أقدارهم ويتحكم بمصائرهم، وعلّمنا القرآن أن موسى الذي خرج خائفاً يترقب عاد مسلحاً بعصا ربانية استطاعت بإذن الله أن تبتلع كل عصي وأحابيل فرعون، وجرّته نحو مصيره المحتوم تحت أمواج البحر بعد أن تكبّر وافتخر بأن الأنهار تجري من تحته! وقد علّمنا القرآن بأن الإيمان إن توفّر فإنه يصير جسراً يربط بين عالم الغيب وعالم الشهادة، بمعنى أن المؤمن لا يحسب الأمور دوماً وفقاً لقوانين عالم الشهادة وحدها، فإن مالك هذا الكون هو من يمتلك القدرة على أن يقول للشيئ كن فيكون، فهو الذي أنقذ إبراهيم من قلب النار دون أن يمسه أذى، وأخرج يونس من بطن الحوت سليماً معافى، وفي المقابل هو الذي أحال ماء الحياة إلى طاقة موت عندما أغرق قوم نوح مستثنياً رسوله ومن معه من المؤمنين، وخسف بأصحاب المؤتفكات دون نبيه لوط، وظل يكرر سننه هذه في مختلف الأزمنة والأمكنة!
▪ومن يتأمل آيات الكتاب المنظور سيجد أن الأمل شمس لا تغيب في أحلك الظروف، فإن اشتداد الظلام في السَّحَر هو علامة انبلاج الفجر وسفور الصبح الذي تشع ضياؤه على العالمين فيخلصهم من ظلمات الليل، ومن رحم الشتاء القاتم يولد الربيع الضاحك الذي تبتسم فيه النباتات وتتفتح الأزهار وتغرد الطيور وتترنم الكثير من الكائنات بأغاني البهجة بعد بيات شتوي طويل أو معاناة شديدة من شدة القَرّ وقلة الموارد وندرة الطعام، وأن الشمس حينما تكسف فإن ذلك لا يعني موت الضياء ونهاية الحياة!
▪إن من يفقد الأمل إنما يُفرّط بحياته، ومن أراد أن يرى ميتا يسير على قدمين فلينظر إلى إنسان يائس، فإنه حينئذ يقتات إحباطاته وقد يذبح نفسه بسِكّين قنوطه، ومن كانت حالته هذه فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يعيش كلاًّ على مولاه وأينما يوجهه لا يأتي بخير، ولقد وصف الله المنافقين بأنهم أموات ولكن لا يشعرون، ولو تتبعنا مسيرة من انتقلوا من بساتين الإيمان إلى حظائر النفاق؛ سنجد بأن فقدان الأمل هو أحد أبرز المسؤولين عن هذا التحول الخطير والقاتل في مسيرتهم!
▪إن مقصد الشرع ومنطق العقل يحثان على بقاء جذوة الأمل متقدة، مهما طمرها رماد الظلم والفساد ومهما ساءت الأحوال واغْبَرّت الأيام، وذلك من أجل أن تتقد هذه الجذوة من جديد وبسرعة، وذلك عندما تَهُبّ رياح الأقدار التي تسير بأمر ربها، والذي اقتضت مشيئته وقضت حكمته بأن يُمحص عباده ويبتلي خَلْقه؛ حتى يتبيّن الصالح من الطالح ويمتاز أهل الخير عن أصحاب الشر.
وسوم: العدد 790